لم تر الدول الغربية أدنى حرج في استخدام أبشع الوسائل وأقذرها للنيل من روسيا، وحتى وسائل إعلامها الخاصة لم تسلم منها... حيث حجبَ الاتحادُ الأوروبي قنوات آرتي ووكالة سبوتنيك في أوروبا بدعوى الحد من تأثير الدعاية الروسية على الرأي العام لشعوبها، مع تقييد وصول المواطنين إلى هذه القنوات. قد تكفي المقارنة بين الشعارات والواقع من حيث المبدأ لنسف منظومة كاملة من الادعاءات الغربية الفارغة وجملة من حملات الدعاية الكاذبة، لكنها في التجليات والظواهر المعبّرة عنها تبدو بحاجة إلى إعادة تبويب واصطفاف لتشكيل مقاربة تحاكي ما ينتج عنها من استطالات مَرَضية. على هذه القاعدة لا تبدو محاولة استهداف قناة (آرتي) ووكالة سبوتنيك الروسيتين، خارج سياق المنظومة تلك.

الأكيد اليوم أنّ السياسة الأوروبية المنتهجة تجاه وسائل الإعلام الروسية، تؤكد مدى تأثير هذه الوسائل في الرأي العام العالمي وقدرتها على إيصال الحقيقة وفضح وإفشال المخططات الغربية المعادية التي تستهدف العالم وليس روسيا أو منطقة بعينها، وتقدم دليلا إضافيا على عدم قدرة الغرب على احترام حرية الإعلام الذي يتوخى الدقة والموضوعية في نقل حقيقة ما يجري من أحداث وتطورات ومواقف. ويبدو أن نجاحات الإعلام الروسي وإتقانه الصنعة الإعلامية الحديثة وانتشاره الواسع في الغرب، وفضحه السياسات الغربية المنافقة والمزدوجة المعايير أصابت أصحاب القرار في الغرب بصداع وقلق وارتباك ووصلت أصداء هذه المخاوف إلى الاتحاد الأوروبي، حيث اتخذ قراراً فضح به نفسه وفضح في الوقت ذاته "ديمقراطية" الغرب المزيفة التي تزعم "حرية الصحافة" و"إعطاء الحرية لوسائل الإعلام المحلية والعالمية"، وذلك عندما تبنى مواجهة وسائل إعلام روسية بالمنع والمقاطعة. وفي هذا السياق قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في تعليقه على حجبَ الاتحادُ الأوروبي قنوات آرتي ووكالة سبوتنيك في أوروبا، "إن موسكو لم تتوقع أن يفرض الغرب عقوبات على الصحفيين...".

بداية، لستُ موظفا في الإعلام الروسي... وإنما أكتب رأيي عنها كمواطن عربي مهتم بما يجري حولنا من أحداث على الأصعدة العربية والإقليمية والدولية. عقود طويلة مضت كانت آلة الدعاية الغربية متفوقة بما لا يقاس على الدعاية السوفييتية، وبعدها الدعاية الروسية، ولم تستطع وسائل الإعلام الروسية، قديمها وحديثها، أن تسجل نقاطاً تذكر في المعارك الإعلامية الطاحنة مع أوروبا وأمريكا اللتين تمتلكان أقوى وأحدث إمبراطوريات الاتصال وأساطين الإعلام في العالم، إلا أنه في السنوات القليلة الماضية، ومع ازدياد الحضور الروسي بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين في المشهد الدولي ونجاحاته، صعد نجم الإعلام الروسي واكتسب مصداقية عالية وتأثيراً ملموساً في الرأي العام العالمي والأوروبي على وجه الخصوص، وباتت قناة "روسيا اليوم" وشبكة "سبوتنيك" للأنباء الروسية، من المستهدفين بقرار الاتحاد الأوروبي بأنها المصادر المفضلة للمواطن الغربي. 

الثابت اليوم، أنّ قرار الاتحاد الأوروبي حظر قناة (آرتي) ووكالة سبوتنيك الروسيتين، ومحاولاتهم تغييب الحقائق لصالح قنوات التضليل والكذب التي تروج لسياساتهم، يعتبر قرصنة إعلامية موصوفة تفضح النوايا العدوانية لتغييب المشهد الحقيقي وإقصائه لصالح المعلومات المزيفة المفبركة في استهداف ومحاكمة المتلقين. والقرار الأوروبي في حقيقته يهدف إلى مصادرة الرأي الآخر والإمعان في تضليل المواطنين الأوروبيين، وجاء في سياق سياسة كم الأفواه وإسكات صوت الحقيقة، وتقييد وصول المواطنين في أوروبا إلى القنوات الروسية عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وقد شكل انتهاكا صارخا لحرية الوصول إلى المعلومات وتمكين الجمهور الأوروبي من الإطلاع على الآراء المتعددة، وحماية حق النفاذ الشامل وغير التمييزي الذي أقره مجتمع المعلومات وحفظته المواثيق الدولية. 

