بدأت مصر مرحلة جديدة في حربها على التطرّف بالتوجه لمواجهة المتشددين خارج أراضيها، حيث أرسلت أخيرا وفدا علميا وفكريا رفيع المستوى من علماء دار الإفتاء، إلى كل من نيجيريا وكوت ديفوار والسنغال، كأول قافلة “إفتائية”، في إطار بروتوكول التعاون المشترك بين دار الإفتاء ووزارة الخارجية في مصر.

تهدف هذه الزيارة التي شملت بلدان غرب أفريقيا إلى توضيح الأحكام الشرعية ومكافحة التطرف الفكري على أرض الواقع، ونشر الفكر الوسطي في تلك البلاد، والتأكيد على ترحيب مصر واستعدادها لاستقبال أبناء أفريقيا من الراغبين في التدرّب على الفتوى لمواجهة فكر الجماعات الإرهابية، كذلك تهدف إلى التأكيد على أنّ مصر تفتح صفحة جديدة من تاريخها وتمد يدها إلى الجميع خاصة أبناء البيت الأفريقـي.

وفي هذا السياق، أكّد إبراهيم نجم مستشار مفتي الجمهورية، أن الجولة التي بدأها الوفد “الإفتائي”، الأحد الماضي، تشمل مقابلة رؤساء دول في غرب أفريقيا ووزراء خارجيتهم، والاجتماع مع عدد من مستشاري رئيس نيجيريا، وعقد ندوة حول وسطية الإسلام بمقر المسجد الوطني في أبوجا، وكذلك مقابلة مع رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في كوت ديفوار، وإلقاء خطبة يوم الجمعة 12سبتمبر باللغة الفرنسية بأحد المساجد الكبرى في أبيدجان، ومقابلة المسؤولين بالمعهد الإسلامي بداكار، بالإضافة إلى إلقاء عدة محاضرات عن الإسلام الوسطي، وعقد لقاءات وفعاليات جماهيرية وإعلامية مختلفة.

من جهة أخرى، أوضح مصدر بدار الإفتاء المصرية أنّ هذه القافلة هي مجرد بداية لقوافل أخرى ستجوب العالم، مشيرا إلى أنه سيتم ترتيب زيارات مماثلة إلى عدد من دول شرق آسيا وأوروبا والأميركيتين، الأمر الذي يعيد إلى مصر دورها الفكري والسياسي.

وقد كشف المصدر عن سر اختيار نيجيريا والسنغال وكوت ديفوار كبداية لعمل القوافل، فقال إنّ الأسئلة الواردة من هذه الدول على موقع دار الإفتاء أكدت حاجتها الشديدة إلى مواجهة الفتاوى الشاذة التي ينسبها بعض المتطرفين لصحيح الدين الإسلامي، خاصة أن هناك جماعات متطرفة تنشط في هذه الدول، مثل جماعة بوكو حرام في نيجيريا، والتي تتمتّع بروافد لها في دول أخــرى قريبـة.

وحول موعد القافلة الثانية ووجهتها، أكد المصدر ذاته أنه بعد عودة القافلة الأولى سيتم تقييم التجربة ودراسة نتائجها وإنجازاتها، وبناء على التقييمات سيتم البدء في الإعداد للخطوة الثانية، مؤكدا أنّ دار الإفتاء تسعى من خلال هذه القوافل إلى مواجهة الفكر المتشدد في عقر داره، لافتا إلى وجود بروتوكولات واتفاقيات تعاون مع الكثير من دول العالم التي ترسل وفودها للتدرب على يد علماء الدار .

أمّا بخصوص تأمين البعثة في ظل استهدافها لدول تنتشر بها الجماعات المتطرفة، مثل بوكو حرام التي سبق أن أشرنا إليها، فقد أكد المصدر أن تأمين البعثة مسؤولية الدول المضيفة، مشيرا إلى أنّه تمّ إخطار مسؤولي تلك الدول بخطة عمل اللجنة وأنشطتها قبل السفر، لكي يتسنى لها الوقت لاتخاذ التدابير اللازمة .

