تمر على ليبيا هذه الأيام الذكرى الخمسون من "ثورة الفاتح" الذي أطاح فيه العقيد الراحل معمّر القذّافي بالملك السنوسي وأنهى الملكية في البلاد وأعلن الجمهورية ثمّ الجماهيرية حتى العام 2011.
وشهدت عدّة مدن بهذه المناسبة، احتفالات لأنصار النظام السابق، شرقا وغربا وجنوبا، حيث أقيمت الاحتفالات والمسيرات ورفعت الأعلام والرايات الخضراء وصور العقيد معمّر القذّافي ونجله سيف الإسلام .
وبهذه المناسبة، نشر موقع "ذا وير" الهندي مقالا للمحل السياسي الباكستاني رازا نعيم حول ثورة الفاتح مع حلول الذكرى الخمسين لها. وقال نعيم -في مقاله الذي تابعته مجلّة "المرصد" وترجمته-يصادف 1 سبتمبر 2019 الذكرى الخمسين للثورة الليبية ففي عام 1969 عندما كان ضابطا شابا في الجيش الليبي يتمتع بالكاريزما أطاح الرئيس الراحل معمر القذافي بملك ضعيف ومريض يأكل العفن ملكه هو الملك إدريس سنوسي. ولقد نجح الملك في التغلب على الهياج الثوري الذي حدث بعد عام 1952 في العالم العربي -الذي لم يترك سلطانًا أو إمامًا -مما أدى إلى ثورات شعبية في مصر والعراق واليمن والجزائر، إضافة إلى ظهور الأنظمة اليسارية في سوريا ولبنان.
لقد نجا الملك إدريس بسبب مزيج ماهر من الدعم من الولايات المتحدة -كانت لدى ليبيا أكبر قاعدة جوية أمريكية في العالم، وهي ويلس-والقوة الاستعمارية القديمة إيطاليا. وكان الانقلاب العسكري في ليبيا يشبه العديد من الانقلابات الأخرى في جميع أنحاء العالم العربي وكذلك في أمريكا اللاتينية، حيث في ظل غياب يساري ضعيف أو فاسد كان الضباط العسكريون المبتدئين من القوميين -وغالبًا ما يكونون يساريين -هم الذين ساعدوا في التخلص من عملاء الولايات المتحدة الذين ليس لديهم شعبية.
واعتبر القذافي الشاب على الفور خليفة محتمل للزعيم جمال عبد الناصر -قائد الحركة القومية العربية ورئيس مصر-الذي تحمل العبء الأكبر من الانتقام الأمريكي والإسرائيلي والبريطاني والفرنسي طوال الخمسينيات -العدوان الثلاثي 1956-على السويس وحرب 1967-بسبب برنامجه الشعبي المناهض للإمبريالية ودعمه لحق الفلسطينيين في تقرير المصير.
وبدأ القذافي على الفور في تصحيح المسار في ليبيا وعلى وجه التحديد تغير ما جعل مرادفا لدولة عميلة تحت حكم السنوسي. وجرى تفكيك قاعدة ويلوس وهي أكبر قاعدة جوية في الولايات المتحدة وتأميم الممتلكات الإيطالية، فضلاً عن شركات النفط متعددة الجنسيات وتم إعلان التعليم والصحة والسكن مجانًا لليبيين العاديين.
ومنذ أن رأى ليبيا الاستراتيجي الكبير المناهض للاستعمار عمر مختار -المعروف لدى خصومه الإيطاليين باسم "أسد الصحراء" -لم تشهد ليبيا شخصية جذابة وموحدة مثل القذافي. وأعلن القذافي -في إثر بطله عبد الناصر-أن ليبيا دولة اشتراكية وبدأت في تحقيق المثل بعيد المنال للوحدة العربية الذي كان يتمثل في تراجع عدد من العرب من جيله في الحرب العربية الإسرائيلية الكارثية عام 1967، والتي شهدت دعم الولايات المتحدة الجيش الإسرائيلي من أجل إلحاق هزيمة حاسمة بالجيوش العربية المشتركة.
