ظلت ليبيا منذ انفراط تجربة (النظرية العالمية الثالثة) التي تبناها العقيد معمر القذافي على أمل أن يصل بالمجتمع الليبي في نهاية الأمر إلى شكل من أشكال الديمقراطية المباشرة أطلق عليه إسم (سلطة الشعب) عبر نظام يسمى (بالمؤتمرات الشعبية الأساسية)، وصولا إلى حلمه بمفهوم (الجماهيرية العربية الشعبية الاشتراكية) ذلك الحلم الذي أطلقه على إسم البلاد حتى انتهاء حكمه في 2011... ويتفق الجميع أنّ ليبيا بعد القذافي، شهدت حرباً بالوكالة غذاها الانقسام السياسي والصدع الإيديولوجي في صفوف القوى والنخب الليبية المأزومة، لأن "الثورة" ضد "ثورة الفاتح" كانت كارثة قوضت سنوات من الاستقرار وجعلت الدخان الأسود سيد الموقف حتى الآن.
لقد عانى المجتمع الليبي وبعض شرائحه الأكثر فقراً وتهميشاً من اغتراب كبير في المستويين الاقتصادي والاجتماعي لوجوده. فمن جهة، كان العامل الاقتصادي ارتكاسياً متراجعاً، وسلبياً بانعكاساته على واقع الفرد الليبي، وبخاصة بعد مجيء حكومات انتقالية متعاقبة خلّفَت وراءها تراكمات وتناقضات اجتماعية عميقة بسبب السياسات الاقتصادية والقرارات الارتجالية التي انتهجتها بعد العام 2011، لقد خسر الشعب الليبي أعواماً من التنمية والنمو الاقتصادي والتراكم الرأسمالي في مستويات التعليم والصحة والعمل، بسبب تعرض القطاعات الإنتاجية للدمار الكبير، وأصيب الاقتصاد بعجز الميزان التجاري، وارتفاع معدل البطالة والدين العام من الناتج المحلي الإجمالي، بسبب الأعمال الإرهابية. وما حصل هو أن هذه الأحداث دفعت بشريحة كبيرة من الليبيين إلى حافة الإفقار، حتى بات قطاع واسع من الليبيين يرى في وطنه غربة حقيقية تفصل بينه وبين انتمائه لهذا الوطن، وهذا ما ساعد بتشكيل وعي سياسي "مشّوَّه" وجَدَ في التوظيف السياسي الخارجي له مرتعاً ينهل منه ويحقق فيه ذاته المهزومة في وطنه الحقيقي.
تزامن ذلك كله مع انزياحات عميقة وانحسار في مفهوم الهوية والوطن، والانتماء الأول والولاء للهوية الوطنية الجامعة، وهذا ما انعكس في تشكيل وعي انهزامي لدى هذه الشرائح شكّلَّ بيئة حاضنة لحالة انعزالية عن مفهوم الدولة ورعايتها وأبويّتها، ما جعل بعض هؤلاء الناس في حالة بحث عن ولاء آخر يجدون فيه ضالتهم، فكان العامل الخارجي ومشاريع الانتماءات ما قبل الوطنية والتي بدأت بتشكيل حدود هذه الشرائح وتطلعاتها التي أضاعت علاقتها مع الدولة التي تنتمي إليها، ولذلك كانت فريسة للمشاريع الخارجية التي اخترقت المجتمع الليبي وتحديداً منها، المشروع الأخواني المدعوم بطاقاته وأمواله الكبيرة التي يضخها في هذه البيئات، وتعتبر البيئات العائلية والعشائرية المناطقية هي حواضن طبيعية لهكذا مشاريع تتناقض مع الانتماء الوطني الجامع وتدحضه! والسؤال: ما الذي يمكن أن تفعله حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية الجديدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة لتدارك التدهور الاقتصادي والحد منه...؟
هنا تحضر مسؤولية الحكومة الانتقالية الجديدة، في مواجهة تداعيات الأزمات الناجمة عن حرب العشر سنوات الماضية، بحيث يجب أن يركزّ البرنامج السياسي لحكومة "الدبيبة" على خريطة طريق للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، ولبناء ليبيا الجديدة على قاعدة أصالة الشعب الليبي واعتماد الشفافية والصدقية والمسؤولية، وهذه المرحلة تحتاج مسؤولين لديهم الخبرات، والكفاءات، وأن يتحلوا بالحكمة لاتخاذ القرارات الواقعية، والشجاعة وبالإمكانات المتوافرة لأن الشجاعة، والحكمة، والواقعية، والخبرة، تشكل المتطلبات الرئيسية لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة "عبد الحميد الدبيبة"، لمواجهة تداعيات الأزمات… بالمقابل يجب على الأشخاص الذين تناط بهم المسؤوليات أن يمتلكوا القدرة على التحمل، والانضباط، والإحساس العالي بالمسؤولية في تطبيق القوانين والأنظمة، والتعامل مع المواطنين بصدق وشفافية، وعدم التهرب من المسؤولية.
