حسب أهل الاختصاص، تقع الذاكرة في كل ما هو متقلّب، ملموس، متعدّد، معيش(le vécu)، سحريmagique))، مقدس(saint)، نابع عن الخيال والوجدان؛ بينما يتميز التاريخ بشكل حصري بطابعه النقدي، المفهومي، الإشكالي،والوضعنة المُعلْمِنة(objectivation laïcisante)، والعقلانية.

إن استرجاع الذاكرة (إنقاذها بالمعنى الطبي) عن طريق التاريخ يتكشف، إذن، عن بناء أسطورة، كما هو الحال بالنسبة لموريس هالبواكس: «يبدأ التاريخ فقط عند النقطة التي ينتهي فيها التقليد، في اللحظة التي تنطفئ أو تتحلل فيها الذاكرة الاجتماعية». هذا الاسترجاع يضفي الإطلاقية على القطع بين ما يعتبره بعدين غير قابلين لاختزال أحدهما في الآخر. وتقدم الذاكرة الجماعية نفسها كنهر يوسع فرشته وفقا لمساره على خط مستمر، في حين يُقَطع التاريخ ويَقْسم الفترات ويمنح الامتياز للاختلافات والتغيرات والانقطاعات الأخرى: «في التنمية المستمرة للذاكرة الجماعية، لا توجد خطوط فاصلة مرسومة بشكل واضح، كما في التاريخ». من ناحية أخرى، إذا كانت الذاكرة تتموقع على جانب تجزؤ الجماعات وتعددها وكذا الأفراد الذين هم ناقلات آنية(vecteurs éphémères)؛فإن التاريخ يتموقع على جانب التفرد، تأكيد الواحد(affirmation de l’Un): «التاريخ واحد ويمكن القول ليس هناك سوى تاريخ واحد». المفهوم الذي يروجه هالبواكس للمادة التاريخية "إيجابي" بشكل لم يتسع فيه سوى للتأكيد بشكل أفضل على حقوق السوسيولوجيا الدوركايمية الجديدة لاحتضان كل ما يتعلق بحقل الاجتماع. فهو يعرض التاريخ كمكان للموضوعية المطلقة، وكمكان لا تكون فيه الذات المؤرخة ضالعة، وكمكان لمجرد التدوين، نسخ كل ما حدث على الصعيد الواقعي البحت(purement factuel).

من المتعارف عليه، أن الذاكرة هي تلك الملكة التي يتميز به الكائن البشري في قدرته على الاحتفاظ بآثار الماضي والقدرة على الرجوع إليها بفاعلية وفق ما تقتضيه الوضعيات التي يكون عليها. لكن في كثير من الأحيان، وبسبب غياب الاشتغال العلمي الممنهج، وطغيان العشوائية والشعبوية غالبا ما تتصادم خطابات الهوية وتكبح القراءة الموضوعية للأحداث التاريخية. في الآونة الأخيرة، عاد الجدل مجددا حول التاريخ والرموز التاريخية عبر برنامج بثته قناة الحياة مع البرلماني السابق نور الدين آيت حمودة حول بعض الشخصيات الجزائرية والمحطات التاريخية.

وقد شغل آيت حمودة نائب رئيس المجلس الشعبي الوطني في وقت انتمائه إلى حزب تجمع الثقافة والديمقراطية قبل أن يتم فصله عام 2015. وهو من الشخصيات المثيرة للجدل، والتي تخلط بين الأحكام المتحيزة النابعة عن الأهواء وبين التقييم التاريخي للأحداث والفاعلين التاريخيين.

بسبب ما صرح به في البرنامج التفلزي، وإثر الشكوى التي رفعت ضده، أمر قاضي تحقيق الغرفة الأولى لدى محكمة سيدي أمحمد، مساء الأحد الماضي، بإيداعه الحبس، بتهمة الإساءة إلى الأمير عبد القادر، وإهانة رئيس الجمهورية السابق، هواري بومدين، والقذف والسب والشتم بالنسبة لأب الوطنية الجزائرية مصالي الحاج.

