تبدو الشوارع الليبية الآن مكتظة بالأفكار ومزدحمة بالتناقضات، وفيها ما فيها من المطبات والتقاطعات الخطرة. وقبلاً لا أحد يستطيع أن يقول إننا نملك شارعاً واحداً فقط، فليبيا تحولت إلى شوارع مختلفة الاتجاهات وفوق ذلك فإن لكل شارع شرعته الخاصة أو حتى بلا شرعة تضبط إيقاعه أو خطواته. ويبدو واضحاً أن ليبيا تعاني مشكلة شوارع متعددة مأخوذة بانفعالات اللحظة... ومع ذلك فإننا بحاجة للنظر إلى النصف المملوء من الكأس، وهنا فأنا لا أريد أن أبيع أوهام التفاؤل وإنما أريد أن أوضح حقائق ضاعت في جنون الحالة ومخاوفها. وأولى الحقائق أن ما تشهده ليبيا حالياً من تنافر أصبح يأخذ منحى غريباً على المجتمع الليبي، هو حالة مؤقتة لأنها صناعة لحظات انفعالية لا يقاس عليها، وعادة يخرج البشر عن أطوارهم في لحظات الغضب والانفعال الصاخب حيث تشتعل المشاعر لتحرق ما يسيطر عليها ويكبحها من النضج والوعي المعتاد عليهما في المجتمع الليبي، ولا أجد حرجاً من تشبيه ما يجري الآن باللحظات المجنونة التي يعقبها تصحيح وتقييم وتقويم.


 ولعله من الواضح أننا اختلفنا واختلفنا كثيراً ونحن نحلل المحنة ونتحدث عن أسبابها ونتقاذف المسؤولية عما حدث ويحدث...؟ ولكننا متفقون على البحث عن حل يخرج ليبيا من أزمتها الصعبة، وعندما يصبح كل أطراف المشكلة على هذه القناعة يصبح لدينا ما نتفاءل به وما نبني عليه للبحث الحقيقي عن المخرج بلا تطرف بالرأي. وبمعنى أوضح يصبح الجميع مستعداً لدفع فاتورة الحل عندما يصبحون في شك في أنهم قادرون على حسم الأمر لمصلحتهم. ومثلما جعلت الأزمة الليبيين كلهم خاسرين فإن الحل يحوّل الكل أيضاً إلى رابحين، وأولها وأهمها ليبيا التي يضعف الشعب الليبي بضعفها ويقوى بقوتها. لقد بدأت ليبيا منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي، حركة تراجعية تنذر بضياع ما جهد وعمل على بنائه الأجداد والآباء رغم عدم تلبية هذا البناء لمكانة وتاريخ ليبيا، وما يحدث اليوم، هو تعبير لملامح مستقبل لا مكان فيه للقيم البالية ولا لليأس والبؤس والتعصب والعنف والرفض، ولقد أصبح الليبيون مسلّمون أمرهم للزمن اللغز في حاضره والمجهول في غده، ولحظته هي سيدة الموقف والزمن ليس حليفهم، وإنما هو القاضي الذي يحاكمهم، والشعب الليبي منذ الآن وفي انتظار الاستحقاق الرئاسي، محكوم عليه مع وقف التنفيذ...! 


وبكل أمانة وتجرّد، فكل ما أطمح إليه بالدرجة الأولى هو إيجاد الكلمات المناسبة لإقناع من حولي من أحرار ليبيا، بأن المركب الذي هم عليه أصبح تائها بلا بوصلة ولا طريق ولا رؤية، وهذا يعني أنهم بأزمة وربما بكارثة، وهناك مؤشرات ليست قليلة تقول بأن الصراع في وعلى ليبيا، قد وصل إلى مرحلة خطيرة وبأن عملية الإنقاذ تحتاج إلى جهد ووعي الجميع، والأمل بأن يحسن أهل ليبيا الأحرار، التغلب على تبايناتهم واستنباط الحلول اليسيرة ثم يتحدوا ويعبئوا جهودهم لوضعها موضع التنفيذ، فالمتصارعون على متن سفينة سائرين بها إلى الغرق لكنهم مع ذلك لا يتوقفون عن تبادل الاتهامات والشتائم والمشاحنة، غير آبهين بارتفاع أمواج البحر وبعضهم قادر على الترحيب بالموجة القاتلة، إذا ما كانت جهتها الخصم أولا قبل أن تصل إلى الجهة الأخرى، وسيكون المصير واحداً هو الفناء للجميع.

