يتفق أغلب المراقبين على أن ليبيا بلغت درجة من التأزم بما يجعلها على شفير كارثة متعددة الأبعاد، وبعد أن تم الإجلاء الجماعي للأجانب وإخلاء العاصمة من أغلب السفارات والبعثات الدبلوماسية، بدأت ليبيا تأخذ معالم دولة فاشلة، وفشلها سيؤثر في المنطقة المحيطة والعالم بأسره، فليبيا ليست الصومال أو افغانستان مثلاً، حتى يتم تجاهل أمرها، فهي دولة شاسعة المساحة وموقعها استراتيجي قريب من أوروبا، ولأنها الدولة الأغنى من حيث الثروات والموارد، فإن انهيارها سيخنق الإقليم اقتصادياً ويعطل التنمية فيه .

ومن شدة تعقيد المشهد، خلص روبن رايت، الباحث في معهد "ويلسون" للأبحاث السياسية في واشنطن، إلى أن ليبيا أشبه ب "مريض في وحدة العناية المركزة"، وقد تركت لمصيرها بعد أن حار الأطباء في تشخيص عللها الخطيرة . وأحد أسباب الحيرة أن الواقع الليبي يحافظ على غموض مخصوص لم يظهر فجأة بعد الحرب الأهلية، وإنما كان ملازما لها طوال عهد العقيد معمر القذافي . وحين ينضاف الغموض على الغموض، لا يمكن لأي متابع أو "طبيب" أن يشخص الظروف ويصف العلاج الشافي لتخرج ليبيا من الضبابية إلى الوضوح، ومن حالة التأزم والنزاعات إلى السلام والاستقرار .
ولكن الوضع الليبي، وهو على حالته تلك، لا يخلو من المفاجآت، ورغم التقارير المتشائمة والمخاوف من اندلاع حروب أهلية، يبدو أن المجتمع الليبي بدأ يسشعر التهديدات، ويتجه بغريزة حب البقاء والمحافظة على كيان دولته إلى الالتفاف على قبائله الكبيرة، فربما هي الآلية الوحيدة لتحقيق إنقاذ فعلي للبلاد . وإذا فشلت هذه المساعي، فلن يتبقى لليبيا أي منقذ آخر، وستسقط البلاد في أتون حروب وثارات لا تنتهي بما يؤدي بها إلى التقسيم أو التدخل الدولي أو الوقوع تحت الوصاية الدولية، والأخطر من الأمور كلها هو أن تسقط فريسة للإرهاب وحينها ستشكل تهديداً غير مسبوق للجميع . ففي ليبيا إغراءات جاذبة للجماعات الإرهابية أكثر من أي بلاد أخرى، فهناك السلاح والأجهزة والقواعد العسكرية الجاهزة، وأكثر الإغراءات جذباً وجود النفط باحتياطي ضخم إضافة إلى موارد طبيعية كثيرة . وإذا تم توظيف مثل هذه الثروات الهائلة في الإرهاب، فليس بالإمكان تحديد إلى أين ستصل الأمور، ولا معرفة ما إذا كانت ليبيا ستبقى أم ستصبح كارثة مترامية الأطراف .

 

مرحلة انتقالية ثالثة بضمانة القبائل

 

 

