في زمن "دولة" الدبيبة، أصبحت حروف جرّ العيش تجر المواطن الليبي، وأباطرة الثراء يتربعون على عروش فجورهم، ولأنهم أصغر من أصغر إنسانية يستأجرون ملامح الأبهات، ويشترون الضمائر، ليلوثوها بالخبث والحضيض، وبعد ذلك يتعاملون معها على أساس صغارهم وصغارها وأساس جرهم وجرها..‏. تفتقر أفعالهم إلى حركات الرفعة وأدوات الضم والفعل المستقبلي الجيد... يتراكمون مع فعل ماضيهم المبني على التخريف والتخريب، ويجرون معهم أفعالاً أخرى وضمائر أخرى وأنوثات أخرى، ويتآمرون على علاقات الضمير بالوجدان بالقناعات...‏ يضربون مستقبل وأخلاق هذه العلاقات بالوسخ الذي جاء مع ثروتهم وبها... ووسخ بعد وسخ يمسي وسخ الثروات سيد المواقف ويعتلي سدة فعل الأمر، ويتآمر على أفعال الرضا وأفعال الآمال والرقة... ويوزع الضمائر على هوى وسخه الفادح...

لا يمر يوم إلا ويردد الشعب الليبي كلمة الأزمة في أيامه وفي أحاديثه العابرة؟ إنها الأزمة... كلمة باتت تختزل سنوات حياته الهاربة و تعنون يومياته المتثائبة وتتحدى أحلامه المتواضعة و تقهر جيوبه البائسة ... إنها أداة شرط لوقف نزف العمر في صقيع ليبي مديد... وظرف زمان لوأد مشاريع صغيرة دب اليأس فيها من كثرة "لو" و "سين وسوف"... وربما يصح إعرابها لغوياً بظرف مكان منصوب بالأحقاد و الأطماع، و علامة نصبه الكسرة الظاهرة على وجوه مهجرين وفقراء مستجدين، و أطفال بلا مقعد ولا حقيبة مدرسية، و أيتام بلا حجر دافئ و لا معيل...

صحيح أن لغتنا العربية وضعت الفعل (كان) في خانة الماضي الناقص، إلا أن يوميات المواطن الليبي  التي يعيشها منحته صفة الديمومة التامة على ألسنته الناطقة بالهموم والمشغولة بالمفاضلة بين أيام زمان وتحديداً الفترة التي ترصد ما قبل عام 2011 والحاضر الممتد منذ أكثر من عشر سنوات إلى الآن، فقد سكن هذا الفعل في أذهان المواطن الليبي وأصبح الأكثر استخداماً في معجم الحياة المعيشية، ويمكن اعتباره ممراً آمناً للهروب من الحاضر "البشع" إلى الماضي الجميل، حيث تمنح هذا المواطن  ذكرياته بعض القوة للصمود في وجه المتغيرات، كما أنّ غالبية الشعب الليبي تستعين به في مواقف لا تعدّ ولا تحصى وتتلذذ بطعم الأيام الجميلة التي يوثقها بأسماء وأخبار تميّز ليبيا عن غيرها من البلدان فقد كانت ليبيا (بلد الفقير) و(بلد الأمن والأمان) و… وكيلا نغرق في الماضي الذي تنكّر له بعضهم وهم في حالة متقدمة من الجنوح والهذيان الفكري والغيبوبة الغريزية الجانحة نحو الإلحاد بالواقع وتشويه الحقائق الواضحة وضوح الشمس، نعرّج إلى واقع ليبيا الآن... ونتسائل بكل هدوء:

ما هذه الأحوال التي وصلت إليها الضمائر في ليبيا؟ ضمير بوسخ !؟ وضمير بخيانة؟ ووجدان برزمة أوراق مالية؟ ووجدان برزمة أوهام؟! وقناعات برواتب وأجور؟! وقناعات مصروفة من الخدمة، بعد أن تم تقنيعها وإقناعها بالوسخ المالي أو بالكذب أو بالخديعة أو بدلال البطر ودلع الوهم؟!‏ من المؤسف أن تصبح الأزمة "لام تعليل" لتبرير تردٍ أخلاقي ونهمٍ ماديٍ أصاب نفوس الشعب الليبي، و طمعٍ تسرب إلى مفهومه للكسب وربما النهب المادي و المعنوي... أو أداة جزم تجيز حذف مساحة الرحمة من قلبه وإسقاط نون الإنسانية من لغته، وهناك من جعل الأزمة في ليبيا لازمة في كلامه لتلوين المفاهيم، وتفصيل ثوب أخلاقي على مقاس جسد مشوه لأزمة.‏‏

