لا أحد يجادل في أن غياب الديمقراطية، بمختلف مظاهرها، يشكل الآفة التي تتجاذب –بصفة متفاوتة- الحالة الليبية في وقتها الراهن وبمختلف المراحل السياسية الماضية. علينا أن نؤكد الإشكالية التي نمر بها الا وهي " الإنتقال الديمقراطي في ظل التدخلات الدولية وغياب الإجماع الوطني"، فقد تم إسقاط نظام كامل بكل مؤسساته، ولكن إعادة بنائه أصبح عائقا للإنتقال والتحول. 

يمر الصراع بالعديد من المراحل حيث بدأ الصراع منتقلاٍ من كونه سياسي في مرحلته الأولي وهي مرحلة "التردي" الممتدة من عام 2011 الي 2014، ليتطور الي صراع عسكري وذلك من خلال المرحلة الثانية “الصراع العسكري" الممتدة من عام 2014 وحتى الآن. 

موقف البعثة الأممية بليبيا 

أسهمت الجماعات المسلحة بكل أنواعها واشكالها ومسمياتها بالحوادث الدامية والتصفيات الجسدية، والإغتيالات اليومية في مدينة بنغازي تحديداً وفي الشرق الليبي بصفة عامة، والتفجيرات المتتابعة لبعض المواقع بكل المناطق الليبية، كما تم اسكات مؤسسات المجتمع المدني أو تصفية أعضائها أو إجبارها علي الفرار خارج ليبيا، لقد بلغ حجم التصفيات يومياًبمدينة بنغازي عام 2015 "11" مواطناً، وفي خلال أشهر قليلة بلغ حجم الإغتيالات والتصفيات لعدد تجاوز "400" مواطن ليبي نفس العام.

لم نشهد تحركاً فعلياً من قبل المجتمع الدولي تجاه ما يحدث من عمليات القتل والإغتيال والتفجير الناجمة من التطرف والإرهاب، والذي تم التأكيد والإعتراف علي بعض من عملياته من قبل تنظيم الدولة الإسلامية، حيث يفترض أن تكون مكافحته من أولويات الشأن الدولي.

يكاد موقف البعثة الأممية بليبيا ان يكون منعدما وفي حده الادني من التجاوب (فلم يصدر أي بيان استنكار أو شجب أو زيارة رسمية للوقوف علي مجريات ما يحدث بتلك المدن الشرقية)، وهو ما يؤيد الدوافع الحقيقية للتدخل الدولي بأنها لم تكن إطلاقاً لأغراض إنسانية، فلا إكتراث للشأن الإنساني (بعدما كان التدخل مهما ومتوافقا مع المصالح الدولية لحماية مدينة بنغازي ضد رتل القذافي)، وهو ما يتناقض تماماً مع متطلبات وأسس ومبادئ الحماية الدولية ومضمون التدخل الدولي الإنساني بالقراراين الصادرين تجاه ليبيا 1970 و 1973. 

جراح الجيش الليبي ...وإعادة الثقة قبل البناء

أعاد الجيش الليبي نواته من جديد رغم الإنكسارات المتوالية والمتكررة وبعدما أضعفت بنيته وتغيرت عقيدته في الأعوام السابقة من مراحل النظام الليبي السابق، الامر الذي أثر علي ضعف القدرة العسكرية والأمنية الليبية، وبهذا انتقلت بنية الجيش ما قبل فبراير 2011 الي الولاءات بدلاً من الأقدميات والكفاءات، وتم حجب الكثير من الضباط لممارسة مهامهم او تهميشهم او انهاء خدمتهم، وانتقلت الفكرة الي بناء كيان يسمي "الكتائب الأمنية" كبديل لمسميات الجيوش التقليدية، رغم الإحتفاظ بالمسميات القانونية والتي تعتبر الولاءات فيها أكثر تأثيراً وبروزاً.

شهدت الأشهر الأولي لما بعد فبراير زخماً كبيراً منادياً بإعادة ترتيب الكيان العسكري، ومحاولة لدرء خطر المليشيات والجماعات المسلحة والتي قد مُنحت التخويلات القانونية بتأسيسها وإنشائها من خلال المجلس الوطني الإنتقالي "السلطة الشرعية حينها"، حيث أصبحت تلك الظاهرة تشكل ثقلاً أمنياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً في مجريات الأمور بعد التحرير.

 وبالرغم من انطلاق العديد من المناشط المجتمعية ومنها مسيرة "نصف عام علي طريق الحرية" بساحة الكيش في مدينة بنغازي، واستمرار التنبيه من خلال اعتصام تواصل للعديد من الأشهر تحت مسمي حراك 11/11/2011 بميدان الشجرة بمدينة بنغازي ، حيث كانت أهم مطالبه إعادة بناء الاجهزة العسكرية "الجيش والشرطة"، وتواصلت  الندوات والمؤتمرات في مدينة طرابلس بعد التحرير تحت مسميات عدة والتي جمعت مئات من ضباط الجيش الليبي وضباط الشرطة، الا أن كل تلك الخطوات لم تلقي إهتمام المجتمع الدولي ولم تحظي بدعم المجتمع المحلي الذي كان منشغلاً حينها بإعادة ترتيب بيته والاستجابة للمستجدات والتغيرات.  