يخطئ كثير من المتابعين في الاعتقاد بأن مجرد انتخاب مجلس نواب جديد لفترة انتقالية ثالثة سيقطع الطريق أمام الوضع الفوضوي السائد حالياً في ليبيا . ومثل هذه المعادلة يمكن أن تستقيم في أي بلد آخر، أما في ليبيا فالأمر مختلف لاعتبارات عدة، وأقل هذه الاعتبارات العملية الانتخابية، فليس مهماً إن كانت الانتخابات ديمقراطية وشفافة أم مزورة وفاسدة، لأن العبرة في الأخير تتعلق بمدى الالتفاف الشعبي حول النتائج والهيئات التي تصدر عنها لإدارة الشأن العام .
ومما هو متفق عليه بين كل الباحثين والمراقبين للشأن الليبي هو أن المشهد في هذا البلد مراوغ وشديد التعقيد، حتى أن محاولة رسم الصورة الحقيقة للمشهد تتطلب رحلة بحث طويلة ومضنية ومطاردة المواقف من مكان إلى آخر لجمع شذرات الشواهد والمعلومات لمعرفة بعض المفاصل . من أشد مظاهر الصعوبة أن يجتمع في الموقف الواحد النقيض ونقيضه، وقد يأتي مسؤول ليعلن أمراً، ثم يعود بعد ساعة لينفيه أو ليؤكد أنه ليس هو الذي كان قبل ساعة . كما يمكن أن تحدث جريمة أو انتهاك ولا يعرف الفاعل، كما لا تعرف حقيقة اللاعبين الأساسيين والثانويين كذلك، وحين تجتمع هذه التناقضات والمفارقات يجد أي باحث صعوبات جمة في فهم ما يحدث، وبالإجمال هو مشهد يفتقر إلى العقلانية والحكمة، طالما أن ما تسمى العملية السياسية لم تكشف عن نضج فعلي لتحقيق مكاسب . وربما يعود السبب في ذلك إلى أن الشعب الليبي لم يعرف الديمقراطية في تاريخه ويستوعب مفاهيمها وآلياتها، ولم يعرف أيضاً مقومات المجتمع المدني من جمعيات وأحزاب ومنظمات ونواد، وهي من المتطلبات الجوهرية التي يجب أن تتوفر لتشكيل أرضية ملائمة للعمل الديمقراطي، ولبناء قواعد لهذه اللعبة .
لقد جرت انتخابات في ليبيا في 25 يونيو الماضي بعد الإعلان عن إجرائها قبل ذلك بأيام، وصدرت النتائج وتشكل مجلس النواب الجديد . وحصل كل ذلك من دون أن تحصل حملات انتخابية ولا تنافست برامج المرشحين، وباستثناء بعض الإعلانات الإشهارية في التلفزيونات ووسائل التواصل الاجتماعي للدعاية لبعضهم، كانت الأغلبية الساحقة ومنهم رئيس مجلس النواب الحالي عقيلة صالح عيسى لم يعرفهم أحد، ولم يقوموا بحملات جماهيرية في المدن والقرى . وسبب اختفاء الحملات وظهور المرشحين ليس الظروف الأمنية، وإنما يتعلق بخاصية ليبية تتمثل في الدور البارز الذي تلعبه القبيلة والمكونات الاجتماعية المشتقة منها . وبتتبع حيثيات هذه الانتخابات، يصبح من شبه المؤكد أن القبلية كانت القوة الحقيقة التي تحرك المشهد السياسي، وما كانت النتائج لتكون بهذه الصورة، لو لم يتشكل اصطفاف قبلي واسع بدأ يلوح من خلف التشتت والفوضى، وهذا الاصطفاف مرشح ليلعب دوراً كبيراً في الفترة المقبلة، بل ربما هو الصمام الوحيد لإنقاذ ليبيا عن طريق سلطة جديدة تنفذ ما يسطره وجهاء القبائل، وهناك من الأدلة الكثير مما يرجح هذا التوجه .

