تشهد العاصمة الليبية طرابلس منذ 14 يوليو الجاري اشتباكات عنيفة بين تشكيلات مسلحة منتمية لمدينة مصراتة الساحلية ومدينة الزنتان الجبلية، في حلقة جديدة من الصراع بين حلفاء ثورة 17 فبراير من أجل السيطرة على العاصمة الليبية، وذلك ضمن عملية عسكرية تعرف بـ" فجر ليبيا"، والتي تهدف بحسب قادتها إلى تحرير المنشآت الحيوية في طرابلس وإعادتها إلى سلطة الدولة وتأمين المدينة. وذلك بمشاركة عناصر مسلحة من 12 مدينة من بينها الزاوية، ومصراتة، غريان، وسوق الجمعة، وجنزور، حسب ما ذكره أحد قادة العملية الذي أشار أيضا إلى أن العملية مخطط لها منذ ما يقارب الثلاثة أشهر.

وأسفرت هذه الاشتباكات حتى الان حسبما أعلنته وزارة الصحة الليبية في آخر إحصائية لها عن سقوط 47 قتيلا  و120 جريحا، وأشارت إلى أن هذه الإحصائية للحالات التي نقلت إلى المُستشفيات الحكومية في طرابلس وضواحيها، موضحة أن هناك حالات أخرى نقلت إلى مُستشفيات ميدانية ولم توثق عبر سجلات المُستشفيات.

تأتي هذه الاشتباكات التي تعد الأعنف منذ سقوط نظام القذافي في خضم حالة الاستقطاب الحادة التي باتت تعانيها ليبيا، سيما مع تزايد التدهور الأمني وارتفاع معدلات الاغتيال والخطف والاستهداف، وغموض موقف ومصير عملية الكرامة العسكرية التي يقودها اللواء المتقاعد خليفة حفتر في بنغازي التي تهدف إلى تخليص ليبيا من الجماعات الإسلامية.

ومنذ سقوط العاصمة في يد الثوار المعارضين لحكم القذافي باتت خاضعة لسيطرة ونفوذ كل من مدينة مصراتة ومعها مدينة الزنتان. التي أصبحا على طرفي نقيض بعد مرور ثلاث سنوات من الثورة على نظام القذافي.

إن ما يجري الآن في طرابلس، يمكن اعتباره بمثابة الجولة الثانية من الصراع بين حلفاء ثورة 17 فبراير 2011 في غرب ليبيا الزنتان ومصراتة، هذه المرة من أجل إقصاء أحد القطبين من التواجد في العاصمة ونزع أي نقاط تمركز فيها وهو ما يمكن تفهمه من مغذى الصراع الدائر الآن من أجل السيطرة على مطار طرابلس العالمي الذي تسيطر عليه تشكيلات مسلحة محسوبة على مدينة الزنتان الجبلية، التي تتهمها نظيرتها من مدينة مصراتة الساحلية بأنها تضم بقايا من مقاتلي اللواء 32 معزز ولواء محمد المدني الذين كانوا يقاتلون ضد الثوار إبان الحرب على نظام القذافي في 2011.

المشهد في طرابلس

منذ أن سقطت طرابلس في قبضة الثوار السابقين ضد نظام القذافي في 20 أغسطس 2011، تقاسم كلا من ثوار مصراتة وثوار الزنتان النفوذ داخلها، وبات لثوار مصراتة وحلفائها من تيار الإسلام السياسي النفوذ والسيطرة على قاعدة ومطار معيتيقة الجوية (شرق طرابلس)، بينما سيطر ثوار الزنتان وحلفائهم على مطار طرابلس العالمي (جنوب غرب طرابلس)، وبات واضحا أن المدينة أصبح لها قطبان من خارجها يتقاسمان السلطة والنفوذ، الأمر الذي جعلها رهينة للصراع بين حكامها الجدد القادمين من الساحل والصحراء المنتصرين في الحرب على نظام العقيد القذافي.

ويلاحظ كذلك أنه بعد إعلان التحرير، دخل حلفاء الثورة مصراتة والزنتان في صراع واضح على السلطة والنفوذ والثروة في غرب ليبيا، وبات المشهد السياسي والاجتماعي في تلك المنطقة بشكل خاص يشهد تحالفات جديدة مغايرة لما كانت عليه إبان عهد القذافي أو حتى العهد الملكي. وأخذ هذا المشهد في الظهور بوضوح مع مرور الوقت والدخول في استحقاقات انتخابية وصراع سياسي من أجل الحصول على نفوذ يمكن المنتصرين من قيادة المشهد الليبي في مرحلة ما بعد معمر القذافي.

ومع مرور الوقت أيضا بات واضحا أن التحالفات التي أفرزتها الحرب على نظام القذافي، خاصة بين مصراتة والزنتان في طريقها للتصدع والهشاشة. وقد تجلى ذلك في أكثر من مناسبة، كانت أولها انتخابات المؤتمر الوطني العام في يوليو 2012، ثم التحالفات السياسية التي اختارها كلا الطرفين في المرحلة الانتقالية الثانية، وما تلاها من هيمنة شخصيات منتمية لمدينة مصراتة أو ذات أصول مصراتية على مواقع قيادية في ليبيا ما بعد القذافي. الأمر الذي خلق حساسية بين مصراتة وبقية المدن والقبائل الليبية الأخرى.

