من المؤكّد أن الموقع الجغرافي للمدن أو للدول، ذو أهمية كبيرة في عدة نواح وأساسا الاقتصادية منها، حيث تعرف من خلاله أي أفاق اقتصادية يمكن أن تلعبها إيجابا أو سلبا. والمعروف أيضا أن المناطق التي تكون على السواحل ذات حظ اقتصادي أكثر من غيرها باعتبارها تكون بوابة لأي عمل مربح عبر البحر. وهذا حال مدينة مصراتة الليبية التي كانت طوال تاريخها مركزا اقتصاديا ضخما ووجهة رئيسية لرواد الأعمال من ليبيا والعالم، ويعرّفها البعض أنها عاصمة الاقتصاد في البلاد وعموده الرئيسي.

بغض النظر عن المعطى التاريخي القديم الذي يعود بالنشاط التجاري لمصراتة إلى ألاف السنين عندما استعملها الفينيقيون في رحلاتهم التجارية عبر المتوسط، لكن حتى بالعودة إلى تاريخها القريب فإنها تعتبر قطبا اقتصاديا هاما لليبيا ومركزا بحريا هاما للمبادلات التجارية، بالإضافة أيضا لكونها مدينة فلاحية استثنائية بالنظر إلى خصوبة أراضيها واحتوائها على حوالي 200 ألف شجيرة نخيل التي تنتج ألاف الأطنان من التمور ألاف الأشجار المثمرة من تفاح وزيت الزيتون التي تسهلك في نسبتها الكبرى محليا. ويقام سنويا في المدينة معرض دولي تُعرض فيها تلك المنتوجات الفلاحية ودورها في الاقتصاد الليبي وقيمتها الصحية والغذائية.

كما تعتبر مصراتة أيضا قطبا صناعيا هاما ولدى سكانها ثقافة كاملة تقدّس العمل وهذا يعرفه أغلب الليبيين ويلاحظه كل من يزورها، الأمر الذي شجع أهل القرار في البلاد في إطار سياسة تنويع الموارد إلى تركيز معمل الحديد والصلب في العام 1979، بطاقة تشغيلية تتجاوز 5 ألاف عامل كانوا في البداية ليبييون في أغلبهم قبل أن تدخل العمالة الأجنبية وتكون جزءا من المعمل ومن العمالة الموجودة في البلاد بشكل عام، خاصة مع اختيار عدد من مواطني مصراتة التوجه نحو المجال التجاري بما فيه من مغامرات ومكاسب، حيث تشير بعض الأرقام التي ذكرها عضو مجلس المدينة، محمد التومي في يناير 2015 إلى أن "في مصراته 70% من الناس يعملون في التجارة والصناعة".

المعمل الذي يعتبر الأكبر بالنسبة إلى الصناعات في ليبيا عرف نسقا تصنيعيا كبيرا بين تاريخ أنشائه وتاريخ تطويره نهاية الثمانينات، وحتى الأحداث التي مرّت بها البلاد منذ العام 2011 وبعده حافظ فيها المعمل على نسق متقارب في التصدير على المستوى الخارجي حتى في عمق المشاكل الأمنية حيث تشير الأرقام المنشورة على الموقع الخاص به إلى أنها كانت إلى نهاية العام 2017 تقدّر بـ150 ألف طن وهو رقم هام، رغم أن الأرقام بعيدة كثيرا عما تم تسجيله سنتي 2006 و2007، اللتين اقتربت أرقام التصدير فيهما من مليون و400 ألف طن وبعائدات مالية كبيرة. كما أن للمعمل قيمة تسويقية محلية كبرى قبل تحولات 2011 وبعدها، حيث بلغت ما يقارب 500 ألف طن سنة 2017، وهو نصف ما تم بيعه سنة 2009 التي كانت المبيعات المحلية فيها تتجاوز المليون طن.

وما يؤكد القيمة الاقتصادية لمصراتة في ليبيا هو وجود هياكل مهمة تعنى بالشأن التجاري والصناعي التي تضم في صفوفها ألاف المنخرطين، حيث تذكر  غرفة التجارة والصناعة أن عددهم 30 ألف عضو  وهو خير دليل على قيمتها الاقتصادية في البلاد منذ عقود طويلة.

لكن الواقع أن من يقول مصراتة سيذهب مباشرة إلى مينائها الضخم، باعتباره وجهة البواخر التجارية رسوّا وعبورا،. والميناء كان إلى حدود وسط السبعينات غير مهيأ بالشكل المطلوب قبل أن تتخذ السلطات الليبية قرارا بتوسعته وتهيئته وهذا ما تم في العام 1978، ليصبح قادرا على استيعاب العدد الكبير من السفن القادمة إليه، حيث يعتبر بالإضافة إلى قيمته التجارية المستقطبة سواء لليبيين أو لغيرهم من تجار الدول المجاورة، ذا قيمة في مستوى السوق النفطية بعد أحداث 2011 باعتباره كان بوابة تصدير في ظل إغلاق بقية الموانئ. وقد ساهمت المنطقة الحرة المنشأة في المدينة العام 2000، في تنشيط الحركة فيه بدرجة كبيرة وجعلته مركزا رئيسيا لمبادلات البلاد.

ففي تصريحات إعلامية لموقع "مراسلون" في مايو 2017، قال أبوالقاسم المصراتي عضو مجلس إدارة الشركة الوطنية للنقل البحري إن أكثر من نصف تجارة البلاد تدخل عبر ميناء مصراتة باعتباره الميناء الأعمق الذي يوفر إمكانية الدخول للسفن الكبيرة التي تتجاوز 100 سفينة شهريا بين مغادرة وقادمة، مشيرا إلى أنه ساهم ميناء المنطقة الحرة بمصراتة في العام 2013 في تغطية 60% من إجمالي واردات السوق المحلية الليبية. وفي تصريح لوكالة رويترز في ديسمبر 2013، قال محمد السويح مدير إدارة التسويق والتعاون بشركة المنطقة الحرة لمصراتة، إن الميناء غير النفطي شهد العام الحالي تفريغ نحو 208339 حاوية نفطية طولها 20 قدماً ارتفاعاً من 159634 حاوية العام 2012، وهو ارتفاع يعود إلى الإشكاليات الأمنية بالموانئ النفطية التي كانت قبلة مهمة للمليشيات منذ الإطاحة بنظام القذافي العام 2011.

بالتأكيد أن لمصراتة أهمية اقتصادية، والمؤكد أيضا أن دولة مثل ليبيا تحتاج إلى خلق أنشطة موازية للقطاع النفطي، وهو ما يدركة أغلب الاقتصاديين في البلاد، لكن أيضا ما يؤاخذ على بعض الأطراف فيها أنها كانت بوابة رئيسية في شحن الأسلحة واستقطاب المقاتلين إبان الأحداث التي شهدتها البلاد في 2011، بل هناك انتقادات أن تلك الأطراف سهلت تنامي نفوذ تيارات إسلامية في المدينة تطورت قيمتها بفضل ما كانت تتمتع به من طرف قوى إقليمية كان ميناء مصراتة قبلتها الرئيسية لسنوات ما بعد "الثورة".