كل الليبيين تقريباً ينتمون إلى قبائل كبرى تنقسم إلى بطون وأفخاذ، والقبيلة هي الجسم الاجتماعي الأقوى من كل المكونات الأخرى بلا استثناء . والغالبية الساحقة من الليبيين بدأت تشعر بالرعب من المستقبل في ضوء المعارك الدائرة في طرابلس وبنغازي ووجود حضور قوي للجماعات الإرهابية الليبية والأجنبية، وهو ما ولد خشية من ضياع البلد إلى الأبد . وحتى لا يتحقق هذا السيناريو الأسود تكثفت في الأشهر القليلة الماضية الاتصالات القبلية وانعقدت مجالس ومؤتمرات بعيداً عن الأضواء الإعلامية، وتعهدت تلك المؤتمرات بإنجاح العملية السياسية ودعم القوات العسكرية والأمنية للدولة وطي صفحة السنوات الماضية وتصحيح المسار بشروط وطنية خالصة . وتسود أغلب القبائل نقمة شديدة على مكونات المشهد السابق وشخصياته، إذ هناك قناعة ترسخت بفعل التجاوزات، أن التيارات الإسلامية من إخوان وسلفيين، قد اغتنمت خلو ليبيا من الايديولوجيات السياسية المنظمة لتأسيس "فاشية" دموية ترفض الآخر ولا تعترف بأي طرف يمكن أن ينافسها على السلطة . وزادت المعركة الجارية في طرابلس بين الميليشيات الإسلامية من مصراتة والكتائب المسلحة من الزنتان في قناعة القبائل الليبية بأن الإسلاميين لا يريدون أن ينسحبوا من المشهد بسلام، مثلما هم كذلك جماعة "أنصار الشريعة" في بنغازي ودرنة . ومن المؤسف أن غالبية القبائل الليبية لديها ثارات مع الميليشيات المتطرفة وخاصة المنحدرة من مصراتة، والتي ارتكبت جرائم إبادة بحق مناطق كثيرة كانت تتهمها بأنها من "أزلام النظام السابق"، ولعل مشهد مقتل العقيد الراحل معمر القذافي، وبقطع النظر عن جرائمه وديكتاتوريته، كان جريمة مروعة، وكذلك عملية التمثيل بجثته لأيام ودفنها في مكان مجهول، وهذه الحادثة تتحمل وزرها ميليشيات مصراته التي أصبحت تسمى لاحقا "درع الوسطى" التابعة لوزارة الدفاع وأنشئت في عهد حكومة عبد الرحيم الكيب المؤقتة .
ولهذه العوامل وغيرها كثير، بدأت القبيلة تستعيد دورها بقوة في البلاد . وللتاريخ فإن استقرار ليبيا لم يتحقق إلا عندما توافقت القبائل تحت سقف واحد . فالقذافي مثلاً لم يكن لنظامه أن يعمر 42 عاماً لو لم يأخذ العامل القبلي في الاعتبار، حين استطاع أن يستميل ما أمكن من وجهاء القبائل الكبيرة سواء بالمال أو بالمناصب، واضطر في العام 1977 أن يعلن ما أسماها "سلطة الشعب" وحل الجيش، وهي مجرد حيلة سياسية ليصرف عنه الأنظار بعد أن تكررت المحاولات الانقلابية للإطاحة به . وعندما سقط نظامه في العام ،2011 كانت النية أن تتقدم البلاد إلى الأمام، ولكن الخيبة أن كل تلك الأحلام تبخرت وجاء وضع أسوأ مما كان في عهد القذافي من فساد وجرائم، بل إن ليبيا تضيع رويداً رويداً، وبدت كالمنطقة الموبوءة التي ينفض الجميع من حولها، بعد أن أصبحت ساحة حروب وإرهاب وجريمة منظمة، وتخيم عليها أشباح المجاعات والأمراض .
وبسبب هذه الأوضاع السيئة والمخيفة، عادت القبائل لتتحمل مسؤوليتها، فهي الجدار الأخير والقوة الفعلية لتجاوز هذه المحنة الشنيعة . ولهذا الهدف اجتمع مجلس القبائل، الذي يضم نحو 70 في المئة من القبائل الكبيرة، في منطقة ورشفانة جنوب طرابلس وطالب بدعم مجلس النواب الجديد ومساندة "معركة الكرامة" التي يقودها اللواء خليفة حفتر في محاربة الجماعات الإرهابية . وضمن هذا الاتجاه، فإن ما أعلنه مؤخراً أحمد قذاف الدم، المسؤول السابق وابن عم القذافي، أن القبائل الليبية ستعلن قريباً عن قيادة جديدة في البلاد، ليس أمنية "زلم سابق"، وإنما هو حراك فعلي يتقدم على جبهات كثيرة . وقد دعا مجلس القبائل، في بيان رسمي أوائل هذا الشهر، المجتمع الدولي والإقليمي، إلى تحمل مسؤولياته تجاه تدهور الأوضاع في ليبيا . واقترح المجلس أن تشرف المنظمات والمؤسسات الدولية والإقليمية، ودول الجوار، على حوار "ليبي - ليبي"، يضم كل القبائل الليبية، ووضع مخرجات هذا الحوار موضع التنفيذ تحت إشراف دولي وإقليمي، حتى تستقر البلاد ويعود الأمن ويتمكن الليبيون من بناء دولتهم الجديدة . وأضاف البيان، أن الجميع يتحملون مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في ليبيا من انفلات أمني وفشل للدولة والحرب الداخلية بين الميليشيات والتشكيلات شبه العسكرية التي تتقاتل تحت شعارات متعارضة تهدد الوحدة الوطنية وتعرض ليبيا إلى التفتيت والتقسيم .

وطالب المجلس بضرورة الإفراج عن كل السجناء والمعتقلين وعودة كل الليبيين المهجرين في الخارج ومشاركة الجميع في بناء الدولة دون اقصاء أو استبعاد لأحد فالوطن ملك للجميع ويجب تجاوز الاختلافات الأيدولوجية وتجاوز الماضي والحاضر البغيض والانطلاق إلى ليبيا المستقبل . وقد تعزز موقف القبائل، بموقف مساند من رابطة علماء ليبيا، التي اعتبرت انتخاب مجلس النواب الجديد سلطة شرعية تمثل واجهة البلاد إلى العالم الخارجي "بدلاً من المؤتمر الوطني العام الذي عانى الشعب منه ومن الحكومة المؤقتة الويلات" .
ويعكس موقف مجلس القبائل ورابطة العلماء تعبيراً عن واقع جديد بدأ يتبلور في ليبيا . وكما هو معروف فإن المجتمع الليبي، مجتمع محافظ، وليس منغلقاً، يلتزم أفراده بما يصدر عن القبيلة وعالم الدين أكثر من الالتزام بما تفرضة السلطة السياسية . أما الذين يخرجون عن الأطر القبلية والدينية فيعدون في نظر الغالبية "زعراناً متمردين"، وهذه النظرة بدأت تشيع بقوة بين الليبيين، وما كان لها أن تشيع لو لم توصفها الأعراف القبليية وتصنفها ضمن الأعمال الإجرامية التي تتطلب وقفة وطنية حازمة تنقذ البلاد من شر مستطير .