وقد كانت أحداث ضاحية غرغور في العاصمة طرابلس التي وقعت في 15 نوفمبر 2013، أهم المؤشرات على تصدع هذا التحالف الذي ظهر بعد ثورة 17 فبراير، حيث راح ضحية هذه الأحداث أكثر من 40 قتيلا.

أسباب التدهور الراهن في طرابلس

يمكن القول أن نمط التحالف الهش بين مصراتة والزنتان الذي أفرزته الحرب على نظام القذافي، وهما طرفين ينتمي كل منهما لخلفيات متباينة إذ تنتمي مصراتة ضمن ما يعرف في ليبيا بالصف السفلي (أو ما يطلق عليها التحالف اللوطي) وتعد من المراكز الحضرية الرئيسية في ليبيا، بينما تنتمي مدينة الزنتان لما يعرف بالصف الفوق (وهو تحالف يضم القوى القبلية التي من أبرزها قبائل ورفلة والمشاشية والمقارحة وغيرها في الجنوب) وهي محسوبة على القبائل البدوية. لم يكن يبدو هذا التحالف منذ البداية قادرا على مواجهة التحديات الكبيرة في المرحلة الانتقالية التي بات واضحا أنها لن تكون بنفس التماسك التي كانت عليه إبان الحرب على نظام القذافي.

وقد أدت التحالفات السياسية التي عقدتها الأطراف المناطقية والجهوية في غرب ليبيا خلال مرحلة مابعد القذافي والتي تمثلت في تحالف الزنتان مع تحالف القوى الوطنية ذي الخلفية الليبرالية الذي يقوده محمود جبريل، بينما تحالفت حليفتها مدينة مصراتة مع تيار الإسلام السياسي الذي تقوده جماعة الإخوان المسلمين الليبية وقيادات الجماعة الليبية المقاتلة. إلى انعكاس النتائج السلبية للصراع السياسي بين التيار الإسلامي وحلفائه وتحالف القوى الوطنية الليبرالي وحلفائه من جهة، حيث تبادل الطرفان الاتهامات بعرقلة مسار المرحلة الانتقالية والسعي للهيمنة المبكرة على مؤسسات الدولة الليبية التي هي في طور البناء.

كما أن إعلان كل من مصراتة والزنتان لتأييد مواقف سياسية مغايرة لكل منهما خلق فجوة واسعة بين الحليفين أخذت في الاتساع منذ إقرار قانون العزل السياسي الذي أقر في منتصف 2013 وتزايدت أكثر بعد منذ أن أعلنت تشكيلات القعقاع والصواعق تأييدهما للعملية العسكرية التي يقودها اللواء خليفة حفتر، الأمر الذي أثار بطبيعة الحال حفيظة الطرف الآخر الذي بات متخوفا من نقل المعارك التي تدور في الشرق إلى الغرب ذو التركيبة القبلية الأكثر تعقيدا.     

قادت هذه النتائج السلبية بدورها إلى أحداث دموية شهدتها العاصمة طرابلس، كان الهدف منها بكل وضوح هو الرغبة لدى كل من الزنتان ومصراتة بالسيطرة على العاصمة بشكل منفرد وإخراج حليفه الأخر منها وتجلى ذلك في أكثر من مناسبة كان أخطرها، أحداث غرور في 15 نوفمبر 2013 التي راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى، ثم ما حدث في 13 و14 فبراير عند مطار طرابلس وما تعرض له من عمليات قصف شديدة أوقعت خسائر مادية كبيرة في صفوف الطرفين مصراتة والزنتان وكذلك مطار طرابلس العالمي.

قصف مطار طرابلس

يمثل مطار طرابلس العالمي واحدا من اهم نقاط القوة التي تعتمد عليها التشكيلات المسلحة التابعة للزنتان في العاصمة طرابلس إضافة إلى معسكر اليرموك والـ27 التي كانت مقرات سابقة لكتائب القذافي. وربما تدرك تشكيلات مصراتة المسلحة أن بقاء واستمرار مطار طرابلس في قبضة تشكيلات الزنتان سيمنحهم أفضلية ومرتكز قوة يجعل ميزان القوة متساوي معهم رغم قلة عدد مقاتلي الزنتان مقارنة بعدد المقاتلين لدى مصراتة.

إضافة إلى ذلك لا يمكن استبعاد أن تخوف الإسلاميين حليف مصراتة الأساسي في الوقت الراهن من امتداد عملية الكرامة إلى المنطقة الغربية أحد الاسباب التي يمكن من خلالها تفهم الهجوم على المطار، سيما إذا أخذ في الاعتبار تأييد كتيبة الصواعق ولوائي القعقاع والمدني لعملية الكرامة الأمر الذي يجعل الإسلاميين وحلفائهم محاصرين في ليبيا شرقا وغربا. وهم يدركون أن سيطرة الموالين لحفتر على المطارات في المنطقة الشرقية قد منحهم أفضلية في مواجهة تشكيلاتهم المسلحة على الأرض. وهنا بيت القصيد حيث أن تخوف الاسلاميين من هذه النقطة جعلهم يفكرون في استهداف المطار حتى لا تكون لخصومهم أي قدرات تمنحهم مزايا نسبية في الصراع الدائر.