إن حظر قناة (آرتي) ووكالة سبوتنيك الروسيتين، تعتبر من وجهة نظرنا عقوبة سياسية بكل ما تحمل كلمة السياسة من معنى وهي أبعد ما تكون عن مبادئ الديمقراطية والحرية الصحيحة، إنما هي أقرب إلى ديمقراطية المال والشركات والمصالح الأمريكية والغربية.. وهي أبعد ما تكون عن المعايير الأخلاقية والمهنية التي تحكم العمل الإعلامي... وأقرب ما تكون إلى المعايير التسلطية والديكتاتورية والمصلحية. لقد شكل قرار الاتحاد الأوروبي بوقف بث القنوات الروسية قناة (آرتي) ووكالة سبوتنيك الروسيتين، إفلاساً للغرب وهزيمة لإعلامه الذي طالما وصفوه بالأسطورة وتباهوا بقدراته الخارقة على كسب المعارك العسكرية قبل أن تبدأ ناهيك بالنجاح في المعارك السياسية سلفاً وتتجلى الهزيمة في النواحي الآتية:

1 ـ ستكون للقرار مفاعيل عكسية، فعلم الإعلام يؤكد أن المنع والحظر بحق أي وسيلة إعلامية يقويها ولا يضعفها، بل يزيد من شعبيتها ويرفع من أهميتها بين المتابعين ما يعني أن وسائل الإعلام الروسية كسبت رصيداً إضافياً لمصلحتها.

2 ـ وجّه القرار ضربة إلى القيم والمبادئ التي طالما تغنّى بها الغرب حول حرية الصحافة والديمقراطية وحقوق الإنسان وكشف زيف تمسكه بهذه الشعارات التي نصّب نفسه حامياً لها ومدافعاً عنها بل وراح يعطي الدروس للآخرين بممارستها وتطبيقها.

3 ـ أظهر القرار سقوطاً سياسياً مريعاً للأنظمة الغربية وانهيار القيم الديمقراطية لديها، وفزع الأوساط الحاكمة من المنافسة الإعلامية كما أظهر ضعف النخب الأوروبية الليبرالية التي وجدت نفسها عاجزة عن مواجهة عدد كامل من التحديات الخطرة بما فيها تلك الناجمة عن عدم فعالية سياستهم .
 
4 ـ سيزيد القرار من التضامن مع وسائل الإعلام الروسية وقد بدأت حملات التنديد والإدانة للقرار على المستوى العالمي، وبات يشكل في نظر الكثيرين وصمة عار على جبين  الاتحاد الأوروبي والحكومات الغربية.

وحقيقة الأمر، أنّ الغرب أقام جدران العزل العنصري الإعلامي بين المواطن الأوروبي والإعلام الروسي الذي ينقل صورة ما يجري في الساحة العالمية، فقد تناقضوا في تقييم الإعلام كما يتناقضون في السياسة وفي كل شيء، فتسقط أوزانهم ومكاييلهم وكل وحدات قياسهم في بئر الحقد والتزوير والفتنة. والحق أن الإعلام الروسي أوجعهم يوم ألهب جباههم بسياط الحقيقة الحارقة، وفقأ عيونهم بأضواء الموضوعية والمهنية الساطعة، وبخّر أحلامهم في كسب الوجدان في الشارع العربي والأوروبي، بعدما سمم الغرب هذا الشارع بسيول الأكاذيب وتزوير الواقع والوقائع، واختراع الأحداث وابتداع الأخبار التي لا وجود لمعظمها... لقد ارتقت قناة (آرتي) ووكالة سبوتنيك الروسيتين... بمهنيتهما العالية وكفاءة إدارتهما، وصحفييها إلى المستوى الأرفع الذي يحترم عقل المشاهد العربي والأوروبي، والمتابع للكلمة الحرة، والرأي الشجاع، فأفسحت صدرها على مدار الساعة الإعلامية لتلاقح الأفكار، وتمازج الرؤى، والآراء، تاركة الحكم النهائي للمشاهد الحصيف، والمستمع المثقف والسياسي العبقري، والمواطن العادي الذي اجتهدت في الارتفاع معه، وبه إلى المستوى الأرفع والأمنع، من الحصانة وعدم الاختراق، كما كانت قناة (آرتي) ووكالة سبوتنيك الروسيتين غاية في الجرأة في تناول المسائل الشائكة في المجتمع العربي والأوروبي، شأن الجرّاح الماهر الذي لا ترتجف له يد، ولا يرف له جفن لدى اقتلاعه السرطان المؤذي والداء العضال، ولو تألّم المريض مؤقتاً.

خلاصة الكلام: الإعلام الروسي لا يحتاج إلى مقالات تضامنية ولا إلى وقفات شموع أو مظاهرات تنديد ووعيد. ما يحتاجه هو تثبيت حضوره عند المشاهدين بدول العالم وكسب المزيد منهم والحفاظ على مكانته كمصدر رئيسي وصانع للخبر، وهذا تحديداً ما لا يريده الغرب المعتادون أن يكون الخبر من صناعة موظفيهم ليروجوا ما يشاؤون من أكاذيب وروايات وأوهام، ولحماية اتحادهم من أي خبر قد يسيء إليهم أو إلى بلدانهم أو حتى لسياساتهم... وما تقدم وغيره يؤكد من جديد لجميع الشعوب زيف إدعاءات الغرب بدعم الحريات الإعلامية واحترام حرية التعبير... ويُثبت أن هذه المبادئ التي تدعيها الدول الغربية ليست إلا غطاء لممارساتها في تنفيذ أجنداتها السياسية وخدمة مصالحها الخاصة. والسؤال الذي يفرض نفسه في ضوء صدور مثل هذه القرارات الجائرة والظالمة وغير القانونية وغير الأخلاقية والعدائية أين أنتم يا أنصار الحرية الإعلامية والديمقراطية وحرية التعبير في الولايات المتحدة وأوروبا والعالم؟ وما موقفكم من قرار حظر قناة (آرتي) ووكالة سبوتنيك الروسيتين...؟ إنها أسئلة إجاباتها برسمكم... مع قناعتنا أن ألسنتكم (مبلوعة) وأقلامكم (مكسورة) لأسباب تعرفها الشعوب الحرة العظيمة منذ زمن.

*كاتب صحفي من المغرب


(المقال يعبّر عن وجهة نظر الكاتب وحده)