الأمير عبد القادر، مثلا، لم يعد ملكا للذاكرة الجزائرية، بحكم فاعليته في أحداث تاريخية، وبحكم تعددية مواهبه ومواقفه الإنسانية والسياسية، وبحكم ارتباطه ليس فقط بتاريخ الجزائر، فرنسا والمغرب، ولكن أيضا بحكم تواصله الخلاق مع أكثر من جهة في العالم.

كما أن الأمير، هو أول جزائري صاغ تصورا سياسيا للدولة الجزائرية بصرف النظر عن الثغرات والنقائص التي شابت هذه التجربة، فهو يختلف عن حسين داي الذي كان يمثل السلطنة العثمانية، كما يختلف عن رموز المقاومة من حيث أن تلك المقاومات كانت محلية وتفتقر إلى البعد السياسي والتشريعي. يختلف، مثلا، عن أحمد باي الذي قاد مقاومته من باب الولاء للباب العالي. فالأمير لم يكن مجرد مقوم، بل كان أول من أسس لدولة دامت خمسة عشر عاما وسقطت بعد حرب لم تكن متكافئة.

في هذا العدد اتصلت بوابة إفريقيا الإخبارية، بالأستاذ لحسن تواتي بصفته أحد المحامين الذين تم توكيلهم لمتابعة هذا الملف الحساس ليشرع لنا دواعي وحيثيات علاقته بمثل هذه القضايا ومعالجتها قانونيا على أمل أن نتناول هذا الموضوع من زاوية أخرى مع مفكر أو مؤرخ.


الأستاذ لحسن تواتي محام وناشط حقوقي ولاسيما في مكافحة الفساد، لو تفضلت بتعريف نفسك أكثر لقراء الأسبوع المغاربي وبوابة أخبار المغاربية؟

من مواليد مدينة برج بوعريريج، محام بمنظمة المحامين ناحية الجزائر العاصمة، متحصل على ليسانس حقوق، ماجستار قانون جنائي للأعمال، وناشط حقوقي وسياسي.

بدأ اهتمامي بالعمل الجمعوي منذ نعومة أضافري، إذ كنت قائدا في الكشافة الإسلامية الجزائرية، وكذا ناشطا حقوقيا في الجامعة وكان لي دور كبير في الحراك الثقافي التوعوي الذي سبق الحراك الشعبي.

كنت من الذين ساهموا في تأسيسعدادا من المنظمات الوطنية، منها الاتحادية الجزائرية لمكافحة الفساد الرياضي، جمعية القراء، منتدى الكفاءات الشبانية، منتدى التغيير.ثم عضوا بالأمانة الوطنية لمنظمة تواصل الاجيال، ثم مؤسسا للمركز الجزائري للدراسات القانونية.


كيف تابعت، كمواطن جزائري، تصريحات البرلماني السابق آيت حمودة حول الأمير عبد القادر، مصالي الحاج وهواري بومدين؟


أصابني الذهول وشعرت بالحسرة على ما وصل إليه الأمر من الخطورة، والمخاطر المترتبة عن  إقحام التاريخ في الصراع الأيديولوجي. وهي ظاهرة تنذر بالخراب. وأعتقد جازما أن أخطر الكوارث التي قد تعصف بمجتمعنا، أن يعيث غير العالمين فسادا في ميادين المعرفة، بسيف الانفعال المدمّر الذي لا يبقي ولا يذر. ومن المآسي الكبرى أن يتطاول متطفلون على التاريخ، ولا يتورعون عن تخوين الأبطال وتسفيه الأمجاد ونكران مآثرهم. وها نحن اليوم نعاني ومنذ أشهر عديدة من شرّ هؤلاء المتحذلقين  الذين تسيطر عليهم إيديولوجيات ضيقة، تدفعهم باستمرار إلى التطاول على التاريخ والثوابت والهوية والعقيدة والرموز، وتوظيف التاريخ، دون وجه حق، كسلاح فتّاك ضد بعضهم البعض. ومن دواعي الحسرة والألم أن تأثير جعجعة هؤلاء المتحذلقين على الرأي العام أكبر من تأثير الأكاديميين المتخصّصين بكتاباتهم الهادئة. لهؤلاء المتطفلون تأثير كبير بحكم تواجدهم في بعض المنابر الإعلامية التي صار التضليل هو شغلها الشاغل لقضاء مصالح ضيقة أو للحصول على مغانم زائلة. ولا شك أن النبش في التاريخ من طرف أشخاص غير متخصصين، فضلا عن كونهم يفتقرون إلى ملكة البحث وأدواته ومناهجه، سيوردنا موارد البوار، وسيهدد بضرب الإسفين في الجدار الوطني المرصوص والعياذ بالله، علما أنه لم يحدث في الماضي القريب والبعيد على حد سواء أن ظهر في مجتمعنا خطاب الكراهية باسم العرقية أو الجهوية رغم محاولات الاستعمار اليائسة. فالأمر لا يقتصر على التخوين فقط بل تكريس لخطاب الكراهية والتمييز، ومحاولة لشق الصف وصب الزيت على النار على ما تعيشه الوحدة الوطنية من ضربات متتالية.



وفق الحوارات التي أُجرِيتْ معك، فقد تم توكيلك من قبل مواطنين من ضمنهم أحفاد الأمير. كيف استقبلتم هذا الطلب وهل سبق لكم أن ترافعتم في مثل هذه القضايا؟

مباشرة بعد الحادثة، تلقّيتُ اتصالات  للترافع في هذه الشأن، كما تلقى زملاء آخرون نفس الاتصالات هم بورنان حسنة التي كان لها دور كبير في الملف الحالي، وكذا الأساتذة زواوي محمد، بوترعة ابراهيم، بن تفور محمد واسماعيل عادل. نحن فريق من المحامين نشتغل على هذا الملف، وقد تهاطلت علينا اتصالات عديدة، لدرجة أننا وجدنا صعوبة في استيعاب الكم الهائل الذي وصلنا من الرسائل التي دعانا بعض أصحابها إلى التحرك والتصدي لمثل هذه الاعتداءات على تاريخنا الوطني، والبعض الآخر قام بتوكيلنا للقيام بالإجراءات اللازمة في مثل هذه القضايا.

كما اتصل بنا أفراد من أحفاد الأمير، حيث طلبت منا السيدة بوطالب عتيقة، وبوطالب زهور، والأميرة بديعة، أن نكون محاميهم  في هذه القضية التي هي قضيتنا أيضا، ومن  الشرف والفخر أن نكون أصحابها والمنافحين عنها.


لماذا وقع عليكم الاختيار؟

 وقع علينا الاختيار بحكم تجاربنا السابقة في اشتغالنا على مثل هذه القضايا، أي القضايا ذات الصلة بالوجدان الشعبي أو بعمقه الثقافي والهوياتي.


بلا شك أن المدعى عليه نور الدين آيت حمودة أخطأ حين اتهم هذه الشخصيات بالخيانة، مثلما أخطأ غيره في حق شخصيات أخرى. فهل مثل هذه الأخطاء ترقى إلى الجريمة التي يعاقب عليها القانون؟ أم هي شكل من أشكال حرية التعبير وأن المشكل في الجهل بحيثيات الموضوع وسوء التعبير فقط؟

لكل شيء ضوابط وقواعد لا يجب أن تنتهك، فحرية التعبير في البلدان المتخلفة تمارس بغلو دونما أي ضوابط ومعايير.  حرية التعبير مكسب مهم، ولكن يجب أن تتقيد بروح المسؤولية، حتى لا تنزلق إلى ما لا يحمد عقباه، وأن تبقى في حدود ما يسمح به القانون. التعبير غير المنضبط، قد يؤجج المشاعر، ويمتد مثلا إلى نبش القبور والسب والشتم وانتهاك مقدسات الغير. حتى الدول الأوروبية التي تعتبر حرية التعبير أهم ركيزة في سلم الحريات، لكنها ترفض أن يتم الاعتداء باسم حرية التعبير، وأن يكون هذا الحق مطية للمساس بحقوق الغير ومشاعرهم.