موقف السلطات الرسمية

حتى الآن لم تظهر السلطات الرسمية في ليبيا (الحكومة المؤقتة والمؤتمر الوطني) أي قدرة على ضبط الأمور المتردية في البلاد بعد سقوط نظام القذافي على كافة المستويات وفي مقدمتها الوضع الأمني الذي يزداد سوء مع مرور الوقت. ولا توجد أي بوادر عن تحسن في أداء هذه السلطات العاجزة عن السيطرة تماما. حيث أنه بمجرد اندلاع الاشتباكات لم تستطع الحكومة فعل ما من شئنه ايقافها بل على العكس من ذلك سعت إلى الاستنجاد بالمجتمع الدولي وطلبت تدخلا دوليا للفصل بين الليبيين وهي خطوة ربما إن حدثت كانت ستزيد الطين بلة، لان التدخل الدولي الآن على خط الأزمة بين الليبيين سيزيد من تعقيداتها لأن كل الأطراف المتصارعة الآن في ليبيا تتهم بعضها أنها مدعومة من قوى دولية وإقليمية، وبالتالي فإن أي تدخل دولي سيتم في الراهن سيكون مصيره الفشل بسبب الاتهام المبكر بالتحيز لطراف على حساب طراف آخر.

محاولات الاحتواء

ثمة محاولات حثيثة تبذلها أطراف ليبية قبلية دخلت على خط الأزمة للوساطة بين مصراتة والزنتان من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار في طرابلس،  لكن هذه المحاولات تواجه صعوبة كبيرة نظرا لأن طرفي الصراع الآن تحولا إلى طرفي نقيض حيث أصبحت مصراتة تتهم بشكل صريح خصمها الزنتان بأنها تقود ثورة مضادة لثورة 17 فبراير 2011، وتتهم قنوات اعلامية مقربة منها بأنها تبث الفتنة بين الليبيين.

وفي ردود الفعل الأولى على الاشتباكات دعا مجلس أعيان وحكماء طرابلس الكبرى "جميع الأطراف إلى إيقاف الاقتتال فوراً، والجلوس معاً لحل كل المشكلات العالقة، وتغليب مصلحة الوطن العليا. وطالب المجلس الحكومة المؤقتة والمؤتمر الوطني العام بالإسراع في اتخاذ تدابير ترتقي إلى مستوى التحدي الحالي، محملاً وزارتي الدفاع والداخلية ورئاسة الأركان العامة المسؤولية عما يجري في العاصمة. أما المجلس المحلي لطرابلس الكبرى فقد حث جميع الأطراف على حقن الدماء، وضرورة إخلاء العاصمة تنفيذا لقراري المؤتمر الوطني رقمي 27 و53 القاضي بإخلاء المدينة من كافة التشكيلات المسلحة.

أما دوليا فقد عبر  الاتحاد الأوروبي عن قلقه البالغ من الاشتباكات في طرابلس واكد على "أن معالجة الخلافات السياسية لا تكون إلا من خلال حوار سياسي بعزيمة جديدة" كما حث كافة الأطراف على الدخول في حوار جاد ومحدد الأهداف. لكنه شدد في الوقت نفسه على أن المشكلات الداخلية لن يحلها غير الليبيين. وهو نفس النهج الذي سارت عليه الولايات المتحدة التي أكدت أن على الليبيين أن يجلس إلى مائدة الحوار ليحددوا اهدافهم. وهي نقطة الاتفاق التي تبدو واضحة من المجتمع الدولي حتى الان تجاه الأزمة في ليبيا. وهي نقطة مغايرة لما ظهر عليه موقف حكومة عبدالله الثني تجاه الاشتباكات والتي طالبت بتدخل دولي لوقف العنف ووضح حد فاصل بين المتنازعين قبل أن تتراجع عبر وزير الخارجية محمد عبدالعزيز الذي قال بعد انتهاء مباحثاته في نيويورك أننا طلبنا منسقين ولم نطلب قوات وهو ما يعكس مدى الاحباط الذي أصيبت به الحكومة بعد رفض طلبها من قبل المجتمع الدولي، إلا أنها عادت واعتمدت أسلوب التهديد والوعيد مع التشكيلات المسلحة بالملاحقة القانونية والجنائية محليا ودوليا وفي سبيل ذلك قام وزير العدل صلاح المرغني مطلع هذا الأسبوع بزيارة للمحكمة الجنائية الدولية واطلق منها تصريحات توعد قادة التشكيلات المسلحة بالملاحقة. وهذه الخطوة لجأ لها كذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الذين لوحوا بعقوبات على مهاجمي المطارات.

 

  • معهد العربية للدراسات