من داخل عنابر ضيقة مسقوفة بألواح الخشب ورقائق الصاج، يُطلق عليها محلياً اسم "كمبوهات"، وقف عشرات المهاجرين غير الشرعيين، بينهم نساء وأطفال، مشدوهين ينتظرون مصيرهم فور اندلاع معركة دامية بالأسلحة تورط فيها أفراد من عصابة "أبو قرينوخلفت ثلاثة قتلى ومثلهم مصابين من ذوي قرابتهم بطلق نيران عشوائي.


** سياسة ممنهجة

والمهاجرون، الذين ينتمون إلى جنسيات أفريقية وآسيوية، حُشروا قبل ستة أشهر في هذه العنابر قرب العاصمة الليبية طرابلس استعداداً لآخر مرحلة في رحلتهم الطويلة التي بدأت من على أطراف صحراء الجنوب الليبي بالقرب من تشاد وانتهت بالقرب من شاطئ مدينتي زوارة وصبراتة الواقعتين بغرب البلاد، وتعدان أشهر مراكز تجميع المهاجرين غير النظاميين، ونقلهم في زوارق مطاطية إلى عرض البحر المتوسط.

وقال مسؤول في أحد الأجهزة الأمنية بغرب ليبيا لـ«الشرق الأوسط»: "ذهبنا إلى المكان الذي شهد إطلاق النيران بعد بلاغ من المحيطين به في صبراتة، فوجدنا قتلى ومصابين، ولم نعثر على عناصر من الميليشيا، أو المهاجرين». وتابع: "استمعنا إلى شهادات بعض المصابين، وكيف تم تسليمهم من عصابة إلى أخرى حتى وقعوا في أيدي عناصر ميليشيا (أبو قرينقبل أن تدفع بهم في زوارق متهالكة إلى البحر".

و«أبو قرين» من أبرز عصابات تهريب المهاجرين في صبراتة، بجانب ميليشيات أخرى تنشط في مدينة الزاوية، غرب العاصمة طرابلس بـ48 كيلومتراً، من نوعية «إبراهيم الحنيش» و«أبو عبيدة الزاوي»، علماً بأن هذه الميليشيا الأخيرة سبق وتورطت، كما يُزعم، في خطف دبلوماسي مصري وثلاثة إداريين في سفارة مصر في طرابلس عام 2014.


وترصد المنظمات الدولية المعنية بالهجرة تدفق عشرات الألوف على ليبيا سنوياً من الراغبين في الهروب إلى أوروبا، عبر البحر المتوسطوخلافاً للمهاجرين المحتجزين في فروع مراكز الإيواء للمهاجرين غير الشرعيين، قدّر عادل التاجوري، مدير الفريق الوطني المكلف بإعداد المسح لآثار الهجرة على الصحة العامة، الموجودين خارج مراكز الإيواء بـ600 ألف تقريباً، بالإضافة إلى آلاف آخرين داخل المراكز في ليبيا.

وتنطلق رحلة تهريب المهاجرين عادة بالتسرب عبر الحدود الرابطة بين ليبيا ومصر والسودان وتشاد والنيجر بالإضافة إلى الجزائر، وهو ما دلّ عليه الصومالي «بشير» أحد المصابين الثلاثة، في التحقيق التي أجرته معه أجهزة أمنية في صبراتة، فقد قال: "وصلنا إلى الصحراء الليبية بعد رحلة قاسية، استغرقت أكثر من أسبوعين، تنقلنا خلالها من شاحنة إلى أخرى حتى وصلنا إلى مدينة سبها (عاصمة الجنوب الليبي)، ماتت فيها طفلة صغيرة كانت بصحبة والدها… لم تتحمل حرارة الجو الشديدة داخل صندوق الشاحنة المغلقة، وأصيب غالبيتنا بالإعياء".

وكشف بشير تفاصيل نقلهم عبر الحدود، قائلاً: "تجمعنا في أحد الأماكن في دولة تشاد بواسطة بعض الأفراد المسلحين، تحصّلوا من كل فرد منا على 600 دولار، وبعد ثلاثة أيام ارتفع عددنا إلى نحو 200 فرد، وعندما ضاق بنا المكان بدأوا في تقسيمنا إلى مجموعات".

ويكمل: "وفي اليوم الرابع نُقلت أنا و40 فرداً، بعضهم من الصومال ونيجيريا والكاميرون، بينهم ثلاث سيدات وطفلتان في صندوق شاحنة كبيرة عبر منطقة وادي فيرا، بعد أن كانت الخطة أن نغادر من مدينة أغاديز بالنيجر… انطلقت بنا الشاحنة، التي تعطلت أكثر من مرة، عبر دروب صحراوية مدة يومين، دون طعام أو ماء، وهناك أنزلونا في منطقة خالية من السكان، وتركونا في جو حار وغادروا، وقالوا لناأنتم في سبها".