ومن المسلمات المعروفة أنه، في الأزمات، لا وقت للتعلم والتجريب… ويجب أن يتمتع المسؤول الحكومي بالقدرة على المبادرة في ظروف الأزمة… وأن يصار لتعيين الكوادر الخبيرة في مواقع المسؤولية، والاستفادة من الخبرات الوطنية ذات الكفاءات العالية لإشراكهم في معركة حماية ليبيا… في الفترة الانتقالية الجديدة التي تعيشها ليبيا، المطلوب من الحكومة الجديدة، التدخل ومواجهة ظواهر مخالفة القانون، والاستهتار، والفساد، وتطبيق المحاسبة… ولا يجوز الاعتماد على عشوائية آليات السوق ونترك تقلبات أداء السوق تعصف هنا وهناك…
ونسأل ونتمنى مع المواطن العادي: أن تكونَ الإدارة الحكومية المسؤولة عن السياسة المالية والنقدية قد قامت، ضمن الإمكانات المتوافرة، بالتدخل الايجابي بالأسلوب بـالمناسب لوقف انخفاض القوة الشرائية للدينار الليبي، ونأمل، مع المواطن العادي أن يؤدي التدخل الحكومي، للاستقرار النسبي لسعر صرف الدينار في الفترة القادمة…، وأن ينعكس ذلك انخفاضاً في أسعار المواد الأساسية… وأرى هنا أن المسؤولية الوطنية تتطلب منا أن نقدم وجهة نظر تتضمن بعض المقترحات التي نأمل أن تساعد في تعزيز وتفعيل التدخل الايجابي للحكومة الجديدة، لتعويض الضعف والتقصير والترهل في مواقع المسؤولية الحكومية… وبالتالي تعزيز دور الحكومة لمواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تعيشها ليبيا، ويكتوي بنيرانها المواطن الليبي:
أولاً- تشكيل (خلية أزمة اقتصادية) مركزية تتبع لجهة عليا في الدولة تضم مسؤولين وفعاليات اقتصادية ومنظمات أهلية وخبراء… تقدم المقترحات لتفعيل تدخل الدولة لمواجهة التحديات الاقتصادية للأزمة...
ثانياً- من الضروري أن تخرج الحكومة الجديدة، بسياساتها وإجراءاتها الاقتصادية والمالية والضريبية والنقدية عن الأساليب التقليدية… لتواكبَ ظروف الأزمات التي أنتجتها سنوات الحرب.
ثالثاً- ترشيد التدخل الإيجابي للحكومة في ملف المساعدات والإغاثة… ونقترح إحداث (لجنة عليا للإغاثة) لتنظيم وضبط هذا الملف اقتصادياً واجتماعياً.
رابعاً- أن تتدخل الجهات المعنية لوضع آليات مناسبة، وحازمة لضبط الارتفاع الكبير جداً في أسعار السلع في الأسواق… التي بات المواطن الليبي يعاني الأمرين من تداعياتها.
خامساً- استخدام أدوات السياسة المالية، وبخاصة الضريبية منها، لتطول الأرباح الكبيرة التي تحققها بعض الفعاليات في ظروف الأزمة… والتخفيف، ما أمكن، على أصحاب الدخل المحدود الذين يعانون كثيراً من ظروف الأزمة… وقد يكون من المفيد التفكير في استخدام سندات الخزينة الحكومية بأسعار فائدة مرتفعة…
سادساً- استخدام كل أدوات السياسة النقدية، سعر الفائدة، سعر الخصم، وأيضاً أخذ مصرف ليبيا المركزي لدوره في الرقابة على الأسعار، وضبط التضخم، وليس فقط الاكتفاء بالتركيز على سعر صرف الدينار.
سابعاً- من الضروري أن يكون التدخل الإيجابي للحكومة الجديدة في ضبط سعر صرف العملة الوطنية عبر المؤسسات المعنية… وأن يكون تدخل مصرف ليبيا المركزي مدروساً وواقعياً، وألا يكون التدخل مؤقتاً، ونتيجة ردات فعل لظروف عارضة… من خلال بيع القطع الأجنبي للمصارف الوطنية (العامة، والخاصة) لتغطية المستودعات وفقاً لأولويات الحاجات الوطنية… وأن يؤدي هذا التدخل إلى خفض مناسب لارتفاع أسعار السلع وبخاصة الأساسية منها لحياة المواطن... كما يجب الحد من دور شركات الصرافة في المضاربات…
ثامناً- توجيه الإدارات الحكومية المعنية باتخاذ الإجراءات اللازمة للتحكم بقوى الطلب والعرض على القطع الأجنبي، بحيث يتم ترشيد الطلب على القطع الأجنبي من خلال وضع أولويات للمواد المطلوب تمويلها حسب ضرورتها للمواطن، وأن يتم حصر تعامل التجار مع المصارف المرخصة في ليبيا.
تاسعاً- العمل على تشجيع وتعزيز القدرات الإنتاجية للاقتصاد الوطني (زراعة، صناعة…) واتخاذ إجراءات جادة لتشجيع الصادرات، والتصدي لعمليات المضاربات الضارة بالاقتصاد الوطني الليبي.
عاشراً- اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان التنسيق بين أدوات السياسة المالية، وأدوات السياسة النقدية لمواجهة الصعوبات المالية والنقدية التي سببتها سنوات الحرب.
إن التدخل الإيجابي للحكومة الجديدة، مسؤولية وطنية يجب أن يكون واقعياً، فاعلاً، ومؤثراً، وعلى مستوى مواجهة التداعيات الاقتصادية، والاجتماعية… للأزمات في زمن ما بعد الحرب.
خلاصة الكلام: لقد أثبتت التجربة والأزمات التي تعرضت لها ليبيا، أنها قادرة على مواجهة مشكلات أكثر حدة، من خلال إيجاد نمط إنمائي جديد، يتفق وظروف البلاد، والمسألة لا تنحصر في الاقتصاد وتأمين المواد الأساسية في السوق...، إنما ترتبط ارتباطا وثيقاً في اختيار من هم أهل لمواجهة الأزمات، لهذا لابد من صياغة رؤية بعيدة المدى لليبيا، كجزء من عقد اجتماعي جديد... تُبنى فيها العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجديدة بعضها إلى جانب بعضها الآخر كبنيان مرصوص، وتُحدّد الأدوار المنوطة بكلّ من مؤسسات الدولة ومؤسّسات المجتمع، ويُعطى من خلالها لكلّ ذي حقّ حقّه!
كاتب صحفي من المغرب.