 

مجلس النواب . . تركيبة ومهام كثيرة الدلالات

يتشكل مجلس النواب الليبي الجديد من خليط أغلبيته من المنتمين لتحالف القوى الوطنية والفيدرالية والفيدراليين والمستقلين، ولم يتجاوز عدد المقاعد التي حصلت عليها جماعة الإخوان وبقية الأحزاب والتنظيمات المقربة منها 23 مقعداً من أصل 188 مقعداً الحاصلة حتى الآن في انتظار استكمال انتخاب 12 مقعداً أخرى عندما تسنح الظروف ليكتمل العدد الإجمالي للنواب ال 200 .
وبهذه النتائج انتهت من الناحية السياسية سيطرة الإسلاميين على مؤسسات الحكم الدستورية في المؤتمر الوطني العام السابق وبعض الحقائب الرئيسية في الحكومة، أما بنسبتهم النيابية الجديدة، فلن يكون بإمكانهم منافسة التيارات الأخرى على السلطة، وحتى دور كتلة التعطيل في مجلس النواب لن يستطيعوا أن يلعبوها لأن نسبتهم لا تتجاوز 20 في المئة . وستكون من أبرز مهام هذا المجلس انتخاب رئيس جديد للدولة، التي يشغلها حاليا بموجب الإعلان الدستوري رئيس المؤتمر الوطني العام نوري أبو سهمين، كما سيبحث لاحقاً اختيار رئيس للوزراء وتشكيل حكومة جديدة بناء على نتائج الانتخابات .
ومن مفاجآت مجلس النواب الجديد تسلل محسوبين على نظام العقيد الراحل معمر القذافي إلى المشهد . ومن باب الطرافة فقد شهدت جلسة أداء اليمين للنواب الجدد "زلة لسان" من نائب مدينة مرزق محمد آدم محمد، حين أقسم على الحفاظ على "ثورة الفاتح" قبل أن يصححها إلى "ثورة 17 فبراير" . ورأى البعض أن تلك الزلة لها مدلولاتها .
والانتخابات التي جرت في الخامس والعشرين من يونيو الماضي، شارك فيها 1714 مترشحا ل 00ْ مقعد، وهدف الانتخابات هو إيجاد سلطة تشريعية انتقالية ثالثة وأخيرة، قبيل انتخاب البرلمان الدائم . ومن غير الواضح المدة التي سيستغرقها مجلس النواب الجديد في العمل . وحسب هيئة الانتخابات، فقد بلغت نسبة المشاركة 45 في المئة، وتوجه إلى صناديق الاقتراع 630 ألف ناخب من أصل 5 .1 مليون ناخب مقيد في سجلات الناخبين .
وانتخب النواب الجدد المستشار عقيلة صالح عيسى رئيساً جديداً لهم . وتنافس على المنصب ثمانية نواب حصد الرئيس المنتخب أعلى الأصوات . وحصل عيسى في الجولة الثانية على 77 صوتاً من إجمالي 158 نائباً حضروا جلسة التصويت . وعيسى الذي يعد شخصية مغمورة هو قاض يؤكد أنه لا ينتمي إلى أي تيار سياسي، وتقلد مناصب قضائية عدة في ليبيا في عهد العقيد الراحل معمر القذافي . وكان من أبرز المتنافسين على رئاسة البرلمان والبالغ عددهم 8 أبو بكر مصطفى بعيرة، كما تم انتخاب محمد علي شعيب نائباً للرئيس .
وكانت الجلسة الافتتاحية لمجلس النواب الليبي الجديد قد بدأت في مدينة طبرق بشمال شرق ليبيا، وسط حضور عدد من ممثلي المنظمات الإقليمية وأعضاء الحكومة المؤقتة والدبلوماسيين والمؤتمر الوطني العام، بينما قاطعها النواب الإسلاميون والسلفيون وعقدوا اجتماعاً في مصراتة، كما لم تجر مراسم التسلم والتسليم بسبب رفض رئيس المؤتمر العام نوري أبو سهمين السفر إلى طبرق، واعتبر لاحقاً أن إجراءت انعقاد مجلس النواب "غير دستورية" مبرراً بذلك تخلفه عن الحضور .