واستكمل بشير الصومالي، الذي يعالج من جرح عميق في جانبه الأيمن اخترقته رصاصة من أفراد ميليشيا «أبو قرين»: "قبل أن يحل علينا الظلام في سبها، أتت إلينا شاحنة كبيرة كان يستقلها ثلاثة مسلحين، وأركبونا في صندوق خلفي مغلق، له رائحة قذرة، بعدما استولوا على كل ما معنا من نقود، وأعطونا طعاماً ومياهاً، وسارت في الظلام لساعات طويلة، وعندما شعر بعضنا بالإعياء الشديد، طرقنا بأرجلنا وأيادينا على كابينة السائق، فتوقف بعد قرابة ساعة عند مدخل صبراتة لكن الطفلة (لوجياماتت بين يدي والدها النيجيري".

ويستنتج المسؤول الأمني، في حديثه إلى «الشرق الأوسط»، أن "رواية المواطن الصومالي بشير بقدر ما أكدت على أن عصابات التهريب تنتهك حدود دول جوار ليبيا مُستغلة حالة الانفلات الأمني في البلاد، واللعب على عواطف الحالمين بحياة وردية في أوروبا، إلاّ أنها كشفت عن أن تلك العصابات سلسلة متصلة، تعمل بأسلوب مُتدرج، على طريقة (سلم وتسلمبمعنى أن كل عصابة تسلم الأخرى في مواعيد وأماكن معلومة يتم الاتفاق عليها فيما بينها، مقابل الحصول على نسبة من المال المُتحصل عليه من المهاجرين المغلوب على أمرهم بعدما أصبحوا أسرى لديهم".

رؤية المسؤول الأمني، رجحها الليبي محمود علي الطوير الذي يعمل مستشاراً بالمعهد العربي الأوروبي بفرنسا للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، إذ قال إن "هناك مقابلات عدة أجرتها منظمات غير حكومية مع مهاجرين من إريتريا وإثيوبيا على سبيل المثال، وكشفوا أن عصابات من وطنهم عملت على تهريبهم مقابل المال".

وأضاف الطوير، في حديث إلى «الشرق الأوسط»، أن "الـ600 ألف مهاجر الذين ينتشرون في البلاد، بعضهم يوجدون في الجنوب الليبي ينتظرون رحلة برية تنقلهم إلى غرب ليبيا، نثل القربولي والزاوية وزوارة، والبعض الآخر يظل في قبضة المهربين داخل أماكن تجميع انتظاراً للحظة نقلهم إلى البحر".

وتابع: "للأسف أكثر الفئات التي تقع ضحايا لعمليات الاتجار هم الفئات المستضعفة من النساء والأطفال القُصّر". لكن الطوير ربط بين تفشي هذه الظاهرة و"عدم تعاون دول الجوار مع السلطات الليبية في التصدي لهذه الأزمة، بجانب ضعف الأجهزة الأمنية، مما سهّل الأمر أمام المهربين وتجار البشر في عملية النقل والتنقل بأريحية تامة".


** مؤشرات دولية سيئة

وذكر مجلس الأمن، في بيان صحافي، أن أحمد الدباشي، من المتوقع أن يكون موجوداً في القرة بوللي شرق طرابلس، أو في الزاوية، فيما يوجد محمد كشلاف وعبد الرحمن الميلادي في الزاوية، أما الإريتري إيرمياس جيرماي، فقد كان موجوداً في طريق السور بطرابلس وانتقل إلى صبراتة عام 2015 ولم تتوفر عنه معلومات منذ ذلك الحين، فيما ظل مكان كل من مصعب أبو قرين وفيتيوي إسماعيل عبد الرزاق مجهولاً.

ومعاناة المهاجرين لا تقتصر على الألوف الذين ينتشرون في شوارع ليبيا فقط، بل إن المنظمات الدولية دائماً ما توجه اتهامات للسلطات في ليبيا بعدم صلاحية بعض مقار مراكز الإيواء، البالغ عددها 20 مركزاً في غرب البلاد، وتضم قرابة آلاف مهاجر من جنسيات مختلفة، لإقامة المهاجرين فيها، فضلاً عن معاملتهم بشكل قاسلكن العميد محمد علي بشير، رئيس جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، نفى ذلك، وقال في حديث إلى «الشرق الأوسط»: "نحن نعامل كل المهاجرين غير الشرعيين، بشكل إنساني، ورغم قلة إمكانات البلاد، فإننا نسعى لتوفير كافة احتياجاتهم".

وأضاف رئيس جهاز مكافحة الهجرة: "خلال الأشهر الماضية نظمنا لهم برامج ومسابقات ترفيهية، وبغض النظر عما يتم تداوله في وسائل إعلام غربية، فإن جهاز مكافحة الهجرة يهتم بعلاج المهاجرين، وتعليمهم"، لافتاً إلى "أنه يستهدف إغلاق مراكز الإيواء نهائياً مستقبلاً، بعد تكثيف رحلات العودة الطوعية للمهاجرين إلى أوطانهم".

