كم هو غريب ولافت حال المجتمع الدولي ومؤسساته الأممية، فهو لم ينهض حتى اللحظة بمسؤولياته تجاه شعب تيغراي الأثيوبي، ولم يحاسب، أو يسائل، أو يتجرأ حتى على وضع حد للنظام الأثيوبي، لارتكابه جرائم، في منطقة تيغراي شمالي إثيوبيا. وفي هذا السياق، فقد استهدفت غارة جوية سوقا مكتظة في إقليم تيغراي، الذي يشهد حربا منذ أشهر، أوقعت عددا من القتلى وعشرات الجرحى، وفق ما أفاد شهود عيان، وقد دان الاتحاد الأوروبي الوضع في إقليم تيغراي الإثيوبي، وقد تزامن تجدد الصراع مع عمليات فرز الأصوات في أعقاب الانتخابات الإثيوبية العامة، التي جرت دون التصويت في منطقة تيغراي الشمالية وأجزاء أخرى مضطربة، ومع ذلك، اعتبر رئيس الوزراء آبي أحمد هذه الانتخابات "يوما تاريخيا لإثيوبيا".

للأسف الشديد، فقد كشفت تقارير إعلامية عن تجدد المواجهات العسكرية في تيغراي الإثيوبي، بين جبهة تحرير الإقليم وقوات الجيشين الإثيوبي والإريتري، واندلع قتال عنيف في عدة مناطق في منطقة تيغراي شمالي إثيوبيا بين مسلحين من الإقليم والقوات الفيدرالية التابعة لحكومة أديس أبابا، حسبما أفادت تقارير، وتعد هذه أخطر مواجهة مسلحة تندلع منذ نوفمبر. وفي هذا السياق جدد وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل دعوته لـ"وقف فوري لإطلاق النار"، مضيفا أن "ما يحدث في تيغراي مروع... لقد حان الوقت كي يستيقظ المجتمع الدولي ويتحرك". وأكد المسؤول الأوروبي أن "استهداف المدنيين عمدا لا يمكن تبريره بأي حال من الأحوال ويتعارض مع القانون الإنساني الدولي"، مردفا أنه "لا يمكن تبرير هذه الفظاعات بحجة الحفاظ على وحدة أراضي إثيوبيا".

وللأسف الشديد، فلغة الصلف والغرور والعنجهية تتصاعد في الخطاب السياسي والإعلامي الأثيوبي، وفي الممارسات اليومية على الأرض. حيث اتهمت إثيوبيا الولايات المتحدة، بالتدخل في شؤونها بعد أن أعلنت واشنطن فرض قيود على المساعدات الاقتصادية والأمنية لها بسبب انتهاكات حقوق الإنسان أثناء الصراع في منطقة تيغراي الواقعة في شمال البلاد. وقالت وزارة الخارجية الإثيوبية إنه إذا استمرت القيود الأمريكية "فستضطر أديس أبابا إلى إعادة تقييم العلاقات مع الولايات المتحدة، وهو ما يمكن أن تكون له تبعات تتجاوز علاقاتنا الثنائية". وأضاف بيان الخارجية الإثيوبية "ما هو أكثر إثارة للحزن هو اتجاه الإدارة الأمريكية إلى وضع الحكومة الإثيوبية على قدم المساواة مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي تم إعلانها منظمة إرهابية..."

وانطلاقا مما سبق، يبدو أن جائزة نوبل التي حصل عليها رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، كانت تتعلق فقط بالعلاقات العامة لتشكيل صورة دولية حميدة، وهنا لابد من الإشارة إلى أن التكريم مفيد خلال الهجوم الأخير على تيغراي، حيث تعمدت وسائل الإعلام الغربية بشكل روتيني ذكر جائزة نوبل التي حصل عليها إلى جانب مزاعمه بإجراء "عملية تتعلق بالقانون والنظام" ضد "جبهة تحرير شعب تيغراي"، حيث تمنحه جائزة نوبل مصداقية حيوية، ودونها، يمكن رؤية أفعاله بشكل أوضح على حقيقتها، واعتبارها جرائم ضد الإنسانية، فمنذ مجيء آبي إلى السلطة، دخلت أثيوبيا في اضطرابات واشتباكات عنيفة بين مجموعاتها العرقية. جدير بالذكر، أنه وبعد أسابيع من فوز رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد بجائزة نوبل، رفضت "جبهة تحرير شعب تيغراي" الانضمام إلى الحزب الحاكم الجديد لآبي أحمد، الذي أطلق عليه اسم "حزب الرخاء"، متذمرة مما عدته تهميشاً واستهدافاً غير عادل عبر تحقيقات في شأن الفساد. وعاد قادة جبهة تحرير شعب تيغراي إلى منطقتهم، ليتهمهم آبي أحمد بمحاولة زعزعة استقرار البلاد. 