 

1700 مجموعة مسلحة و25 مليون قطعة سلاح من المسدس إلى الطائرة

حين اندلعت الحرب على نظام العقيد الراحل معمر القذافي عام 2011 ولدت الثورة مسلحة من يومها الأول فكانت مختلفة ومتناقضة تماماً مع ما كان قد حصل في تونس ومصر . وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وانتهى النظام اكتشف الليبيون والعالم أن تلك الثورة لم تكن واحدة ولم تنتج واقعاً متجانساً، ولأنها انتهت على انقسامات وخلافات وعدم ثقة بين المكونات تمسك كل طرف بما لديه من سلاح وما تحت قدميه من أرض وممتلكات، وعندما تشكلت أولى الحكومات لم تجد ما تحكم، بل كانت محكوماً فيها وفاقدة لأي إرادة تحفظ لها مكانتها ممثلاً رسمياً للدولة . وآنذاك ظهرت مشكلة لا حل لها وتتمثل في الميليشيات والكتائب المسلحة التي تعاظم دورها وحضورها مع الأيام وأصبحت ليبيا حالياً حاضنة لأكبر عدد من الميليشات في العصر الحديث .

ورغم المحاولات العديدة لحصر عدد هذه الميليشيات وأحجام قواتها، فقد بقيت الظاهرة عصية على الحصر، ففي كل يوم يمكن أن تولد ميليشيا جديدة وتنصهر واحدة في أخرى، وأغلب الميليشيات ظهرت بعد إسقاط النظام، وأخطرها كان من جماعات تكفيرية متعددة الجنسيات وتعمل على مشاريع تتجاوز الحدود الليبية . وبفعل هذه الديناميكية المحتكمة إلى الأهواء والأمزجة والمطامع تشكلت شبكات ميليشاوية تتوزع على مدن وبلدات مختلفة ليست بالضرورة في حيز جغرافي منفصل، بل إن توزيع الميليشات وانتشارها يتداخل بين منطقة وأخرى مثل الأخطبوط السرطاني .
وفي بلد لا يتجاوز عدد سكانه السبعة ملايين توجد به نحو 25 مليون قطعة سلاح من المسدس إلى الطائرة المقاتلة، وتؤكد مصادر متطابقة أن عدد الميليشات يحوم حول 1700 ميليشيا، وفقاً لتقرير برلماني نشر في نوفمبر عام ،2013 فإن عدد الثوار الليبيين السابقين الذين يحملون السلاح، يقدر ب 200000 إلى 250000 ثائر . وتشير بعض المصادر إلى أن هناك نحو 300 فرقة تتبع لشركات خاصة، وأن من 1500 إلى 2000 فرقة تابعة لسياسيين من أعضاء المؤتمر الوطني السابق . وفي ما يلي أكبر هذه الميليشيات وأكثرها حضورا في المشهد بحسب مصادر متطابقة .

تعرف باسم "اتحاد ثوار مصراتة" أو قوات "درع ليبيا"، وتتكون من نحو 230 مجموعة مسلحة وأغلبها ذوو ميول إخوانية متطرفة نسجوا تحالفات مع جماعات تكفيرية في شرق البلاد، وتعد من أخطر الجماعات المسلحة في البلاد إذ يتراوح عدد مقاتليها بين 20 ألفا و30 ألفا، وتقول بعض المصادر إنها تمتلك نحو 800 دبابة، وأكثر من 500 صاروخ "غراد" و2500 قذيفة مورتر، إضافة إلى عربات مدرعة تم الاستيلاء عليها من مخازن النظام السابق، وكذلك ضمن "مساعدات" وصلت من أطراف خارجية تدعم الجماعات الإسلامية .

المجلس العسكرى لثوار الزنتان (طرابلس+الزنتان)

يضم 5 ألوية ويعد من أكثر الجماعات تنظيما وتجانسا لأن الكثير من قوات النظام السابق انضمت إليه، يبلغ عدد مقاتليه نحو 20 ألفاً، ويمتلك عدداً غير معلوم من الأسلحة الثقيلة وتعرف هذه الجماعات ذات الميول الليبرالية المعادية للإسلاميين، بأنها تعتقل سيف الإسلام القذافي وتنتشر في الزنتان وطرابلس .

كتيبة الصواعق (طرابلس)

تنتمي هذه الكتيبة إلى مدينة الزنتان، وعُرفت بتورطها فى الهجوم عى طرابلس فى سبتمبر عام ،2011 ومنذ ذلك الحين تولت مسؤولية توفير الحماية لكِبار الشخصيات فى المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا، وغيرت اسمها ليكون "لواء الصواعق للحماية" وأغلب عناصرها في طرابلس .

