في فيلمه الوثائقي «عبد القادر.. مؤسّس الدولة الجزائرية»، يُظهر المخرج سالم إبراهيمي حرفيّة سينمائيةً عالية، تجلّت خاصّة في الناحية البصرية للفيلم، حتّى وإن اقترب العمل من الوثائقي التلفزيوني وهذا لإفراطه في عرض شهادات المؤرّخين والباحثين، على حساب المشاهد التمثيلية والمشاهد الخارجية.

و لكن الفيلم استعاض عن المشاهد التمثيلية برسومٍ متحرّكة على قدر عال من الجودة الفنية في فكرة جريئة ذكية كحل أنسب للتعامل مع تلك الحقبة الزمنية الغابرة و التي صال فيها الأمير عبد القادر شرقًا وغربًا، من محافظة "معسكر" إلى محافظة "تلمسان" (غربي البلاد) إلى فرنسا و تركيا ثم إلى سوريا فمكّة المكرّمة. كما اعتمد المخرج على تقنية الظل الصيني في إعادة تركيب الأحداث المناسبة لسيناريو الفيلم و تم الاستعانة بالمغني "أمازيغ كاتب" كراوي للأحداث بالغة العامية على طريقة "القوال" (الراوي في الموروث الشعبي الجزائري) وهو ما أضاف للعمل السينمائي سلاسة في الرواية.

كما تحدث الفيلم الذي تم عرضه الأول بقاعة ابن زيدون بديوان رياض الفتح وسط العاصمة الجزائر عن فلسفة الأمير التي سبقته قبل وصوله إلى جنيف  خصوصا حول حقوق الأسرى و تمكن هذا الفكر العال الغير المسبوق محليا في زمان من ولوج الولايات المتّحدة التي لم يبلغها باعث الدولة الجزائرية الحديثة. وهي المحطّات التي تتبّعتها كاميرا مخرج الفيلم في ربط بديع بين ماضي الأمير وحاضر الإنسانية.و اعتمد الفيلم على معلومات جاهزة روت سيرةً واحدة بألسنة متعدّدة، وتجنّب العمل الجديد إبراز استعمال الأسئلة حول المناطق الرمادية والمثيرة للجدل في مسيرة الأمير عبد القادر، فالخيار كان منذ البداية واضحًا بإبراز القيم الإنسانية و البعد العالمي في شخصية الأمير.

و عرض الفيلم الوثائقي الذي جاء في 96 دقيقة  أمام الصحافة و الذي يروي مسيرة وحياة الأمير السياسية والروحية منذ طفولته وتعليمه وسجنه إلى حين منفاه. كما يسلط الفيلم الذي ألفه المخرج رفقة "أودري براسور" الضوء على أهم المحطات التاريخية التي مر بها الأمير عبد القادر وبعض المواقف التي اتخذها خلال فترة مبايعته.واستعان المخرج بشهادات مؤرخين ومؤلفين ومختصين في الدراسات الإسلامية وأعضاء مؤسسة "الأميرعبد القادر" الجزائريين والأجانب أمثال قدور محمصاجي ومختار بونقب ودليلة حساين دواجي وشميل بوطالب وستاني كومبو وميشال لوفالوا وآخرون.و أنتج فيلم "عبد القادر.. مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة" من طرف الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي بداء من عام 2011 في إطار تظاهرة "تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية".

سيناريو الفيلم

 وتنطلق أحداث الفيلم الوثائقي من سبر آراء في لمختلف المدن الجزائرية قصد تقصي مدى معرفة الجمهور لشخصية الأمير ليسترسل فيما بعد في مرحلة طفولة  الأمير الذي ولد ب"القطنة" بالقرب من محافظة "معسكر" غرب الجزائر و تدرج إلى مرحلة تلقيه تربية بالزاوية التي كان يتكفل بها والده محي الدين وتعلمه الفروسية وكذا سفره رفقة والده إلى مكة.وتتواصل مجريات أحداث الفيلم لتصل إلى فترة مبايعة الأميرعبد القادر في 1832 إلى غاية استسلامه في 1847 من خلال التعريج على أهم الأحداث كتلك التي دفعته إلى اتخاذ قرار توحيد القبائل الكبرى وتأسيس القلاع والحصون كتاقدمت (بمحافظة تيارت) وإنشاء عاصمته المتنقلة الزمالة بعد تخريب الجيش الفرنسي للمدن التي أسسها.

وتناول الفيلم الجانب الروحي للأمير عبد القادر الذي ظهر خلال عزلته في فرنسا أين سجن بمعية من رافقوه في اقامات "بتولون" و"بو" و"أمبواز" بعدما خذلوه بوعدوهم. وأكسبته فترة حبسه في القصور الفرنسية قوة روحية لاسيما وأنه فقد العديد من اللذين رافقوه في منفاه وهو ما جعله زاهدا في دنياه .واهتم المخرج كذلك بالفترة التي تلت إخراجه من السجن في 1852 من طرف نابوليون الثالث وبداية رحلة أخرى قادته إلى الشرق ببورصة واسطنبول التركية وصولا إلى دمشق بسوريا. وزادته هذه الرحلة إلى الشرق تقربا من أحد أعلام الصوفية وهو "ابن عربي" الملقب ب"الشيخ الأكبر" حيث اغترف الأمير من أشعاره ومؤلفاته خاصة في مرحلة تواجده بدمشق أين تمكن من التدخل لحماية مسيحيي دمشق من هجوم مسلمين "دورز" بتحريض من الحاكم العثماني آنذاك.

وأبرزت الشهادات في ذات الصدد الالتزام الإنساني للأمير عبد القادر حيث تعتبر هذه الشخصية من بين مؤسسي مبادئ حقوق الإنسان التي انبثقت عنها اتفاقية جنيف الخاصة بمعاملة أسرى الحرب، إضافة إلى دوره في تقارب الشرق والغرب وجهوده في تكريس ثقافة حوار الأديان.و من الناحية التقنية والفنية, يمكن وصف العمل بالمرضي خاصة وأن الفيلم الوثائقي أدرج اللغة العامية التي مكنت من شد انتباه المشاهد إلى آخر دقيقة وأحسن توظيف بعض التقنيات لتسهيل سرد الوقائع التاريخية.