وللتذكير، فإقليم تيغراي يمثّل أحد أقاليم إثيوبيا العشرة، ويمثل سكانه نحو 6 بالمائة من مجموع سكان البلاد، الذين يتجاوز عددهم نحو 100 مليون نسمة، يتوزّعون بين نحو 80 مجموعة إثنية. وتعدّ "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" أبرز تنظيم مسلّح ظهر منذ ثمانينيات القرن المنصرم، عندما تردّت الأوضاع إبان حكم الرئيس منغستو هايلي ماريام، ذو التوجهات اليسارية، وأدّت لانتشار مجاعات ذهب ضحيتها نحو 8 ملايين من سكان البلاد. وظلّت المجموعات المسلّحة التي كانت تنتمي لقومية محدّدة تقاتل عبر عمليات صغيرة، والاستثناء الوحيد كان هو الجبهة الشعبية لتيغراي، حيث كانت أكثر تنظيماً، ولديها تحالفات خارجية أبرزها التحالف مع "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا". 

وفي عام 1988، عقد مؤتمر لـ "المعارضة" داخل الأراضي السودانية، ضمّ ممثلين عن أربعة عشر تنظيماً إثيوبياً مسلّحاً، وأعلنت هذه التنظيمات أنها ستقاتل موحدة لإسقاط منغستو، وأعطيت قيادة التحالف لتيغراي، لأن قواتهم كانت الأكثر تدريباً وتسليحاً وتنظيماً. واستمرّ التحالف يقاتل على مدى ثلاثة أعوام، وعندما اقترب من الإطاحة بمنغستو عام 1990، عقد مؤتمر لندن للمعارضة الإثيوبية برعاية أمريكية بريطانية من أجل تنظيم المجموعات المعارضة تحت لافتة واحدة، ليتفق المؤتمرون مجدداً على قيادة تيغراي للتحالف على الرغم من وجود قيادات تقليدية لمجموعات قبلية بين المشاركين إضافة للقوات العسكرية والسياسية. وبعد عدّة أشهر دخلت قوات تحالف جبهة شعوب إثيوبيا، واستولت على الحكم ونصّب تاميرات لاينه رئيساً للبلاد في 28 أيار1991، وهو من قومية التيغراي، ثم خلفه مليس زناوي في 1995، عقب إجازة دستور جمهورية إثيوبيا الفدرالية. وشغل زناوي المنصب حتى وفاته عام 2012، ما جعل التيغراي يحكمون إثيوبيا على مدى أكثر من 20 عاماً تحت راية تحالف يسيطرون على مفاصله، إضافة إلى أن مليس زناوي استطاع السيطرة على التناقضات داخل التحالف ما جعل حتى الذين يتذمّرون من سيطرة التيغراي من المجموعات الأخرى يكتمون الأمر، ولم تظهر الحالة الاحتجاجية على سيطرة التيغراي إلا بعد وفاة زناوي وانتخاب سلفه هايلي مريام ديسالين، الذي ينتمي لمجموعة تحالف شعوب جنوبي إثيوبيا.