من جهته، أوضح الشيخ محمد زكي رئيس إدارة الدعوة بالأزهر الشريف أنّ القافلة التي انطلقت تأتي في إطار رسالة الأزهر، الذي يعدّ قبلة العالم الإسلامي الروحية، والمنوط بعهدته تبصير شعوب الأمة بأمور دينها ومواجهة الأفكار الشاذة وكشف حقيقتها للمسلمين .

حيث قال زكي لصحيفة العرب“العرب”، “إن دار الإفتاء تعمل تحت مظلة الأزهر الشريف وضمن منظومته العلمية، ولا تناقض بينهما، ونأمل أن تكون هذه القوافل فاتحة خير على المسلمين”، مشيرا إلى أنّ البعثات الأزهرية تنتشر في أنحاء العالم منذ عشرات السنين لنشر صحيح الإسلام ومواجهة الفـكر الهدام بقيم المودة والتسامح والتحابب، وهي بعثات تنطلق على نفقة الأزهر وكل الدول تشيد بدورها في توضيح حقيقة الإسلام الوسطي المعتــدل الذي يحض على التعــايش.

وفي ذات الإطار، شدّد رضا فرحات سفير مصر السابق في غينيا بيساو على أهمية القوافل الإفتائية في تعزيز الأمن القومي لمصر، عن طريق مواجهة الأفكار المتطرفة في عقر دارها، لاسيما أن أفريقيا أصبحت مكانا مغريا للجذب والاستقطاب لكثير من العناصر المتطرفة في العالم. 

وقال فرحات إنّ “السياسية الخارجية لمصر في الفترة الحالية تسعي لأخذ زمام المبادرة لحماية الأمن القومي ومواجهة التهديدات التي تتعرض لها البلاد”، موضحا أنّ القوافل الإفتائية بالإضافة إلى البعثات الأزهرية تمثل القوة الناعمة لمصر بدول العالم، وهي قادرة علي صناعة رأي عام داعم للقضايا المصرية بالدول الأفريقية، وقد تساهم بشكل أو بآخر في تهدئة بعض الأزمات بين مصر ودول أفريقية أخرى.

هذه الفكرة وجدت لها صدى كذلك عند العديد من رجال الدين المصريين الذين سارعوا إلى تثمينها شأن محمد الشحات الجندي عضو مجمع البحوث الإسلامية، الذي اعتبرها خطوة في الطريق الصحيح، في ظل انتشار الفكر المغلوط والجماعات المسلحة في الكثير من دول العالم، حيث قال إنّ هذه القوافل ستقوم بدور كبير وفعال في مواجهة الفكر المتطرف وتفنيد مزاعمه ودحض الأسس التي يقوم عليها، وسط اعتماده على تفسيرات مغلوطة ونشره لثقافة الكراهية التي تخالف تعاليم الإسلام الحنيف التي تشجع على قيم التسامح والتعايش، مؤكّدا على أنّ المواجهة الأمنية مع هذه الجماعات المتطرفة ليست كافية للقضاء عليها ومواجهة أخطارها، منوها بأهمية الخطوة التي قامت بها دار الإفتاء.

ومن جهتهم فسّر مراقبون خطوة دار الإفتاء بأنها استعادة لزمام المبادرة، حيث كانت مصر خلال خمسينات وستينات القرن الماضي رائدة في هذا المجال، ولعب المبعوثون المصريون دورا مهما في تكريس نفوذ مصر في دول مختلفة.

ولأن مصر تسعى اليوم لاستعادة دورها الإقليمي لجأت مرّة أخرى إلى قوتها الناعمة، كما أنّ تصاعد حمى الحرب على الأفكار المتشددة والإرهابيين، يعزز دور القاهرة، ويمنحها مكانة فكرية متميزة، يمكن أن تكون إلى جوار الدور الأمني نقطة ارتكاز جديدة.