كان جمهور مهرجان "كناوة"، ليلة أمس السبت، على موعد مع سهرة أحياها أحد أيقونات هذه الموسيقى الروحية في المغرب "المعلم محمود غينيا" الذي يتقن فن "تكناويت" ويبرع في العزف على آلاتها الخاصة كـ"الهجهوج " و"الكنبري"، استقطب الآلاف من جمهور مدينة الصويرة الذي ردد الأغاني التي صدح بها في سماء المدينة حتى ساعة متأخرة من ليلة أمس.
هذا المعلم الكناوي، الذي تنحدر أصوله بشكل مباشر من مالي، حيث تم بيع جده أثناء سنوات الرق في الصحراء، إلا أن والده العاشق لفن كناوة، درب ابنه على اتقان لعزف على "ألة "الكنبري " (ألة إفريقية تستعمل في موسيقى كناوة)، في وقت مبكر حياته، ليجعلوا من فن كناوة وسيلة للحديث عن هذه المعاناة التي عاشوها سليبي الحرية والمصير ومغمورين رغم موهبة الفنية الفذة، قبل أن يتألقوا في سماء الفن الكناوي، ويسهموا في إبرازه على الساحة الفنية العالمية.
المعلم الكناوي، الذي غنى في حفلات موسيقية عالمية إلى جانب أشهر الأسماء الموسيقية العالمية كـ"كارلوس سانتانا" و"آدم رودولف"و"علي كيتا"، ورغم انفتاحه على ألوان موسيقية عالمية، حافظ على أصالة تراث "فن كناوة" ليصنفه الجمهور ضمن أشهر لأعلام الموسيقية لهذا الفن، وذلك لإطرابه عشاق "فن كناوة" بصوته الجوهري وعزفه المتقن، وأغانيه التراثية الخالصة، التي تأصل لعراقة هذا الفن وجذوره الراسخة في الثقافة المغربية والعالمية.
وفي دورات سابقة من المهرجان تألف المعلم "محمود غينيا " في أداء عرض موسيقية جنبا إلى جنب بصحبة المغني الموريتاني "دابي توري"، حيث اعتبر حينها حدث الموسم، في لقاء مميزة بين موسيقى الطوارق وفن كناوة ذو الجذور الأفريقية.
ولعقود، عاشت موسيقى "كناوة" الصوفية لحنا مغمورا في أزقة مدينة الصويرة (جنوب المغرب) ودروبها العتيقة، وبعد 17 سنة، جعل منها "مهرجان كناوة .. موسيقى العالم"، الذي تحتضنه المدينة، موسيقى عالمية، تنافس موسيقى الجاز وتصنف في خانة الإيقاعات الروحية لشعوب العالم، تحكي قصة الأفريقي القادم من جنوب الصحراء مهاجرا وخادما في قصور السلاطين، ومستوطنا للبلد الجديد، بل ومسهما في صياغة ثقافته.
يكفي أن تتعالى صيحات "المعلم الكناوي" (قائد الفرقة) في سماء مدينة الصويرة لتروي أنغامه، وأغانيه الصوفية "رحلة الرق" وبعضا من معاناتها، وحكاية تعايش العربي والأفريقي المسلم على أرض المغرب، وتعيد إلى الذاكرة صخب الاحتفالات في القبائل الأفريقية القديمة، مصحوبا بآلة الهجهوج (آلة وترية مغربية).
فعلى مدى 4 أيام، مطلع الأسبوع الجاري، استضافت مدينة الصويرة (حوالي 400 كلم جنوب الرباط) فرقا موسيقية للفن الكناوي من كل أنحاء المغرب وأخرى قادمة من بلدان أفريقية ومن أمريكا، في إطار الدورة السادسة عشر لـ"مهرجان كناوة .. موسيقى العالم "، والتي تعتبر بحسب مهتمين حدثا يتجاوز البعد الاحتفالي الفلكلوري إلى الكشف عن وجه آخر لطبيعة بلدان المغرب العربي بعمقها الأفريقي وامتداداته الثقافية والحضارية.