ومن باب الإنصاف، كان استهداف رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد لـ"جبهة تحرير شعب تيغراي" مطروحاً منذ توليه السلطة قبل أكثر من عامين في الإدارات الإقليمية التسع في أثيوبيا، وعندما أصبح آبي أحمد رئيساً للوزراء في نيسان 2018، وهو أول رئيس حكومة من عرقية أورومو، الأكبر في البلاد. وباستلامه فقد التيغراي مناصب وزارية وبعض المناصب العسكرية العليا. والجدير بالذكر، أنّ "جبهة تحرير شعب تيغراي"، كانت تتمتع بنفوذ كبير في الحكم، فقام آبي أحمد بتهميش دورها وقمع سكان الإقليم وممارسة التمييز ضدهم، و"الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" تتكون من عدة أحزاب إقليمية ذات طبيعة عرقية، والإقليم قريب من الحدود السودانية والأريترية، وتمتلك الجبهة خبرة كبيرة في القتال نتيجة مشاركاتها في الحرب الحدودية التي استمرت سنوات بين إثيوبيا وجارتها أريتريا، وتسيطر الجبهة على القيادة الشمالية للجيش الإثيوبي الذي يتكون من أربع جبهات، وتقدر المليشيات المحلية في إقليم تيغراي بنحو 250 ألف جندي، وهو ما يشكل خطراً على انقسام الجيش الإثيوبي الذي يتشكل على أسس عرقية. 

أما الأسباب القريبة للصدام المثير للقلق في إثيوبيا بين الحكومة الفدرالية والحزب الحاكم في منطقة تيغراي الشمالية، حسب مصادر أثيوبية، فتعود لاشتباه أهل تيغراي في أن رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، هو شخصية حصان طروادة هدفه إضعاف الاستقلال السياسي والاقتصادي لأثيوبيا من أجل إعادة تنظيم الدولة المهمة استراتيجياً بعيداً عن الشراكة مع الصين، لتكون منفتحة على رأس المال الغربي، ومن المفارقات أنه يتهم معارضة التيغراي بالخيانة. هذه هي الخلفية الجيوسياسية لاندلاع الحرب في أثيوبيا، حيث تهدف واشنطن فصل أثيوبيا عن خطط الصين للتنمية الاقتصادية العالمية، المعروفة باسم "طريق الحرير الجديد"، لذلك إن ثاني أكبر دولة في أفريقيا من حيث عدد السكان تنغمس في حرب كارثية تهدد بابتلاع القرن الأفريقي.

خلاصة الكلام: حتى لو استسلمت جبهة تيغراي، فلن يوجد توافق أبدا على فرض حكومة مؤقتة على رأس الإقليم وجيش يحتل أراضيه... ولن يكون هناك أيّ منتصر... والأكيد، هو تحول هذه المعركة إلى حروب عرقية وانزلاق إثيوبيا إلى فوضى عارمة، وهناك مؤشرات مقلقة في هذا المضمار، حيث الجلي اليوم هو التعتيم الإعلامي على ما يجري في الإقليم، إضافة إلى التحريض المكثف ضد شعب إقليم تيغراي عبر الوسائط الإثيوبية المختلفة دون تمييز، وما يتعرض له أبناء التيغراي في الوقت الحالي في الأقاليم الإثيوبية الأخرى من ظلم واضطهاد، وكان على الحكومة الفيدرالية ووسائطها الإعلامية أن تفرق بصورة لا لبس فيها بين شعب التيغراي والمجموعة التي تعتبرها خارجة عن القانون، وأن الخلط بينهما ينبؤ بمؤشرات خطيرة قد تعرض شعب تيغراي للإبادة، لذا على المجتمع الدولي أن يضغط على الحكومة الفيدرالية لمعالجة الوضع في تيغراي على الفور، كما يتعين عليه اعتماد حلول فعّالة تهدف إلى تخفيف المُعاناة في المنطقة من خلال العمل الدولي الحازم، وإقناع الحكومة الإثيوبية بإعادة إحياء السلام في المنطقة. يجب أن تتضمن الأهداف الوقف الفوري والنهائي للأعمال العدائية، والتوزيع السريع وغير المشروط وغير المُقيد والمُستدام للمساعدات الإنسانية في جميع أنحاء تيغراي، والانسحاب الكامل لجميع القوات والجماعات المُسلحة الخارجية، وعقد اتفاقية لوقف إطلاق النار والتي من شأنها المساهمة في إيجاد حل سلمي للصراع في تيغراي. 




كاتب صحفي من المغرب.