وانتهى قائلاً: "لن أهدأ إلا عندما أغلق كل مراكز الإيواء، وأجعل رقمها صفراً إن شاء الله، ولن نسمح بخروج المهاجرين من مراكز الإيواء إلى دولة ثالثة".

وتشير التقارير إلى أنه تم إجراء 6833 عملية إعادة مهاجرين إلى أوطانهم، في وقت تقول منظمات محلية وأممية إن المهاجرين غير الشرعيين الذين يتوافدون على البلاد ساهموا في نشر الأمراض مثل نقص المناعة (الإيدزوالسل (الدرنوالالتهاب الكبدي الوبائي.



** جهود بلا نجاعة

الجهود الأممية والمحلية لم تحد من انتشار وتغوّل عصابات تهريب البشر في ليبيا، فهي بحسب المسؤول الأمني، "تفتح كل الطرق من جنوب البلاد إلى غربها أمام عمليات التهريب من أجل مال حرام يحصلون عليه بالنصب وغواية تلك الفئات المستهدفة". وقال: "أصبح من المعتاد أن نجد مهاجرين كانوا محتجزين لدى عصابات وهربوا منها، باتوا الآن يعملون بـ(اليوميةفي مجالات الزراعة والبناء والحدادة ويدّخرون من قوتهم بعض النقود، ويصرون على منحها إلى تجّار بشر آخرين لنقلهم إلى أوروبا في رحلة جديدة".

وعبر أكثر من 600 ألف شخص البحر المتوسط إلى إيطاليا خلال السنوات الأربع الأخيرة، غالبيتهم انطلق من ليبيا، بحسب إحصاءات رسميةووفقاً لتقرير صادر عن وزارة الداخلية الإيطالية مؤخراً فإن "65 في المائة من المهاجرين الذين رسوا على السواحل الإيطالية خلال عام، وصلوا على وجه الخصوص من ليبيا، و15 في المائة من تونس، و3.5 في المائة من تركيا، وفي المائة من الجزائر، ونسبة مماثلة من اليونان ومن مصر، و0.5 في المائة من الجبل الأسود".

وتمثل تونس النسبة الأكبر بين الجنسيات الوافدة إلى إيطاليا، بحسب التقرير، إذ تبلغ 20 في المائة، و11 في المائة من إريتريا، وفي المائة من نيجيريا، ومثلهم من السودان، وفي المائة من العاجيين، ومثلهم من مالي، وفي المائة من الجزائريين، وفي المائة من المغرب، والنسبة ذاتها من الغينيين والباكستانيين والعراقيين.

ويقضي مئات المهاجرين غرقاً في عرض المتوسط، لكن أفراد خفر السواحل الليبي وناشطين في منظمات دولية ينجحون في أكثر الأحيان في إنقاذ آخرين من غرق مُحقق، فيعاد البعض منهم إلى مراكز إيواء في ليبيا، بينما ينجح البعض الآخر في الانتقال إلى البر الثاني، حيث أوروبا.

وإجمالي عدد المهاجرين واللاجئين الذين دخلوا أوروبا عبر البحر المتوسط بلغ أكثر من 60 ألفاً منذ بداية عام 2018 وحتى أغسطس (آبالحالي، ويمثل هذا العدد نحو نصف عدد المهاجرين الذين دخلوا أوروبا في هذا الوقت من العام الماضي.

ويرى مدير بعثة منظمة الهجرة الدولية في ليبيا، عثمان البلبيسي، أن أزمة المهاجرين تعد مسؤولية دولية وإقليمية، ولا يمكن ترك ليبيا تواجهها بمفردهاودعا في مقال نشرته وكالة «تومسون رويترز» إلى تطبيق مجموعة من المقترحات لتحسين وضع المهاجرين، من بينها تحسين قدرات خفر السواحل الليبي، والأنظمة الخاصة بتسجيل المهاجرين بعد إنقاذهم وجمع المعلومات من خلال تسجيل بياناتهم وحالاتهم الصحية، بجانب تحسين البنية التحتية وآليات فحص المهاجرين العائدين إلى ليبيا، وتحسين وضع منشآت استقبال المهاجرين على طول السواحل الليبية لضمان حصولهم على الحماية والمساعدة المطلوبة.

كما طالب مدير بعثة منظمة الهجرة الدولية في ليبيا بضرورة إصدار تشريع خاص لمكافحة أنشطة تهريب المهاجرين، وتحسين هياكل الإدارات التي تتعامل مع أزمة الهجرة بطريقة تصب لصالح المهاجرين والليبيين على حد السواء مع احترام حقوق الإنسان.