تزداد ملامح انخراط تركيا في ليبيا وضوحا،في ظل الاتهامات المتصاعدة لنظام أردوغان بمواصلة العبث بأمن هذا البلد الممزق بالانقسامات منذ سنوات وإنتاج المزيد من عدم الاستقرار فيه وذلك من خلال ارسال شحنات الأسلحة والمرتزقة لدعم الجماعات الموالية لأنقرة بهدف مد أذرعها والسيطرة على البلاد خدمة لمصالحها وأطماعها في هذا البلد الغني.
آخر هذه الاتهامات ساقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون،الذي أكد خلال لقاء جمع الرئيس الفرنسي برئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، في قصر الإليزيه، أمس،أن فرنسا رصدت خلال الأيام الماضية سفنا تنقل مرتزقة سوريين إلى ليبيا.وقال ماكرون،أن "تركيا أخلت بتعهداتها التي قطعتها على نفسها خلال مؤتمر برلين"، مضيفا "خلال الأيام الأخيرة رصدنا سفنا تركية تحمل مرتزقة سوريين وصلوا إلى ليبيا".
واتهم ماكرون، الرئيس التركي مباشرةً بعدم احترام الالتزامات، التي عبّر عنها في "مؤتمر برلين" الأخير من خلال إرسال مقاتلين وسفن حربية لدعم حكومة السراج، وهو ما يزيد من تأجيج الصراع بين الأطراف الليبية المتحاربة، ويطيل أمد الصراع.وأضاف الرئيس الفرنسي أن ما تقوم به تركيا "يهدد أمن جميع الأوروبيين وحتى سكان بلدان الساحل" الأفريقي. وذهب إلى إدانة الاتفاق الموقّع بين "حكومة الوفاق" وتركيا بـ"أشد العبارات".
وفي سياق متصل،أكدت مصر وفرنسا مجددا مساء الأربعاء رفضهما للتدخلات الخارجية في ليبيا.وصرح المستشار أحمد حافظ، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية بأن وزير الخارجية سامح شكري تلقى اتصالا هاتفيا من نظيره الفرنسي جان-إيف لودريان،أكد خلاله الوزيران رفضهما للتدخلات الخارجية في ليبيا، كما استعرض الوزير الفرنسي تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة في هذا الصدد، بحسب بيان الخارجية المصرية.
وبدوره أعرب المندوب التونسي لدى الأمم المتحدة، المنصف البعتي، مساء أمس الأربعاء، عن قلقه الشديد من نقل مقاتلين سوريين للقتال في ليبيا.وقال البعثي خلال كلمة ألقاها في جلسة حول الأزمة السورية بالأمم المتحدة: "نعرب عن قلقنا الشديد إزاء عمليات نقل مقاتلين سوريين إلى ليبيا".
وفي الـ19 من شهر يناير/ كانون الثاني التزم قادة الدول المشاركة في مؤتمر برلين بشأن الأزمة الليبية باحترام حظر إرسال الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة عام 2011، ووقف أي تدخل خارجي في النزاع القائم بالبلد منذ سنوات.واتفقت الدول المشاركة في هذا المؤتمر - وهي الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا والصين وألمانيا وتركيا وإيطاليا ومصر والإمارات والجزائر والكونغو- على ألا "حل عسكريا" للنزاع الذي يمزق ليبيا. ودعا المشاركون كذلك إلى وقف دائم وفعلي لإطلاق النار.
لكن الرئيس التركي وبالرغم من تعهداته في مؤتمر برلين واصل عبثه بأمن ليبيا،ولم تكن هذه الاتهامات الفرنسية باستمرار التدل التركي في الشأن الليبي الأولى،فالثلاثاء الماضي،أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف،إن عددا كبيرا من المسلحين في إدلب بسوريا يتوجه إلى ليبيا، في خرق للقرارات الدولية.وأضاف لافروف في مؤتمر صحفي مع وزيرة خارجية جنوب السودان "عدد كبير من المسلحين يسافرون إلى ليبيا، خلافا لقرارات مجلس الأمن، للتدخل في الشؤون الداخلية الليبية (..) ولذلك تواصلنا مع وزير الخارجية التركي" في هذا الشأن.