اللجنة الأمنية العليا (بنغازي+ طرابلس)

وهي تحظى بنفوذ في شرق ليبيا وتعمل كقوة متحالفة مع "درع ليبيا"، تتكون من بضعة آلاف من المسلحين وتنتشر في بنغازي وسرت وأجدابيا وبعض مناطق طرابلس، وهي من حلفاء ميليشيات مصراتة .

كتيبة شهداء بوسليم (المنطقة الشرقية)

يقدر عدد أفرادها ب 300 مسلح هم من سجناء نظام القذافي، يحملون جميعاً فكر القاعدة الجهادي ويتمركزون في مدينة درنة وهم مسؤولون عن تصفية واغتيال شخصيات أمنية وعسكرية من النظام السابق .

الجماعة الإسلامية المقاتلة (المنطقة الغربية)

هي ميليشيا تتألف من آلاف العناصر وتنتشر فى المنطقة الغربية مثل العاصمة طرابلس والزاوية، ومصراته والخمس وزليتن، وهم يسيطرون على أغلب المساجد ونشطوا في تهريب السلاح وتجنيد المقاتلين إلى سوريا والعراق ومالي .

كتيبة القعقاع (طرابلس)

هي وحدة عسكرية تضم مجموهة من المُسلحين المنشقين عن نظام القذافي في بداية الانتفاضة الليبية في عام ،2011 وتُعد مهمتها هي حماية كِبار المسؤولين والوزراء .

كتيبة 17 فبراير (المنطقة الشرقية)

هي كتيبة تضم نحو 2500 عنصر تنتشر غالباً في المنطقة الشرقية ومنها بنغازي، ويحمل عناصرها فكراً جهادياً، وهم أيديولوجياً أقرب إلى فكر الإخوان .

مؤيدو إقامة نظام فيدرالي في برقة (بنغازي+أجدابيا)

تدعو هذه الميليشيات إلى قدر أكبر من الحكم الذاتي في إقليم برقة في الشرق، ويطالبون بنصيب أكبر من مطالب الثورة، وأعلنوا حكومة برقة في نوفمبر 2013 وضمت 20 وزيراً بهدف إدارة الإقليم .
ومن الواضح أن الميليشيات في ليبيا ظاهرة بحد ذاتها، وقد تكون النماذج المذكورة هي من بين أكثر المجموعات المسلحة نشاطاً، مع التذكير بأن الجنوب الليبي الذي لا يحظى بتسليط للضوء توجد به تشكيلات من عدة من ميليشيات تعمل في تدريب الجهاديين وتهريب السلاح وتهريب المهاجرين غير الشرعيين . وهذه الخريطة تتعلق بالجماعات المسلحة التي تعد خارجة على القانون، ولا تتعلق بقوات الجيش والشرطة الرسميين، التي انضم معظم منتسبيهما إلى القوات التي يقودها اللواء خليفة حفتر قائد "معركة الكرامة" الرامية إلى تطهير ليبيا من الجماعات الإرهابية والمتطرفة، وهي مهمة صعبة، ومغامرة تفاصيلها دقيقة جداً .

كتيبة أنصار الشريعة (بنغازي+درنة)

جماعة مسلحة أعلنت مسؤوليتها عن مقتل السفير الأمريكي في بنغازي في سبتمبر ،2012 ويقدر أعداد المنتمين إلى هذه الكتيبة بالمئات ولكنها لا تتجاوز الخمسمئة عضو، ومعظمهم سجناء في سجن بوسليم في عهد القذافي، وفروا من السجون عقب اندلاع الثورة والانفلات الأمني الذي صاحبها . وينتمي أفراد هذه الكتيبة المسلحة إلى فكر السلفية الجهادية القريب من فكر تنظيم القاعدة .

كتيبة راف الله السحاتي (المنطقة الشرقية)

هي جماعة إسلامية لا تميل إلى تكفير المجتمع، ويقارب عدد عناصرها الألف مسلح تقريباً، ينتشرون في مدن المنطقة الشرقية مثل طبرق ودرنة والبيضاء وبنغازي وأجدابيا .

غرفة عمليات ثوار ليبيا (بنغازي+ طرابلس)

هي مجموعات مسلحة كلفت في العام 2012 بحماية وتأمين العاصمة طرابلس وحماية الشخصيات، ومن أهم تجاوزاتها اختطاف رئيس الوزراء السابق على زيدان في أكتوبر 2013 .