وفي "الصويرة" المستكينة على ضفاف الأطلسي، والتي احتضنت بين أسوارها القديمة حكايات تعايش لعدد من الثقافات والديانات يهودية ومسلمة، عربية وأفريقية أمازيغية، تعتلي الخشيات (منصات العزف) التي أقيمت في أكثر من فضاء داخل المدينة العتيقة فرق "الفن الكناوي"، ويسهر جمهور المدينة وآخرون قدموا خصيصا لمتابعة المهرجان من كل أنحاء المغرب ومن خارجه إلى ساعات الصباح الأولى على وقع أهازيج كناوة، غير عابئين بلسعات ريح المدينة البحري ولا بأجوائها الباردة.
كلمات الأغاني الكناوية العربية ترتدي عباءة اللحن الأفريقي، بل تغنى على إيقاع الأهازيج التي كان يرددها القادمون من أفريقيا في احتفالات قبائلهم، وحين ترحالهم مع القوافل التي تجتاز الصحراء في رحلات التجارة التي كانت تقصد أفريقيا بحثا عن المواد الأولية والذهب والملح وغيرها، كان الزنوج يسخرون للخدمة في قصور أمراء الإمبراطوريات التي حكمت بلاد المغارب (تونس والمغرب والجزائر)، وحين إقامتهم في ديارهم الجديدة دخلوا الإسلام واعتنقوه بمحبة صوفية، فأبدعوا موسيقى كناوة التي تعد اليوم أحد أشهر الألحان الصوفية التي يمتزج فيها الموروث الأمازيغي والعربي الإسلامي والأفريقي.
وتعود الأغاني الكناوية لدى العديد من القبائل الإفريقية إلى أساطير قديمة حملها المهاجرون إلى المغرب في رحلات هجرة قسرية حينا وطوعية حينا آخر، حيث يقول المعلمون الكناويون إن هذه الموسيقى هي إرثهم الخاص.
وكانت في البدء موسيقى دينية تحيى بها ليالي التقرب إلى الله في الزوايا والأضرحة، فاكتست وما تزال بعدا صوفيا خالصا، يجعل من كلمات الأغاني الكناوية قصائد مناجاة لله، وأخرى تروي تاريخ المعارك التي شارك فيها المغاربة للدفاع عن بلدهم أيام حروب الاستعمار، وقصائد تقص بتفصيل مطول رحلة المهاجر الأفريقي إلى الشمال أحيانا في هجرات "الرق" وأخرى حين استوطن عدد من الزنوج الأفارقة بلاد المغرب برغبتهم.
أما مدينة الصويرة بالساحل الجنوبي للمغرب فكانت مرفئا تحط فيه السفن القادمة من شواطئ أفريقيا السوداء، في رحلتها للشمال، ما جعل العديد من الزنوج الأفارقة يختارونها مقرا للإقامة، ما أضفي على هذه المدينة الشاطئية الصغيرة طابعا متميزا، خصوصا أنها كانت منذ قرون موطنا عاش فيه اليهود المغاربة إلى جانب المسلمين، وخلفوا تراثا حضاريا ميز الصويرة عن باقي المدن والحواضر التاريخية الأخرى.
ويستمد مهرجان كناوة، الذي يقام سنويا بالمدينة، برعاية العاهل المغربي محمد السادس، من كل هذا الزخم الثقافي الذي تعبر عنه هذه الموسيقى الروحية، الأهمية التي أضحى يكتسيها والاهتمام الإعلامي والثقافي الذي يسلط عليه، فبالإضافة إلى فرق كناوة المحلية تقدم عروضا يشارك فيها فنانون عالميون يؤدون مقاطع من فن الجاز الذي يتقاطع، في منشئه التاريخي عن الاستعباد والتهميش ومعاناة الزنوج بأمريكا وأوروبا، مع موسيقى كناوة، فتلتقي على خشبة واحدة وعلى إيقاع أنغام واحدة رواية إنسانية اختار أصحابها أن يكتبوها بالموسيقى.