وجعل نفسه يحظى بشعبية بين الجماهير العربية من خلال تبني قضية فلسطين وكذلك بطل حركات التحرر الوطني في جميع أنحاء العالم، من الجيش الجمهوري الايرلندي إلى موروس في الفلبين ؛ ثوار سبتمبر الأسود الذين أطاحوا تقريبًا بالحماية الأمريكية الإسرائيلية للأردن في عام 1970 ثم حكمهم الملك حسين الذي لا يحظى بشعبية، حتى وصلت التعزيزات بقيادة ضابط باكستاني متعطش للدماء العميد ضياء -الذي بعد سبع سنوات فقط استمر في الوحشية على رأس باكستان لمدة 11 عامًا كأسوأ دكتاتور عسكري- لاستعادة الوضع الراهن، وكذلك إيران الثورية وجبهة البوليساريو الذين يقاتلون من أجل وطن مستقل في المغرب.
وفي منطقة تتميز بنفوذ السلاطين والأمراء والعقائد الذين خانوا آمال شعبهم في التحرر من خلال الاشتراك في سلام تمليه الولايات المتحدة وإسرائيل، قدم القذافي نفسًا جديدًا من خلال عدم الوقوف فقط مع الفلسطينيين المحاصرين ولكن للتضامن الدولي مع حركات التحرر الوطني، والتي فازت به برفقة زملائه الناجين فيدل كاسترو من كوبا ونيلسون مانديلا من جنوب إفريقيا.
ومن الواضح أن مثل هذه الأعمال الطنانة بعد موت عبد الناصر بفترة وجيزة مع وفاة المشروع القومي العربي واندثاره، لن تمر دون عقاب. وعاقب الرئيس الأمريكي رونالد ريجان تعنت القذافي بمحاولته الإطاحة به من خلال غارة على طرابلس في عام 1986، والتي نجحت فقط في قتل ابنة القذافي الرضيعة هناء.
مهما كانت الديناميات الدولية لتورط القذافي في كارثة لوكربي عام 1988، فإن قلة من زملائه أو من مواطنيه اعتقدوا في الحقيقة أن قائدهم كان ضالعا في ذلك. لقد رأوا أنها مجرد محاولة أخرى لاستهداف قائدهم العظيم.
ومع ذلك بعد الحادي عشر من سبتمبر مثله مثل الكثير من زملائه السياسيين في جميع أنحاء العالم قرر القذافي أن يتاجر بالملل من أجل الحصول على المزيد من المكافآت الواعدة بالثراء السريع، وتحمل المسؤولية عن لوكربي من أجل تحويل ولائه إلى الغرب ولتكون على "الجانب الأيمن من التاريخ". ونتيجةً لذلك تمت مكافأته بسرعة إعادة التأهيل من زعيم مارق إلى رجل دولة عظيم يستحق زيارات من شخصيات غربية بالإضافة إلى أستاذ مرموق مثل العالم أنتوني جيدينز.
ولم يكن من الضروري حدوث هذا لو أن القذافي استمع أكثر إلى بطله عبد الناصر الذي أعلن ذات مرة في عام 1970 "أنا أحب القذافي. إنه يذكرني بنفسي عندما كنت في ذلك السن". كان سيظل بطلاً لزملائه من الليبيين بالإضافة إلى الآلاف من العرب الذين يعانون من الديكتاتوريات التي تم أكلها من العث في جميع أنحاء المنطقة، وكذلك للثوريين الجدد في ذلك الوقت باللاتينية. لقد ساعدت أمريكا ألا هيوجو تشافيز وإيفو موراليس ورافائيل كوريا وفرناندو لوجو، الذين ساعدت نجاحاتهم الديمقراطية في فنزويلا وبوليفيا والإكوادور وباراجواي في عكس اتجاه المد الليبرالي الجديد في تلك القارة وجعلت ثورة فيدل كاسترو المنعزلة في كوبا ذات صلة مرة أخرى.
لكن ليس معمر القذافي، فقد احتفل بالذكرى الأربعين للثورة الليبية في عام 2009 كزعيم لليبيا العظمى، كان بالتأكيد آخر جيل من القوميين العرب الذين آمنوا بالقومية العربية كأيديولوجية تقدمية حقيقية ومشروع واقعي، حيث أعطى الأمل للملايين وتحرر من اضطهاد الباشا والأمراء والعقائد مثله.
يجب على القائد الكبير لليبيا مؤلف النص الثوري حول فن الحكم والكتاب الأخضر و15 إبداعًا خياليًا أن يعرف بكل تأكيد كلمات زعيم عظيم آخر القديس جوست الذي قال في وقت الثورة الفرنسية كتحذير "أولئك الذين يصنعون نصف الثورة يحفرون قبورهم".