الحريق في ليبيا والدخان في الجوار

يسبب تصاعد الانقسامات الحادة في ليبيا صداعاً كبيراً لدول الجوار ويدفعها إلى مضاعفة جهودها والتحرك بشكل جماعي لإطفاء الحريق والحيلولة دون امتداد تداعياته الأمنية والسياسية الحدود . فما تكبده هذا الجوارأصبح فوق الاحتمال، وأكثر من التهديدات الأمنية، باتت الخسائر الاقتصادية فادحة جداً، ويؤكد خبراء في المجال أن مصر وتونس والجزائر، على وجه التحديد، تدفع ثمناً غالياً وتتخوف من فقدان شريك لها كان، حتى قبل أشهر قليلة، تتوفر لديه بعض من شروط التعامل .
ولأنها تدافع عن مصالحها، تبنت دول الجوار موقفاً شبه موحد للدفاع عن الشعب الليبي وسلامة أمنه ومستقبله، فالارتباطات الوثيقة والعلاقات المتشابكة، تجعل من استقرار ليبيا عامل طمأنينة للجميع ورافد خير يعود بالنفع على الكل . وعملاً بهذه المبادئ، تحركت دول الجوار الليبي في الأشهر الثلاث الماضية، فتعددت المبادرات والاجتماعات وأسفرت إلى الآن عن وضع آليات سياسية وأمنية لدعم مجلس النواب الجديد ومساعدته على إعادة بناء مؤسسات الدولة ومحاربة الجماعات الإرهابية ونزع سلاح الميليشيات بمختلف ألوانها السياسية والقبلية والمناطقية . ويلاحظ أن هذه المواقف تتعامل وفق الحالة الميدانية والسياسية في ليبيا، وهي مستعدة لكل شيء بما فيه التدخل العسكري، لا سيما بعد أن أصبح مكشوفاً أن مناطق ليبية عديدة محتلة من جماعات إرهابية أقامت "دولاً" وجيشت الجيوش وتورطت في أعمال عدائية في دول الجوار وبالأخص في مصر وتونس والجزائر .
هذا الشهر اجتمعت اللجنتان السياسية والأمنية المنبثقتان عن اجتماع دول الجوار السبع المنعقدة بتونس قبل شهرين، وأقرت اللجنتان الدعم الكامل لمجلس النواب الجديد وأعربتا عن الأمل في أن يتمكن الليبيون من حل خلافاتهم بعيداً عن التدخل الخارجي . وفيما تحتدم المعارك وتتسع دائرة العدائيات في طرابلس العاصمة، دعت الحكومة الليبية المؤقتة برئاسة عبد الله الثني إلى وقف لإطلاق النار بإشراف الأمم المتحدة، وذلك بعد أيام من طلب الحكومة تدخلا دوليا لمساعدتها على فرض إنهاء المعارك، ولكن إلى الآن لا توجد أي استجابات فعلية باستثناء نداءات تصدر من مجلس الأمن ومن بعض العواصم الغربية . وبموازة ذلك فإن جميع دول الجوار الليبي، وهي مصر وتونس والجزائر والنيجر وتشاد والسودان، تشعر بريبة من المواقف الغربية، ولقطع الطريق أمام أي تجاهل مقصود، تتزعم مصر والجزائر وتونس تحركاً جدياً لعمل شيء ما لوقف هذا التدهور . وبينما توالت تلويحات مصرية وجزائرية بالتدخل العسكري لحماية حدودها، هناك نفي رسمي من البلدين لأي نية للتدخل، تاركين الباب مفتوحا لذلك، إذا كان أي عمل ضمن غطاء دولي وبهدف محاربة الإرهاب وليس التدخل في الشؤون الداخلية الليبية . وحتى تكون الصورة واضحة فإن لدى مصر والجزائر مجتمعتين القدرة والكفاءة على تنفيذ عمل عسكري، ولكن هناك خشية من أن بعض الأطراف الدولية الداعمة للإسلاميين ربما تجد في هذه الحركة فرصة مناسبة لاستنزاف البلدين عسكريا . فبعض الجماعات التكفيرية الناشطة حاليا في الشرق الليبي لم تخف نيّاتها السيئة نحو مصر، وارتكبت اعتداءات إجرامية منها مجزرة الفرافرة الشهر الماضي، واختطفت وقتلت عمالا مصريين أبرياء في بنغازي قبل فترة . ووفق هذه المعطيات، فإن التحرك الإقليمي باتجاه ليبيا يتطلب الدراسة بشكل دقيق قبل أي مغامرة .