في زمن "دولة" الدبيبة، تضخمت "الأنا" و تعملقت أمام "نحن"، و فرضت مقولة "أنا وبعدي الطوفان" نفسها كحكمة تبرر الأنانية والتكالب على المصالح الشخصية، وحلت عبارة "السياسة تجارة ومصالح" كقاعدة يبرمج وفقها تجار الأزمة أرباحهم، والكثيرون رفعوا شعار "إن هبت رياحك فاغتنمها" كسكين حاد يبيح ذبح ذوي الحاجة... لقد ركبوا الأمواج وتسلقوا الأدراج وتاجروا بأزمة الشعب الليبي...‏ وهنا صارت لهم ممرات جانبية إلى أدوات جزم أفعال الضمائر وحركات جر الأنوثات إلى لغو وسخهم ولهجات جوعهم وانحطاط دلالهم؟! بتوجيهات المكر والغدر الأكبر جاعوا ونهبوا ودخلوا إلى محميات الضمائر فأحرقوها ودمروها واستلبوا ما فيها من وجد ووجدان وحنان وإنسان…

الشعب الليبي يتأسف على اللحظة الآفلة... اليوم  صار الهم  أكبر والتفكير بواقعه  أعمق... إذ الحياة ليست هينة، عركت أساريره منذ أكثر من عشر سنوات ولا تزال بتجاربها المرة. ..هي حياة  أرادوها له، فصَّلوها على مقاس أطماعهم... زرعوا في حياته عواصف من القهر... عواصف  هائلة محاولين وأد أحلامه وطمأنينته وأمنه وأمانه، والقضاء على نمائه وارتقائه... الواقع العصيب والمرير يحاصره بضراوته وجبروته وقبحه، يفرض عليه أشياء لا يريدها، ووجوها  لا يحبها...

ماذا بالإمكان بعد الذي كان؟! ما هذه الحكومة التي لا تؤتمن على حلم أو كرامة أو عزة نفس؟! وما هؤلاء المتآمرون كثيراً مع حركات الجر على حركات الرفعة التي يتمتع بها الشعب الليبي... أفكار، وأفكار، تجعل المواطن الليبي يسائل نفسه: ترى هل أنا مطلوب لهذه الحياة؟ ربما جاءت هذه الأفكار مستوحاة من الحاضر الليبي المرتبك الذي يعيش المواطن الليبي تفاصيله، والذي يجعله يدفع فاتورة باهظة من أعصابه وآدميته، هو خوف من هجوم المستقبل المشوه، وهذا مما لا يمكن استبعاده بعد كل ما نراه من ظروف قاهرة يعيشها اليوم... ويقيناً فقد أصبح الشعب الليبي يكفر بالضمائر المنفصلة والمتصلة... وللأسف فالشائع لدى مجتمعاتنا العربية أنّ الضمير يرتبط بالإخلاص والاستقامة والبعد عن الكذب والغشّ في قولهم: (فلان يعمل بضمير) وهذا يعني أنّه ينتمي إلى أقليّة، وإلاّ لما ذيّلوا فعل (يعمل) بكلمة (ضمير) على عكس ما هو متداول في اللغات اليابانية والصينية والألمانية مثلاً، والتي تكتفي بعبارة (يعمل) دون حاجة إلى رشّ (بهارات الضمير) فوقها! و ليسمح لنا النحاة إذن بالجزم، أنّ كل الضمائر في ليبيا منفصلة وليست متّصلة، مستترة... بل وأغلبها غائبة وليست مقدّرة كما ينبغي.

خلاصة الكلام: نقول لكلِّ المقنعين في ليبيا: قد تكون وجوهكم الحقيقية أجمل وأعظم بكثير من هذه الأقنعة المستعارة، التي لا بد آيلة إلى السقوط طال الزمن أم قصر، ولتعلموا أن أجمل الكلام هو الذي لم يقله الشعب الليبي بعد، وأنبل المشاعر هي التي لا تظهر إلا عندما تستدعيه المواقف الجليلة ظهورها، فكل الأشياء العظيمة كانت في بدايتها لحظة ألم، أو بداية هم ثقيل تختلط فيها رغبة الليبي في تغيير نمط حياته وإرادته في صنع مستقبله... و الأهم أن غدا سيشرق، وإذا تساقطت الأوراق من أشجارها، وصارت الأغصان عارية في ليلة حزن خريفية، فغدا يجيء ربيع يعيد للشجرة جمالها وللأغصان خضرتها... وإذا تراكمت على النفس الهموم فإن في الأفق لحظات صفاء تنقشع فيها الغيوم ويعود لسماء ليبيا صفاؤها  وألقها.