في الواقع بعد عامين فقط في أواخر عام 2011 حصل القذافي على ذوقه الأول في صنع نصف الثورة الليبية عندما تابع انتفاضات الربيع العربي التي بدأت من تونس والقاهرة ثم اجتاح الخليج وحتى المشرق وكان عليه أن يناقش مع استياء شعبه في المنزل. كان بعضنا المناهض للإمبريالية المعاد بناءه في ذلك الوقت قد جادل بأنه على الرغم من كل مساوئه -بما في ذلك تسليم مجموعة من الشيوعيين السودانيين لحليفه، الديكتاتور السوداني جعفر النميري مرة أخرى في عام 1971-، سيكون من الصعب جدًا إزاحته من السلطة من داخل؛ لا يزال الرجل يتمتع بقاعدة اجتماعية في البلاد، على عكس نظرائه في تونس والقاهرة والجزائر وصنعاء وعواصم الخليج.
وهكذا من أجل تشتيت الحماس المعدي في جميع أنحاء العالم العربي نظمت واشنطن وحلفاؤها على عجل حملة قصف الناتو ضد ليبيا القذافي. ثم ألقت طائراتها 40 ألف قنبلة وقتلت 80 ألف ليبي، وبعد ثمانية أشهر قتل القذافي بوحشية. المشهد المذهل لإعدامه العلني الشنيع على أيدي المتمردين الذين يمولهم حلف الناتو في وقت لاحق، حيث قدم في خطاب نادر يخلو من "حقوق الإنسان" بلا خجل، ويعيد النظر بشدة في النفط.
إن الحالة الحالية لليبيا المقسمة فعليًا إلى بلدين -أو ثلاثة-تسيطر عليها ميليشيات متنافسة وتمزقها تدخلات أجنبية من كل من القوى الشرق أوسطية والأوروبية، التي لا شك أنها مدعومة بفرص النفط الواعدة في البلاد، هي بعيدة كل البعد عما كانت عليه ليبيا ذات يوم. وما كانت يمكن أن تصبح عليه -لولا الثورة الليبية التي خرجت عن مسارها وجاءت قبل الأوان-مع أو بدون القذافي.
بين خبر الأمين العام للأمم المتحدة التحذير من اندلاع حرب أهلية كاملة في البلاد وإرسال المراسلين الأجانب الذين أذهلوا بمشهد ميناء بنغازي الذي تم ترميمه حديثًا ، وهو أهم ما يبعث على الرضا ، جاءت أخبار من ليبيا في وقت سابق من هذا عام ، عندما توفي أحمد إبراهيم الفقيه ، أعظم كاتب ليبي في القرن العشرين ، في القاهرة في 30 أبريل عن عمر يناهز 76 عامًا بعد أسابيع قليلة من شن قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر هجومًا على العاصمة للسيطرة عليها من الحكومة الليبية المعترف بها من الأمم المتحدة في طرابلس.
وبالكاد نشر الخبر -ولو كان الفقيه أكثر حظًا أو وُلد في دولة أوروبية لربما أصبح أول ليبي يحصل على جائزة نوبل في الأدب. ولد فقيه في نفس العام الذي ولد فيه القذافي وكان في ذروة القومية العربية في الستينيات من القرن الماضي، حيث نالت رواياته التقدي في جميع أنحاء العالمين العربي والدولي.
تفتح ثلاثية رواياته عن السيرة الذاتية -سأهبك مدينة أخرى، هذه تخوم مملكتي، ونفق تضيئه امرأة واحدة -"لقد مر الوقت ولم يأت وقت آخر"، والجملة الأخيرة من الرواية "لقد مر وقت ولم يأت وقت آخر ولن يأتي".
يتمنى المرء الآن أن القذافي -الذي كان معجبًا كبيرًا بسلسة الفقيه "خرائط الروح" المكونة من 12 مجلداً حيث كانت صورة المارشال إيتالو بالبو الزعيم الاستعماري الإيطالي لليبيا أكثر إنسانية ومعقولة من الحياة الواقعية للعقيد القذافي التي بنيته عليها-كان قد استجاب لهذا المحامي الحكيم عندما كان الأمر بيده.