مرّة جديدة، أجدني متورّطاً بمحاولات مجهدة في التفسير والتقاط المعنى، مرّة جديدة ترهقني، وأقولها بأسى، ترهقني أشكال التعبير السياسي التي من خلالها نسمع ونرى ونشاهد ما يجري بليبيا، ونعاين سلوكات مختلفة باختلاف من يسلكها. مرّة جديدة أجدني مضطراً للبحث في شكل التعبير السياسي. (لماذا؟) سؤالٌ في الأسباب. (كيف؟) سؤالٌ في اختيار الشكل والطريقة. (ما؟) سؤالٌ في النتائج والأهداف. في ليبيا أسئلة تعاكس أسئلة، اتجاه بنى معاييره في مصطلح ليبيا الأزمة بحيث يلغى بالتدريج مفهوم الوطن الليبي، وتتسلل بالتدريج خيارات الصراع ومشاهد الحرب الأهلية القادمة، ويريدون لهذا المفهوم أن يتجذر بطريقة التوطين، بحيث يتلاشى مفهوم الوطن وتستغرقه حالات توطين الأزمة، إنهم يناورون ويتآمرون لتأجيل الانتخابات أو إلغائها وتمديد أمد الصراع، بحيث يكون الصراع ذاته شذوذاً مزمناً وواقعاً مستقرا،ً وبحيث يصبح الصراع بدمويته هو الإدمان الذي لابد أن يخدر النفوس كلها والعقول كلها.‏ 

والاتجاه الآخر هو أزمة ليبيا، وهو يقوم على فقرات متعددة، أولها تثبيت الحالة الوطنية بحيث تصبح هذه الحالة الناظم والضابط في كل أحوال الصراع ذهاباً وإيابا،ً وعندها يصبح للأزمة ما يشبه المنطق وتصبح الأزمة ذاتها محاطة بإمكانية السيطرة والحل، فليبيا محور جامع والأزمة محور مبدد وقاتل، وفي منطق أزمة ليبيا تفرض فقرات أخرى حضورها، وهناك ضرورة قصوى للتحرك إلى الأمام ولإجراء انتخابات رئاسية في موعدها، لإنتاج نظام سياسي جديد يستوعب تجربة ما كان ويقدم للمنظور العام الذي يتفق عليه الشعب الليبي فيما يجب أن يكون، وهذا المنطق يحتوي على نقطتين مهمتين، أولاهما تجسد الإيقاع الطبيعي لحركة الحياة، فالتجدد والتطور سمة الحياة وليس منصة تصدير الموت والدمار، والحياة الليبية ذاتها ليست قالباً جامداً نصبه أو نصب عليه، إنها فصل متتابع متجدد، وكل مرحلة في توالي الفصول تستوعب ما قبلها وتستطلع ما بعدها، تستثمر خبرة ما كان وتبني واقع ما يجب أن يكون، وبالمحصلة فإن هذا المفهوم يعني أن كل خطوة هي نتيجة لسابق ومقدمة للاحق، وهذا يعني أن الشعب الليبي محكوم سياسياً لفكرة التراكم العضوي الهامة، بعكس فكرة الركام الذي يعني الهدم المستدام والبناء على الأنقاض، وإلغاء كل ما كان لصالح خيار أهوج يدين الجذور، ويطلب من الفروع والأغصان بعد ذلك أن تزينها الخضرة وتجملها حالة الازدهار، وتجليها لموعد الإثمار، مسيرة خصبة مفتوحة ومتفتحة قابلة لاستقبال شروط الحياة وقادرة على استيعاب هذه الشروط وتمثلها وصياغتها من جديد بأبعاد راسخة هي كل عناوين ليبيا وكل مقومات هويتها... 

ونعترف هنا، أن هذه المنهجية خجولة الحضور، وتتعرض اليوم للتهشيم والردم تحت ضغط عوامل الذاتية والفردية ومزاجية وجهات النظر، ولكل ذي عقل نقول: إن منطق الحياة نفسها والحياة تتطور ولا تتكرر، وبناء مداميكها ليس عملاً ميكانيكياً يقوم على التطابق الحرفي وعلى المراوحة في المكان، والدوران حل الذات والاكتفاء بمقولة التغني بعيداً عن التبني، ولعلنا نتفق أنّ في ليبيا اليوم ما يجب حذفه لأن مفعوله قد انتهى واستنفد أغراضه، ولا يعني ذلك الإدانة أو إسدال الستار على مرحلة أعطت مفاعليها في السياق التاريخي المخصص لها، وهناك ما يجب إضافته، وقد جاءت به الظروف المستجدة والتحديات الناشئة التي لم تظهر من قبل، وهناك ما يجب تجديده وإعادة تأهيله بصورة مستمرة، وفي مجمل هذه الفقرات تكمن قصة الوقاية خير من ألف علاج والاستشراف أفضل مليون مرة من نظرة الإعجاب ولربما الإعجاز إلى الذات وفيها. 