وتؤكد هذه الاتهامات من مسؤولين دوليين صحة التقارير الإعلامية التي تحدثت الأربعاء عن بدء أنقرة عمليات إنزال لجنودها ولمرتزقة في ليبيا لدعم الميليشيات.تداول نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، صورا لبوارج حربية تركية، قيل إنها وصلت إلى ميناء طرابلس، وعلى متنها جنود أتراك. وبحسب ما نشرته مصادر إعلامية مطلعة، فأن بارجتين يحملان أسماء غازي عنتاب" و"قيديز"، يرافقهما سفينة شحن قاموا بإنزال دبابات وشاحنات عسكرية، لافتة إلى أنه تم نقل العتاد والذخائر إلى قاعدة معيتيقة الجوية وسط العاصمة طرابلس.
وأعلن الجيش الوطني الليبي عن قيام تركيا بإنزال سفينتين حربيتين تركيتين، وصواريخ مضادة للطائرات، وأنظمة دفاع جوي، في ميناء طرابلس.وقال المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي، اللواء أحمد المسماري، في مؤتمر صحفي، مساء أمس الأربعاء، إن "عدد المرتزقة السوريين الذين نقلتهم تركيا إلى ليبيا تجاوز الثلاثة آلاف عنصر"، مشيرا إلى أن "أنقرة تنقل الإرهابيين الخطيرين من سوريا إلى ليبيا عبر مطاري مصراتة ومعيتيقة وميناء طرابلس.
كما أعلن الناطق باسم القائد العام للجيش الليبي،رصد مرتزقة سوريين مدعومين بعناصر عسكرية تركية على حدود مدينة مصراتة، وكذلك عند الحدود التونسية.وأوضح المسماري، أن "تركيا تقوم بتمكين عناصر داعش والقاعدة من التواجد على الساحل الليبي، وربما سينتقل جزء منهم إلى أوروبا".وأشار الى أن المرتزقة السوريين يتخذون من المدارس في مدينة طرابلس مقرات، مؤكداً خرقهم للهدنة في أكثر من محور.
وذكر المسماري أن "تركيا أصبحت ملاذا لعناصر وقيادات إرهابية منهم خالد نوات من قادة المقاتلة وكذلك بشير الفقي من قيادات القاعدة وخالد العماري من القاعدة أيضا، والقيادي سالم جابر من تنظيم أنصار الشريعة، بالإضافة إلى أشرف بن إسماعيل ممول للجماعات الإرهابية". وأوضح أن "بقية الأسماء سيتم نشرها عبر صفحة الناطق الرسمي باسم القائد العام للجيش الليبي".
وتعتبر تركيا بمثابة ملجأ لجهاديي ليبيا الذين إرتبطوا معها بعلاقات كبيرة، وخاصة قيادات الجماعة الليبية المقاتلة، كعبد الحكيم بلحاج وخالد الشريف، اللذين يملكان استثمارات مالية وعقارية كبيرة في تركيا، تقول تقارير ورسائل سربها موقع ويكيليكس إنهما قد نهباها من أموال مؤسسات الدولة الليبية في أعقاب سيطرتهما على العاصمة طرابلس. ويرى المراقبون، أن المحاولات التركية لدعم المليشيات الموالية لها لن تتوقف وذلك بسبب المصالح التي تجمعها بالحركات الإسلامية العابرة للحدود.
وفي غضون ذلك تتحرك تركيا في محاولة لتبرير عبثها بأمن ليبيا،حيث سارعت الخارجية التركية الى اتهام فرنسا بالتسبب في الأزمة الليبية.واعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية حامي أقصوي في بيان إن "فرنسا هي الفاعل الرئيسي المسؤول عن المشكلات في ليبيا منذ بدء الأزمة في 2011"، بحسب وكالة الأناضول للأنباء التركية الرسمية.
من جهة أخرى،وجّهت محكمة تركية طلبا إلى موقع تويتر لحذف تغريدة لصحافية أميركية نشرت فيديو يتضمن تصريحات للمتحدث باسم الجيش الوطني الليبي العميد أحمد المسماري، حول ضلوع المخابرات التركية عبر منظمات غير حكومية في جلب مرتزقة سوريين إلى ليبيا.ونشرت الصحافية الأميركية المتخصصة في تغطية الأزمات الإنسانية والصراعات ليندسي سينل رسالة وصلتها من إدارة تويتر تعلمها فيها أن الموقع تلقى أمرا من محكمة تركية بشأن رابط نشر على حسابها، باعتباره ينتهك القوانين التركية.