لقد دفع الوضع العام والإنفلات الأمني انطلاق ما يعرف بــــ "الكرامة" بتاريخ 14/2/ 2014 بمدينة طرابلس وذلك في مواجهة التطرف الإسلامي "الدولة الإسلامية، الجماعة المقاتلة، الإخوان المسلمين، أنصار الشريعة، وغيرهم. والتي تم إحتضانها ودعمها والإنخراط بها من شباب المناطق المدنيين بمدينة بنغازي وكامل المدن الشرقية بليبيا كما التف حولها جلٌ القبائل والمشايخ، وهو ما دفع مجلس النواب الليبي لإضفاء الشرعية علي قيادتها. 

رفض الدول الضاغطة بالأمم المتحدة الإعتراف بـــ "الكرامة"

أن فكرة تكوين المؤسسة العسكرية بالرغم من الإعلان عنها في مدينة طرابلس، الا أنها لقت الحاضنة الفاعلة والكبيرة والمؤثرة في المنطقة الشرقية لليبيا، كما تم دعمها من بعض المناطق الغربية كـ"مدينة الزنتان" بجبل نفوسة، مع إسكات أصوات داعميها في الغرب والجنوب. غير أن "الكرامة" لم تكن ضمن توجهات وتطلعات ورؤية الأمم المتحدة، حيث لم تعترف البعثة الأممية لدي ليبيا رسمياً بعملية الكرامة رغم أنها تصب في صالح ومسار ومنهج مكافحة الإرهاب الدولي والتطرف الإسلامي، كما تم رفضها تكراراً من قبل السلطات الإيطالية وهو ما يمثل ديدن السياسة الخارجية الإيطالية في رفض كافة القرارات الصادرة عن الكيان التشريعي الليبي الشرعي. في المقابل تم دعم بعض الميليشيات أو الجماعات الضاغطة العسكرية وحصر الإمكانيات من خلالها وتحت قيادتها (دون شرعية مجلس النواب الليبي)، وهو ما أضاف كيانات عسكرية أخري تحت مسمي "فجر ليبيا" و" البنيان المرصوص"  وذلك لتحدي ومواجهة التطورات العسكرية الشرقية ومجابهة المولود العسكري الجديد، الأمر الذي تحقق لآحقاً في المجابهات والصراعات النفطية او ما يعرف بــــ"صراعات الهلال النفطي". 

تبدل موازين القوى وتراجع موقف الأمم المتحدة

وبإستمرار الصراع، واثبات الموقف والقوة في الواقع وعلي الأرض، تغيرت توجهات الأمم المتحدة والدول الضاغطة بها لصالح القيادة العسكرية المنبثقة من مجلس النواب الليبي "الكرامة"، والتي أثبتت قدرتها في مقارعة الإرهاب، وهو ما قاد الأمم المتحدة وبعض الدول الأعضاء بها للإعتراف ومنح الشرعية العرفية للجيش الليبي، دون رفض التعامل مع الجهات العسكرية الأخرى. 

ازدواجية معايير الأمم المتحدة تجاه الشأن الداخلي الليبي

تغاضت الأمم المتحدة، عن جرائم الكثير من الميليشيات والجماعات العسكرية "خارج الشرعية"، والتي قامت بتدمير العديد من المؤسسات المدنية والعسكرية  وقتل الأبرياء والإختطاف القسري وعمليات التهريب وتدمير البني التحتية للبلاد، ابتداء من حادثة تفجير مطار طرابلس الدولي وتدمير الطائرات المدنية عام 2014 ، وانتهاء بالتفجيرات والأعمال الإرهابية بمدينة طرابلس عام 2018. واكتفت ببيانات التهدئة واحياناً بالشجب، دونما ان تتخذ إجراءات فعلية كتلك المتعلقة بالجنايات الدولية وعقوبات تتعلق بتجميد الأرصدة ومتابعة الإجرام والمجرمين. 

كما رأينا أن مبعوث الأمم المتحدة الأسبق "مارتن كوبلر" بتاريخ 22/7/2016، يقوم بزيارة لأحد قادة البنيان المرصوص بالموانئ النفطية واضفاء صبغة الشرعية علي ما يقوم به في التحكم بالمصير النفطي والشريان الحيوي للدخل القومي الليبي. لقد استضافت ايضاً الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 25 مايو 2015، "جون ماكيين" المرشح الأمريكي للرئاسة، والذي قام بتكريم أحد قادة "الجماعة الليبية المقاتلة"، وهو ما يؤكد خلفيات التدخل الدولي الإنساني ومساقاته ونواياه وإتجاهاته. 
 
وهكذا يستمر الدور الأممي بازدواجية معاييره، وانتقائه، ودعمه لجماعات خارج الأطر الشرعية الوطنية الليبية، وتدخلة الهدام في تسوية الأزمات الواحدة تلو الأخرى، وفشل المبعوثين وفقاً لتبني مواقف يشوبها الكثير من الغموض، وسياسات غير واضحة ولا ترتقي للبناء المستهدف ودولة القانون المنشودة.