من زاوية أخرى القانون يعترف بحرية التعبير وفق معايير محددة ومضبوطة، عالميا وليس في الجزائر فقط، فحرية التعبير لا تعني أن تقول ما بدا لك وأن ترمي بالكلام على عواهنه دون قيد أو شرط.

فلو كان ٱيت حمودة مختصا حقيقة لما حاكم الرموز واتهمهم، الباحث المتخصص ميزته أنه متسلّح بالأدوات العلمية وبمناهج البحث الأكاديمي التي تجعله يتفادى اختزال التاريخ في الأخبار فقط، وذلك بإعمال النظر فيما وراء الأخبار، وفق القاعدة الخلدونية التي مفادها:(التاريخ ظاهره خبر وباطنه نظر). تعلمنا أن التاريخ لا يتجزّأ حسب الأهواء، ولا يفهم خارج سياق زمانه، فاستعمال المفاهيم والمصطلحات  خارج سياقها التاريخي، هو مغالطة كبرى غايتها الخداع السياسي وليس خدمة المجتمعات باستخلاص الدروس والعبر من انكسارات وانتصارات الشعوب الغابرة.

تعلمنا  في مدرجات الجامعة أن المؤرخ يكثر من قراءة المصادر والمراجع في سعيه لإعادة بناء حادثة تاريخية معينة، وأنه يسعى دائما إلى تجاوز الذاتية اللعينة التي تحول دون إنصاف صُنّاع التاريخ في مجالات مختلفة، لذلك تنافس العلماء في وضع مناهج علمية دقيقةفاستعمال عبارات شعبوية بهدف إثارة الجماهير ليست حرية تعبير بل اساءة لهذه الحرية واعتداء عليها قبل الاعتداء على الموضوع المعتدى عليه في حد ذاته.


بصفتك محاميا وحقوقيا ومواطنا، ألا ترى أن المقاربة القانونية بمفردها لا تكفي لمعالجة مثل هذه القضايا، وأن المشكل متشعب يبدأ بالمدرسة ومقاربتها البيداغوجية ويمتد إلى البرامج الإعلامية التي تتناول الرموز التاريخية بطريقة تفتقر إلى المنهج العلمي، وأن الحل في البرامج المختصة ذات البعد الجماهيري وتكريس ثقافة الحوار القائم على الاحترام بعيدا عن التخوين والاتهامات التي من المفترض أن تصدر عن الجهات المختصة وليست عن مواطنين عاديين؟

في الوقت الحالي لا بديل عن الإجراءات القانونية التي تضمن ردعا خاصا لمن يعتدي على وجدان الشعب ومشاعره، ولمن يتطاول على قضايا ليست من اختصاصه، ولاسيما أولئك الذين يثيرون جدالات على خلفية عنصرية أو بهدف نشر ثقافة الكراهية والحط من قيمة الغير. وهي إجراءات بمثابة علاج لآلام الملايين من المتضررين وانتصار للضمير الجمعي وتحذير من مغبة الخوض في مثل هكذا قضايا قد تترتب عنها انزلاقات وعداوات لا مبرر لها.

في هذا الإطار جاءت المقاربة القانونية، لردع كل من يحاول المساس بالوحدة الوطنية والثوابت والرموز، لكن حتما ليست كافية، وعلى كل جهة أن تضطلع بدورها، ولاسيما الأوساط الأكاديمية من جامعات ومراكز البحث والإعلام، الأمر يحتاج إلى مقاربة بيداغوجية وثقافية وعلمية تتسم بالرصانة والعمق.