وفي تقديري المتواضع، فإنّ أحط وأخس رذائل هذا الزمن الليبي، بيع الضمائر وتأجير العقول وتبديل المواقف والمبادئ والقناعات وفقاً لمصادر التمويل، وطمعاً في المناصب والمراتب... فهذا - بكل أسف - زمان التذبذب والتقلب والتشقلب، والانتقال من حال إلى حال، والمسارعة إلى إهالة التراب على أنبل العقائد والثوابت والقيم والعادات، ليس لأسباب منطقية وموضوعية اقتضتها الضرورة الوطنية، بل لاعتبارات مصلحية ونفاقية وارتزاقية دونية، غير أن الفارق كبير بين الثبات والجمود، أو بين الصلابة والتصلب، أو بين المبدئية والدوغمائية، أو بين الالتزام العقائدي والانغلاق العقلي، أو بين التشبث بالأفكار والنظريات والموروثات، وبين عبادتها وتصنيمها وتحنيطها وعزلها عن جدل الحياة ومعطيات الدنيا ومتغيرات الزمان، وهو ما سيؤدي إلى تشرنقها واختناقها وافتقادها إلى روح التجدد والاستيعاب والحيوية والاغتناء المتواصل. الفارق كبير أيضاً بين الترويج للموقف السياسي بأسلوب حضاري، والدفاع عنه بالتي هي أحسن، وبين اعتباره ''سدرة المنتهى'' ووسيلة الخلاص المثلى، وعنوان الحق والصدق والصواب، والذود عنه بمفردات التهجم والتهكم والاتهام والتحامل على المخالفين وأصحاب الرأي الآخر الذين غالباً ما سيشعرون بالغضب والاستفزاز، وسينفرون من القول وصاحبه، ويردون على التهجم بمثله والاتهام بأقذع منه... وعليه... فليس من حق أحد، أو حتى من مصلحته، الاعتقاد بأنه مالك الحقيقة، ومحتكر الصواب، وسيد الفكر الثاقب والرأي الحصيف... ليس من حقه أو مصلحته المجادلة بالتي هي أسوأ، والمساجلة بالعنف وليس الكياسة واللطف، والمناظرة بلغة الخصام والاتهام والتخوين، لأن من شأن كل ذلك أن يشكل سلاحاً مرتداً سيعود عليه بأوخم العواقب، وأفدح النتائج والأضرار...!

نعلم جميعاً بأن القاعدة الفقهية تقول بأن بناء الأوطان فرض عين وليس فرض كفاية والنظام السياسي يبنى مع الآخر وليس للآخر فحسب، إن الادعاء بالفضيلة والإيجابية بالإنجاز لا يكفي عادة لابد من إشراك الآخرين، والحقيقة الناصعة التي يحتاج إليها الشعب الليبي الآن مع مزيد من التمسك بها والإصرار عليها - حتى ولو بدا أنها لغة شاذة في هذه اللحظات - وهي لغة التسامح مقابل لغة الحقد... ولهجة المحبة مقابل لهجة الكراهية... ومفردات المصالحة مقابل مفردات المواجهة والعزل السياسي. لقد آن الأوان للمشاركة بالانتخابات الرئاسية لأنها المخرج الوحيد والأوحد للحل. فالأغلبية العظمى من المجتمع الليبي يقلقها أن يأخذ الغضب والانفعال شوارعها إلى متاهات يصعب الخروج منها... وإن وقف كل هذا التدهور يحتاج إلى تدخل المجتمع الليبي الصامت. وحتى يتحقق ما نرغب فيه علينا أن يكون كل منا شخصاً مستقيماً من خلال التوافق بين التفكير الذي يخلو به أحدنا إلى نفسه ورأيه الذي يعلنه إلى الناس وسيرته التي يسيرها بين الناس.


*المقال بعبر عن وجهة نظر الكاتب