ثم يأتي دور النقطة المهمة الثانية، في اختيار المنطق الحيوي القائم على التقويم وإعادة النظر، وإجراء المقارنات والمقاربات، وقياس اللحظة الراهنة إلى مصادرها من ناحية وإلى مستقبلها من ناحية أخرى، وهنا يكمن واحد من أهم أسرار الحياة الديمقراطية، وفي صلبه مسألة الحوار، وبهذا المعنى فإن الحوار يشتمل في مفرداته على التعددية والرأي الآخر، وتفاعل المواقف واستقبال كل مؤشرات الفعل والتفاعل على قاعدة الوطن، وبمواصفات البناء المتطور وتقيم الشعب بتاريخه وأهدافه ومسيرته المتحركة، ولعلنا الآن نستدل على بعض المعاني الهامة من اجتماع النقطتتين، أعني نقطة هوية ليبيا في نزوعها نحو الحوار لإجراء الانتخابات في موعدها، ونقطة ضرورة الحوار لتدفق الحياة، ولاسيما في المنعطفات الخطرة والظروف الصعبة التي تجتازها ليبيا. 

إن المسألة الآن تتقاذفها رؤى ومنهجيات الأطياف الليبية السياسية والاجتماعية، لإجراء الانتخابات في موعدها، وفي تقديرنا هي تعبير عن حيوية الوطن الليبي واستقبال لكل ضرورات الخروج من حالة الصراع، ولذلك ميزنا منذ المقدمة بأن الفارق هو فارق في الحياة الليبية الراهنة بين تجاهين هما أزمة ليبيا وهذا هو الجزء المشروع وليبيا الأزمة، وهذا هو الخيار الممنوع، وفي ليبيا ما يكفي من أعماق التاريخ والذاكرة الحية والمواقف النبيلة، لكي يصحا الجميع على ذاته ويدرك خطورة ما يراد له، ويستدرك بعد ذلك كل المهام التي تأخذ الجميع إلى المساحة الأوسع بالطرق الموضوعية، وبالخبرة الكافية، لكي يكسب الشعب الليبي الحسنيين، أعني يكسب ليبيا ويكسب حيوية مسيرة ليبيا، عبر البحث الدائم عن الأرقى والأرسخ والأجمل، وبأسلوب نبيل لأن الهدف النبيل لا يمكن إنجازه بأسلوب غير نبيل.

إن الرؤيا للحل يجب أن تتأسس على أبعاد ومعان تتجاوز الشروط والاشتراطات، وترفض منطق التثقيف والحجز، ذلك أن المدى الليبي مفتوح أمام الجميع وبمسافات كمية ونوعية غير مسورة، وإذا أضفنا إلى ذلك أي إلى الهدف النبيل عبر الحوار والأسلوب النبيل القادر على حمل الحوار إلى الهدف، إذا أضفنا إلى ذلك يقينية الاقتناع بالتحول وأخلاقية السلوك النظري والعملي في تبني هذا التوجه، عندها يعيش الشعب الليبي صورة حية متحركة فيه وله، ويجدر بنا هنا أن نلحظ أن الخطوات المتضامنة بهذا الشأن ستقض مضاجع القوى الحاقدة بمصادرها الحاضنة أو بأذرعتها المسمومة... حاجات الشعب الليبي في المرحلة القادمة كثيرة ومتنوعة وفوق كل ذلك ليست سهلة لكن من أهم هذه الحاجات أن يكون قد أدرك ما حلّ بليبيا، ولماذا وكيف؟ والأهم من كل ذلك كيف يعمل على ألا يتكرر الأمر بأي صورة أو أن يتكرر متخفياً متسللاً. والأكيد أنّ معاناة وآلام الشعب الليبي لن تدفعه مستقبلاً لتلبية شروط الذئب، ولو حاول التبرؤ من دم يوسف!


كاتب صحافي من المغرب.