كما لو أنه استخرجها من الحلم لتكون ملاذه الأخير، بيت ضيوفه القادمين بكرم حضورهم الثقافي والإنساني من مختلف أنحاء العالم، نافذته التي تطل منها أسطورته الشخصية على العالم، ينظر محمد بن عيسى إلى مدينته الصغيرة بحرص الأب وافتتان العاشق وشوق المسافر العائد لتوه من سفر طويل.

صورته التي تشف عنها مدينته

أصيلة ومحمد بن عيسى بعد ستة وثلاثين عاما من الانصهار وتبادل الأسرار هما اليوم شيء واحد. الشيء نفسه. ما من مسافة تقع بينهما لينفصلا. فما إن نقول أصيلة حتى يتبادر إلى الذهن مشهد موسمها الثقافي الذي يشف عن صورة محمد بن عسى، مؤسس ذلك الموسم. الابن الذي لم يفارق مدينته بالرغم من ذيوع صيته بين الجهات الأربع. شهد فجر حياته فيها وكبر بها وضلل الزمن من أجل أن لا يمر بها.

فكلما كبرت هذه المدينة الصغيرة التي تقع على المحيط الأطلسي كلما ازدادت نضارة وأناقة وبعثا للأحلام التي يمتزج فيها الشعر بالرسم في ظل إيقاع موسيقي لا يتوقف. أما بن عيسى فإن الزمن لم يمر من خلاله بل يمشي إلى جانبه. تفارقه عشرين سنة لتراه كما لو أنك أغمضت عينيك لدقيقتين. فتى لا يشيخ، جمال مشروعه يزيده حيوية وعزما وخبرة إنسانية.

في أكثر مراحل مسؤولياته الرسمية تعقيدا لم يتخل بن عيسى عن حلمه الذي هو عبارة عن صورة مدينته وهي تخترق الخيال العالمي مكانا يؤمه الكتاب والرسامون والمفكرون والمؤرخون ليعلموا ويتعلموا.

يستقبلك بن عيسى بنفسه كما لو أنك ضيفه الشخصي. حفاوته لا تخفي حفاوة سكان مدينته الذين أصيبوا بعدوى الثقافة والاحتفاء بالآخر الذي لم يعد غريبا. لقد تربت أجيال في الحاضنة الثقافية التي صنعها بن عيسى. أجيال صارت لها خبرة عميقة في إدارة الشأن الثقافي.

بين السياسي والثقافي

توزعت حياة بن عيسى بين السياسة والثقافة، بطريقة تكاد لا تقع إلا في حالات نادرة. فالرجل المولود عام 1937 كان وزيرا للخارجية لأكثر من ثماني سنوات وقبلها كان وزيرا للثقافة وما بين المنصبين كان سفيرا للمملكة المغربية لدى الولايات المتحدة. وكما يبدو فإن دراسته الصحافة في جامعتي القاهرة ومينيسوتا قد زرعت في نفسه شغفا في معرفة أحوال الناس، وهو ما كشفت عنه دراساته حول مناطق مختلفة في أفريقيا لتقييم ظروفها التنموية والبيئية والبحث عن حلول طويلة الأمد لتحسين الظروف المعيشية فيها. حدث ذلك يوم كان ملحقا إعلاميا في البعثة المغربية الدائمة إلى الأمم المتحدة. وهي أول وظيفة رسمية يتصدى للقيام بها.

حين عاد إلى المغرب عام 1976 ترأس إدارة جريدة تصدر باللغتين العربية والفرنسية، غير أن النزعة السياسية التي هي جزء من تكوينه النفسي قادته إلى أن يكون عضوا في البرلمان المغربي ممثلا مدينته أصيلة. حدث ذلك عام 1977، وهو ما مهد له أن يكون عمدة للمدينة بدءا من عام 1983. وهو المنصب الذي استطاع بن عيسى من خلاله أن يطور فعاليات موسم المدينة الثقافي الذي انطلقت دورته الأولى عام 1978. يومها طلب بن عيسى من أحد عشر رساما مغربيا أن يزينوا جدران المدينة التاريخية برسومهم.

فكرة تكشف عن طريقة عمل متحضرة لإنقاذ الناس جماليا من خلال أكثر الممارسات تقشفا. يقول بن عيسى “لا تستطيع إنهاء الفقر بالفن لكنك تستطيع إنهاء البؤس″ جملة يمكنها أن تكون مصدر إيحاء فكري. فالرجل الذي تنقل بين الثقافة والسياسة بخفة وتوازن لا يمكنه أن يعول على الحلول السحرية التي قد لا تكون سوى فقاعات لا جدوى منها.

