لم تمر سنة على مؤتمر باريس لحل الأزمة الليبية الذي كان جزءا من مشاريع الفشل التي طبعت الملف الليبي، حتى خرج الإيطاليون في عملية أشبه بالعناد والمزايدة على الجار المنافس، ليعلنوا أنهم دعوا إلى مؤتمر جديد تحتضنه مدينة باليرمو من أجل إيجاد حل لثمان سنوات من الصراع الدامي بين فرقاء الوطن الواحد الذين أخذت أغلبهم العزة بالإثم دون مراعاة لما يعانيه الليبيون من مشاكل في كل المستويات، أمنية واقتصادية واجتماعية التي هي في الأخير سياسية صرفة.

الإيطاليون في علاقة بليبيا، أشبه بتلك المراهقة التي تغار من امرأة أخرى عند رجل مشاكله الكثيرة تلهيه عنهما الإثنتين، فتحاول أن تتحرك بمنطق لفت الانتباه الذي كانت في أغلب مراحله ضعيفة ومكبلة باعتبارات أن خيارات الداخل الليبي بالنسبة إليها غير مضمونة مهما كان قربها منها.

الحقيقة لا نعلم سلامة المشابهة وتأدية معناها، لكن المهم في ذلك أن إيطاليا تعيش لحظة غيرة كبيرة من فرنسا في علاقة بالملف الليبي. فرنسا منذ الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي صعدت إلى واجهة الأحداث كلاعب قوي منتفع من المساحات الممنوحة له من طرف "مجلس مصطفى عبدالجليل" الذي كان نقطة الانطلاق الأولى نحو تخريب البلاد وجعلها مرتعا لكل القوى شرقا وغربا. ولهذا تسعى إيطاليا أن تلعب الدور نفسه خاصة أن لديها تصورا دائما بأنها صاحبة المشروعية التي اكتسبتها من خلال اتفاقيات مبرمة مع العقيد القذافي قبل سنتين من إسقاط نظامه. والحقيقة الأخرى أن إيطاليا بالفعل كانت ذات حظوة لدى النظام السابق بعد الخطوات السياسية (الاعتذار) والاقتصادية (الاستثمارات والاتفاقات) التي اتخذتها.

مؤتمر باليرمو إذن هو خطوة إيطالية من أجل العمل على إيجاد صيغة تفاهم بين الفرقاء الليبيين بناء على علاقة روما بهم واعتقادا منها، مثل سابقيها، أن المسألة تنتظر مؤتمرات واجتماعات خارجية من أجل الخروج بحل للأزمة، رغم أن ما أفرزته الصخيرات وباريس والتحشيد الدولي لهما لم يؤديا إلى مخرج وبقيت الأوضاع تراوح مكانها، بل ربما اتجهت نحو التعقيد بعد ما وقع في طرابلس منتصف أغسطس الماضي.

المؤتمر تم الإعلان عنه رسميا في بداية شهر أكتوبر الماضي، من خلال رسالة تقدم بها وزير الخارجية الإيطالي، إنزو ميلانيزي، إلى مجلس الشيوخ في بلاده، مشيرا إلى أنه يهدف إلى"جمع القوى المتصارعة حول طاولة واحدة" من أجل الوصول إلى حل. مشيرا في الوقت ذاته إلى موافقة أمريكية ومن الرئيس ترامب شخصيا عليه، الأمر الذي يحيل إلى رغبة إيطالية في الاحتماء بعضد قوي خوفا من استفزاز فرنسي أو محاولة للتشويش. بل أعلن الوزير الإيطالي أن الدعوات ستوجه إلى عدة أطراف مؤثرة ذاكرا بالاسم روسيا، وهي إشارة أخرى إلى الجار الفرنسي أن العناصر التي تكسبه المشروعية قوية وحامية له، رغم أن رسالة برلين قبل أسبوع من انطلاق المؤتمر أشارت بوضوح أن الرئيس بوتين لن يكون بين الحاضرين وسيعوضه "تمثيل لائق" حسبما أعلنت الرئاسة الروسية.

وعلى الرغم من أن بعض الأطراف تشير إلى أن حكومة الوفاق كانت جزءا من إعداد المؤتمر من خلال التواصل الدائم مع السفارة الإيطالية في طرابلس، إلا أن ذلك لم يمنع بقية الفرقاء في الشرق من إعلان استعدادهم للحوار بناء على الدعوات الموجهة إليهم، حيث جاء في تصريحات صحفية قبل أيام عن موافقة قائد الجيش الليبي خليفة حفتر على الحضور إلى جانبية بقية الطيف السياسي الليبي، بل إن أطرافا من النظام السابق بدورها تلقت دعوة للمشاركة في إطار فتح مساحة لأكثر الاختلافات الداخلية حسب جاء أيضا في وسائل إعلام محلية. لكن بعض المراقبين يشيرون إلى انتقادات كبيرة لمن دعيوا باسم النظام السابق باعتبارهم كانوا في المرحلة الأولى من أحداث 2011 جزءا من الحرب التي شنت على ليبيا، سواء كان تصريحا أو على الأقل صمتا.

إقليميا من المنتظر أن يكون لدور الجوار أيضا حضور، من أجل تقديم الرؤى الخاصة أو المشتركة، خاصة أن تونس ومصر والجزائر كانت قد تقدّمت بمبادرة للحل، قبل أن يدخل غسان سلامة على الخط تحت غطاء أممي ويضعف حماسة الدول المذكورة في العمل على الملف رغم أن تصريحاتها الدبلوماسية دائما ما تتحدث عن المسألة. وهي في كل الحالات لا تريد أن تكون خارج سياق المفاوضات أيّا كان مهندسها باعتبارها تفكّر أساسا في ما هو أمني باعتبارها تقع على خطوط التماس شرقا وغربا وكل توتّر أمني تكون هي جزءا منه في كل الأحوال.

بعد أيام قليلة بعدد الساعات ويصبح مؤتمر باليرمو جزءا من مراحل الحوار الليبي الليبي التي بدأت من المغرب إلى باريس لتنتهي في صقليّة. وبغض النظر عن الحضور الخارجي الذي أصبح أمرا واقعا في بلد فُتح على كل الواجهات والمصالح، تنتظر أطراف كثيرة لحظة الانفراجة التي لن تحققها إلا مخرجات باريس ومبادرات الأمم المتحدة مهما كانت الخطوات التي اتخذت تجاهها، في حين ترى أطراف أخرى أن اجتماعات باليرمو مجرد استعراض إيطالي في إطار تنافس مع "الخصم" الفرنسي الداخل بقوة على مسرح الحدث ولا يمكن أن يأتي بجديد مادامت أطراف الداخل لم تبيّن أي نوايا مكشوفة لتجاوز الخلافات السابقة الكثيرة. وبين كل ذلك هناك شعب ينتظر انفراجة تزيح عنه كابوس السنوات الطويلة من الحرب والتقاتل.