وبين القاهرة والجزائر، توجد حاليا اتصالات عالية المستوى لمتابعة تطورات الوضع الليبي، وتقول مصادر متطابقة في العاصمتين إن المناقشات توصلت إلى وضع خطط طارئة للتحرك العسكري لوقف التدهور الأمني، وإن كان ذلك ليس على المدى القصير، أي إلى حين اتضاح الرؤية أكثر حول الأطراف المتصارعة، وبانتظار اختبار مجلس النواب الجديد وقدرته على أداء عمله . ولكن إذا أصبحت الأمور خارج نطاق السيطرة وبات التهديد مباشرا وجديا، فآنذاك لن يكون هناك أمام مصر والجزائر أي خيار سوى التحرك . ومن أخطر التهديدات ما نشرته صحيفة "البلاد" الجزائرية مؤخرا حين كشفت، نقلا عن مصادر استخبارية، عن اتفاق جرى بين عناصر الجماعات المتطرفة من "أنصار الشريعة" وتنظيم ما يسمى "داعش" في سوريا والعراق، وقضى الاتفاق بترحيل الآلاف من مقاتلي "داعش" إلى ليبيا عن طريق تركيا لمحاربة قوات اللواء خليفة حفتر وشد أزر الميليشيات الإسلامية المختلفة . ومن المهم الإشارة في هذا السياق إلى أن جماعة "أنصار الشريعة" قد أقامت استعراضاً "عسكرياً" ظهرت فيه مختلف أنواع الأسلحة رداً على "معركة الكرامة" التي أطلقها اللواء حفتر . وآنذاك كشف زعيم هذا التنظيم الإرهابي محمد الزهاوي أن ما أسماهم "الجهاديين" سيتدفقون على ليبيا مثلما حدث في سوريا، وهو ما حدث بالفعل .

وتأكيداً لهذا التقرير، هناك شبه قناعة لدى أجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية أن الجماعات المتطرفة المنتشرة في العالم وخاصة في بلاد الشام تريد أن تفتح جبهة جديدة في ليبيا وتجعل منها "أرض ميعاد" لتخفيف الضغوط العسكرية المتوقع أن تتعرض لها هذه الجماعة الإرهابية في سوريا والعراق . ففي ليبيا هناك فراغ أمني رهيب ومساحة واسعة أكبر ثلاث مرات من مساحة "بلاد العراق والشام"، وبها موارد وافرة، وفي ليبيا ثروة بترولية طائلة تمثل عاشر احتياطي بترولي في العالم، وبها حقول ومنشآت من السهل السيطرة عليها بالتعاون مع ميليشات محلية محترفة في التهريب إلى السوق السوداء، إضافة إلى أن ليبيا لديها شواطئ على البحر المتوسط قبالة أوروبا بطول 2000 كيلومتر، وحدود صحراوية في العمق الإفريقي، وكل هذه العوامل تسمح لتنظيم "داعش" وأتباعها بأن تنتشر في تلك الأرض وتمد صلتها بالجماعات التكفيرية في جنوب الصحراء مع جماعة "بوكو حرام" الناشطة في نيجيريا والكاميرون، وكذلك جماعة "التوحيد والجهاد" في مالي . وتأكيدا لوجود نية في إيجاد ترابط بين مختلف هذه الجماعات الإرهابية، هو أنها تركز في انتشارها في ليبيا على المناطق الحدودية مع مصر والجزائر وتونس، استعداداً على ما يبدو إلى إقامة "دولة إسلامية"، وفي غياب تنسيق واضح بين هذه الدول، فإن مقاومة هذه الجماعات ستكون غير متكافئة وهو ما سيوفر لها فرصة النمو والتمدد .
ولا شك أن مثل هذه التقارير تثير الفزع في المنطقة . وباحتساب المخاطر التي تنجر عنها، يكون تحرك دول الإقليم تجاهها أمراً مشروعاً، فمصر وتونس والجزائر وتشاد والسودان وحتى المغرب وموريتانيا وأوروبا، كلها مستهدفة، وإن بدرجات متفاوتة . ووضع كهذا لا مجال فيه للحياد، فليبيا، ليست الصومال أو أفغانستان، وإنما هي أخطر بكثير .
ولو كان التهديد أمنيا فقط، فربما يمكن التغاضي أو الاكتفاء بالدفاع عن الحدود . ولكن ليبيا مقارنة بكل جوارها هي البلد الأغنى، وحين يتعافى تنتعش المجالات الاقتصادية في جواره . وليس الأمر بحاجة إلى التذكير بالصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها مصر وتونس وحتى الجزائر، وبمقتضى ذلك، فإن الحؤول دون أن تسقط ليبيا وثرواتها بيد الإرهاب أو أطراف غير وطنية، هو من صميم الأمن الوطني لكل دول الجوار، بل إن فرض الاستقرار في ليبيا، هو استحقاق تاريخي للمنطقة ولحماية الأمن القومي العربي، وحتى لأوروبا وللعالم بأسره .

 

*نقلا عن الخليج الإماراتية