العمدة الذي يراهن على الجمال

كان رهانه على الجمال قد بدأ من شراكة فكرية جمعته بالرسام المغربي محمد المليحي، وهو الآخر ابن أصيلة، الحالم بالمدينة الفاضلة. وإذا ما كان عقد الشراكة بين الرجلين قد انفض منذ سنوات، حيث تفرغ المليحي لفنه فإن بن عيسى لا يزال مخلصا لذلك الوتر المشدود الذي صار نغمه يعبر القارات ليضع أصيلة على خارطة الثقافة العالمية. وقد يرى المرء في الاحتجاجات التي رافقت افتتاح دورة الموسم الأخيرة نوعا من الارتياب الشعبي بجدوى الموسم، من جهة ما يحصده الناس العاديون من سكان المدينة من الموسم من منافع. غير أن تلك الاحتجاجات لا تمثل تقييما للموسم، بقدر ما تؤسس لنوع من النقد لأداء العمدة الذي هو بن عيسى نفسه.

يدرك بن عيسى أن ما فعله لمدينته لم يفعله أحد آخر في محيطنا العربي. فالمدينة الفقيرة بمواردها صارت اليوم تتصدر لائحة المواقع الثقافية في العالم. هي معجزة غنية بدروسها. كان من الممكن أن تكون أصيلة مدينة نائمة على الأطلسي مثل عدد كبير من المدن المغربية. أما أن يتذكر المرء أنه التقى بالرئيس السنغالي الشاعر سنغور في أصيلة مثلما حدث لي عام 1990 فتلك مفاجأة لا يمكن أن تقع إلا في سياق تاريخي مختلف، كان بن عيسى قد صنعه.

بحكم علاقاته السياسية والثقافية عبر العالم استطاع بن عيسى أن يخلق للثقافة جسدا، ممثلا في المدينة التي أحبها أكثر من سواها من مدن العالم التي عاش فيها. صارت أصيلة بسببه عاصمة ثابتة للثقافة العالمية. يزورها المرء مرة واحدة ليتمنى أن يكون ضيفا دائما فيها، بالرغم من أنها لا تزال صغيرة، بل وأصغر من أن يراها السائح على الخارطة. خارج موسمها الثقافي ستكون مبعثا للضجر.

كان نضالا حقيقيا قام به المحمدان (بن عيسى والمليحي) من أجل أن يصلا إلى أن تكون الثقافة والفن من أجل التطوير، شعارهما الذي لم يكن ذا معنى حين كانت البنية التحتية للمدينة مخربة تماما. لذلك ركزا على أن يكون المكان نظيفا، وهي خطوتهما الأولى لإنجاز مشروعهما الخيالي. لقد حررا المدينة من إرثها المتخلف على مستوى الخدمات، حينها صارت المدينة ممكنة بما تقدمه من غواية جمالية.

لقد نفض الموسم الغبار عن جمال المدينة، فبدت أصيلة مدينة أخرى. فالمدينة التي يراها المرء اليوم مفتونا بأزقتها وأسوارها وبإطلالتها على البحر لم تكن كذلك قبل بدء موسمها الثقافي.

مدينته ومدينة الآخرين

صنع بن عيسى والمليحي مدينة بحجم أحلامهما، وهي المدينة التي قد لا يراها المرء كاملة في ذروة اشتباكه في الحوارات الثقافية التي تشهدها فضاءاتها التي تمزج الخيال بالواقع. لذلك يمكنني القول إن المرء يغادر أصيلة وهو على يقين من أنها كانت مدينة متخيلة. المدينة الفاضلة التي تخيلها بن عيسى والمليحي لتكون مأوى أبديا للفنانين. غير فنان عربي وعالمي كان قد اشترى بيتا صغيرا له في المدينة القديمة. هذه مدينة تصلح للعيش المجازي، خارج حدود الزمن. لا تاريخيتها وهي واحدة من أفكار بن عيسى تسلمها إلى المستقبل بيدين ناعمتين. هل كانت أصيلة بن عيسى هي غير أصيلة الناس العاديين من سكانها؟ بالتأكيد هما مدينتان. ما يحلم به بن عيسى فيه هو شيء مختلف عما يراه الناس العاديون. لا لأن الرجل لم يبح بسره، بل لأن ذلك السر الجمالي لم يكن ميسرا لفهم العامة. بعد ست وثلاثين سنة من عمره يبدو الموسم الثقافي كما لو أنه في قمة شبابه. بن عيسى هو الآخر يبدو كذلك. يهب الاثنان أصيلة صورة المدينة التي لا تشبه نفسها. ما من شيء يذكر بالسياحة التقليدية. هذه مدينة تعي أن ما تصنعه لا يتكرر. وهو الحلم الذي نذر بن عيسى من أجله حياته.

 

*نقلا عن العرب اللندنية