وأوضح تويتر أنه لم يتخذ بعد أي إجراء بخصوص التغريدة التي نشرتها سينل، كنتيجة للطلب التركي.وأعادت الصحفية سينل نشر التغريدة التي سبق وأن نشرتها يوم 18 من الشهر الجاري، معقبة بقولها: قدمت تركيا أمرًا من المحكمة في محاولة لإزالة هذه التغريدة. الحقيقة تؤلمني ، كما أعتقد".
وتطرق أحمد المسماري في الفيديو إلى جمعية "كام دير" التابعة للمخابرات التركية التي تشرف على نقل مقاتلين سوريين إلى ليبيا، موضحا أن هذه الجمعية هي حلقة الوصل بين الإرهابيين في ليبيا وتركيا، مستعرضا في سياق مؤتمر الصحفي صورا لرئيس الجمعية مع شخصيات إرهابية مطلوبة دوليا.
وكانت الصحافية نشرت عدة تغريدات عن مقابلتها مع مرتزق سوري في ليبيا حيث نقلت سينل، تفاصيل دقيقة عن تجنيد تركيا "مرتزقة سوريين" للقتال في ليبيا إلى جانب قوات حكومة الوفاق.وقالت ليندسي، إن هؤلاء المرتزقة أصبحوا غاضبين أكثر فأكثر، ونتيجة لذلك باتوا على استعداد لتقديم المعلومات والمقابلات والصور ومقاطع الفيديو التي تكشف حقًا ما يفعله نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سوريا والآن أيضًا في ليبيا.
وأشارت الصحافية، إلى مقابلتها مع المرتزق السوري الذي أوضح أن المرتزقة ينتقلون من مناطق في ريف حلب الغربي ويعيشون في عفرين، ثم يعبرون من هناك إلى إسطنبول للسفر منها إلى طرابلس.وبشأن المقابل المادي الذي يحصل عليه المرتزقة مقابل القتال في ليبيا، نقلت الصحافية عن أحد قادة الجيش السوري الحر قوله إن كل مقاتل يحصل على ألفي دولار شهريا، كما أن تركيا تمنحهم هواتف محمولة مع بطاقات محملة بـ300 ليرة تركية لتتمكن تركيا من مراقبة اتصالاتهم.
وتأتي تحركات أنقرة في تعارض صارخ مع مخرجات مؤتمر برلين الذي تعهد فيه الرئيس التركي بالتوقف عن دعم الميليشيات بالسلاح والمرتزقة وعدم التدخل في الشأن الداخلي الليبي.وكان رئيس البعثة الأممي غسان سلامة،أكد أنه سيحاسب الرئيس التركي اذا أخل بتعهداته بعدم إرسال قوات أو مرتزقة إلى ليبيا. وقال سلامة حينها: "أنا لدي ورقة ولدي ما أحاسبه عليه وقبل ذلك هذا الأمر لم يكن متوفرا.. ولدي الآن تعهد منه".
وانخرطت تركيا في الصراع الليبي منذ سنوات،ولكن معركة طرابلس كشفت بوضوح حقيقة الدور المشبوه الذي تلعه أنقرة في دعم المليشيات الموالية لها خدمة لأجنداتها ومخططات أردوغان القائمة أساسا على نهب ثروات البلد التفطي وتوسيع نفوذه في المنطقة منقادا في ذلك بأحلام الخلافة التي سبق أن عبر عنها صراحة حين وصف ليبيا بأنها جزء من ارث أجداده العثمانيين على حد زعمه.
وفي ظل سنوات الفوضى والدم التي مرت عليها،مازالت ليبيا ضحية التدخلات الخارجية من الدول الداعمة للجماعات المسلحة والتي تسعى لإطالة أمد الأزمة ما يهدد بإراقة المزيد من دماء الليبيين.ويرى مراقبون أنه وأمام الصمت الدولي على هذه التدخلات السلبية،فإن على الليبيين التعويل على أنفسهم وتجاوز خلافاتهم وارساء سلطة موحدة قادرة على حماية البلاد ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية.