يبدو أن الأحداث في العاصمة الليبية طرابلس تسير نحو تطورات هامة قد تكشف عنها الأيام القادمة.  فالجيش الوطني الليبي الذي يشن هجوما منذ الرابع من أبريل/نيسان الماضي، بهدف بسط سيطرته على المدينة وإنهاء نفوذ المليشيات المسلحة فيها، يبدو أنه يتجه نحو تغيير تكتيكاته العسكرية التي اعتمدت على استنزاف المليشيات وقرر التصعيد باتجاه اقتحام طرابلس وتحريرها بصفة كاملة. 

ومنذ أبريل الماضي، أطلق الجيش الوطني الليبي عملية "طوفان الكرامة" بهدف إنهاء نفوذ المليشيات المسلحة في العاصمة الليبية.  لكن حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج سارعت لعقد تحالفات مع المليشيات لصد قوات الجيش الليبي التي نجحت خلال الأيام الأولى للمعركة في السيطرة على عدة مدن ومناطق إستراتيجية على تخوم العاصمة طرابلس. 


** تطورات ميدانية متسارعة:

ومع تصاعد خسائرها استنجدت قوات حكومة الوفاق بتركيا التي دخلت معركة طرابلس بقوة حيث سارعت بإرسال شحنات السلاح بحرا وجوا.  ولم تكتفي بذلك بل أرسل أردوغان ضباطه للإشراف على المعارك وقصف الليبيين بطائرات تركية مسيرة،  وفتحت المليشيات الباب للعناصر الإرهابية القادمة من سوريا علاوة على المرتزقة الذين يقصفون المدن الليبية بالإضافة إلى تجنيد المهاجرين الموجودين في مراكز الايواء. 

كل هذه التطورات،  بالإضافة إلى خطر وقوع ضحايا من المدنيين،  جعلت من معركة طرابلس أكثر صعوبة وتعقيدا، ودفع ذلك الجيش الليبي للتمركز على تخوم العاصمة حيث يشن بين الحين والآخر غارات جوية لضرب تمركزات المليشيات وذلك بهدف استنزافها ودفعها للخروج بعيدا عن المناطق المدنية حيث يمكن دحرها بسهولة. ونجح الجيش الليبي خلال الفترة الماضية في تحييد سلاح الجو التابع لحكومة الوفاق كما استطاع القضاء على عدد كبير من قيادات المليشيات المسلحة واستنزاف قوتها. 

ونجحت قوات الجيش الليبي مؤخرا،  في دخول معسكر اليرموك جنوب طرابلس بعد مواجهات عنيفة مع القوات الموالية لحكومة الوفاق. ودفع الجيش الليبي،  بعد سيطرته على المعسكر،  بالمواجهات إلى شارع الخلاطات المجاور،  فيما وصلت وحدات من قواته إلى الحي السكني المعروف عند الليبيين بشارع المقبرة خلف معسكر اليرموك لقتال القوات التابعة للوفاق. 

ووفق تقارير اعلامية،  يعتبر معسكر اليرموك أكبر المعسكرات جنوب طرابلس،  وهو من أهم المواقع العسكرية في المنطقة،  فقد شغلته بعد عام 2011،  كتيبة "ثوار طرابلس" وبعدها تناوب الجيش الوطني الليبي والقوات الموالية لحكومة الوفاق السيطرة عليه وأصبح بعدها منطقة شبه معزولة. 

وبعد سيطرة  قوات الجيش  على مواقع مهمة حول معسكر اليرموك جنوب العاصمة طرابلس، أعلن  المتحدث باسم القائد العام للجيش الليبي  اللواء أحمد المسماري أن القوات المسلحة  أصبحت قريبة من قلب العاصمة طرابلس. وقال المسماري أن السيطرة على المعسكر ستمهد الطريق للتقدم باتجاه حي صلاح الدين،  القريب من قلب العاصمة. 


**إصرار من الجيش على الحسم: 

تحرك الجيش الليبي الأخير وتقدمه الميداني ترافق مع بيانات عسكرية تشير الى تطورات قادمة، حيث أعلن الجيش الوطني الليبي أعلن استعداده لشنّ هجوم واسع على طرابلس،  داعياً شباب العاصمة إلى الاستعداد لـ"ساعة الصفر". وقالت شعبة الإعلام الحربي،  التابعة للجيش الوطني،  في بيان لها إن "جنود الجيش المرابطين على تخوم العاصمة على أهبة الاستعداد،  منتظرين الأوامر والتعليمات النهائية للانقضاض على آخر ما تبقى من جماعات الحشد الميليشياوي التركي - القطري". 

بدوره،  دعا المركز الإعلامي لغرفة عمليات الكرامة،  التابع للجيش الوطني،  شباب العاصمة كافة للاستعداد لما وصفها بـ"ساعة الصفر"،  وتنظيم التعاون بين الأحياء والمجموعات للانقضاض على الميليشيات المختبئة،  والهاربين من الجبهات الذين يحتلّون المدينة،  معتبراً أن هذا البلاغ يعد "بمثابة آخر إنذار لهم من خارج العاصمة للعودة إلى مناطقهم لأنهم سيكونون الهدف المباشر". 

وتوقعت مصادر عسكرية مطلعة لصحيفة "الشرق الأوسط" أن يوجه القائد العام للجيش،  خليفة حفتر،  كلمة إلى قواته المتواجدة على تخوم العاصمة طرابلس "تتضمن صدور تعليماته الأخيرة بشأن اقتحام المدينة خلال الأيام القليلة المقبلة"،  مشيرة إلى "اكتمال الاستعدادات اللازمة لتطهير المدينة من كل العناصر الإرهابية والمتطرفة،  والقضاء عليها". 

واعتبرت عمليات الجيش الوطني أنه "مع كلمة حفتر المرتقبة سيكون الأمر في ساعاته الأخيرة لانتهاء المهزلة في طرابلس،  وسيكون تنفيذ الأمر المستديم لكل جنود،  وضباط وأمراء المحاور في طوق طرابلس ومدن أخرى"،  لافتة إلى أنها "ستكون المعركة الفاصلة من أجل القضاء على زمرة الإرهابيين والمسلحين الخارجين عن القانون". 

هذه التحركات أثارت مخاوف حكومة الوفاق التي سارعت للتعبير عن قلقها من ما أسمته "معلومات عن ترتيبات لتصعيد عسكري جديد من قِبل القوات المعتدية،  للهجوم على طرابلس،  يشمل ضربات جوية للمرافق الحيوية،  بما فيها مطار معيتيقة"، الذي يعد المنفذ الجوي الوحيد في غرب البلاد. ودعت الحكومة المجتمع الدولي إلى "وقف العدوان" ووقف "إراقة دماء الشعب الليبي". 

وبدورها قالت البعثة الأممية في بيان لها،  إنها تعمل ما بوسعها مع الأطراف المحلية والخارجية كافة لتجنب التصعيد العسكري،  وحماية المدنيين من أي استهداف،  والاهتمام بمن أُجبروا قسراً على مغادرة منازلهم.  وأهابت بكل الأطراف احترام بنود القانون الدولي الإنساني،  الذي يحرم استهداف المدنيين والمرافق الصحية،  وذكّرتهم بالعواقب المترتبة على مخالفة أحكامه. 

ويبدو أن إصرار الجيش الليبي على ضرورة انهاء المليشيات المسلحة واعادة سلطة الدولة من جديد قد تضاعف وهو ما أكده مدير إدارة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة الليبية،  خالد المحجوب، الذي قال إن قواته ماضية قُدمًا في معركتها ضد الميليشيات المسلحة في العاصمة الليبية طرابلس. 

وأضاف  المحجوب ـ في تصريح لقناة العربية الحدث الإخبارية، الأحد، إن "هدف القوات المسلحة الليبية هو القضاء على الميليشيات المسلحة المنضوية تحت لواء حكومة الوفاق واستتباب الأمن في البلاد". نافيا موافقة القوات المسلحة الليبية على دعوات "الوفاق" إلى توقيع هدنة بوساطة أممية،  مشددًا على أن الجيش لن يسمح للميليشيات المسلحة أن تبقى بأي شكل من الأشكال في البلاد. 

من جهة أخرى، أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة قرارا يقضي بتكليف اللــواء "المبروك الغزوي"-المعروف برجل المهام الصعبة في ليبيا- قائدا لمجموعة عمليات المنطقة الغربية ، خلفاً للواء عبد السلام الحاسي. وجاء  القرار الصادر عن القائد العام للقوات المسلحة المشير خليفة حفتر تحت رقم 301 لسنة 2019.  

وعمل اللواء الغزوي آمرًا للمنطقة العسكرية "سبها" وتوجت فترة عمله باستعادة القوات المسلحة للمنطقة الجنوبية وحقولها النفطية. كما شغل في السابق منصب آمر المنطقة العسكرية بالكفرة في فترة التوتر والاشتباكات في المدينة قبل أن يتمكن من إعادة الهدوء لها ليتم نقله على إثرها إلى منطقة سبها. ومنذ سنوات واللواء المبروك الغزوي يكلف بمهام في مناطق حساسة وبؤر توتر قبلي في الجنوب الليبي من شرقه إلى غربه،  وهي تكليفات عززها انضمام الرجل القادم من الغرب الليبي لعملية الكرامة منذ بداياتها. 

وتشير هذه التطورات الى أن الجيش الليبي قد قرر الدخول في المرحلة الأخيرة والحاسمة من المعركة،  وفي هذا السياق، قال الباحث السياسي الليبي،  سراج الدين التاورغي،  إن تطوير عملية الجيش الليبي في العاصمة طرابلس،  تهدف إلى الدخول للمرحلة الأخيرة في عملية "تحرير طرابلس". 

ونقلت وكالة "سبوتنيك"، الروسية السبت، عن التاورغي قوله أن تطوير الهجوم في طرابلس يؤكد اقتراب "ساعة الصفر" ويعود لأمرين،  أولهما يتعلق بتخطيط الجيش العسكري الذي تضعه القيادة وفقا لرؤيتها العسكرية،  وأن الأمر الأخر يرتبط بالدعم التركي. وأوضح أن الفترة الأخيرة شهدت وصول عناصر إرهابية من سوريا والعراق،  وأن الدعم العسكري التركي المقدم لـ"المليشيات" في طرابلس واستهداف المدنيين به،  دفع الجيش إلى تطوير عملية الهجوم. 

وأوضح أن عملية التطوير تشمل الأماكن التي تنطلق منها الطائرات التي تستهدف المدنيين،  كما تستهدف أماكن تمركز المليشيات والعناصر الإرهابية،  حسب قوله. وفيما يتعلق بالتحذيرات التي وجهت إلى المدنيين في طرابلس ورد فعلهم،  أوضح أن الأهالي يرحبون بدخول الجيش،  إلا أن الممارسات التي جرت الفترة الماضية،  وممارسة القتل والتنكيل ضد كل من يؤيد الجيش تمنع الأهالي من المجاهرة بذلك. 

وشدد على أن عملية الترهيب والقتل التي تمارسها الكتائب في طرابلس لم تكن حديثة خاصة،  أنها سبق ومارستها في العام 2014 في حي "فشلوم" بطرابلس،  كما حدث ذلك في تاجوراء ضد مؤيدي الجيش. 

وفي وقت سابق،  تحدثت عدّة تقارير حقوقية عن أنّ الجماعات المسلحة في ليبيا تقتل وتعذب المحتجزين في سجون تضم آلاف المدنيين المحتجزين بشكل غير قانوني وتخضع لسيطرة حكومة الوفاق الوطني. وكانت شعبة الإعلام الحربي بالقيادة العامة للقوات المسلحة قالت في يونيو الماضي،  إن "قوات (الوفاق) تشن حملات خطف واعتقالات في صفوف النشطاء،  والصحافيين والإعلاميين والمدونين،  بعد دعواتهم للترحيب بالقوات المسلحة داخل العاصمة،  ومطالبتهم بإنهاء زمن الفوضى بوجود الجيش والشرطة"،  وطمأنت سكان بالعاصمة بأنها "ستردّ حق أبنائهم وستعيدهم لأهلهم سالمين". 

وتواجه المظاهرات السلميّة في العاصمة الليبية طرابلس، بالرصاص الحيّ،  لاسيّما إذا ما تجرّأت جموع المتظاهرين على المطالبة بإخراج جميع التشكيلات المسلحة غير الشرعية من العاصمة طرابلس. ويتعرض كل من يخالف المليشيات للإختطاف أو الإعتقال التعسفي أو القتل دون رادع في ظل ضعف الحكومة وعجزها عن فرض سيطرتها. 

ولعل أهم تأكيد على هذه الانتهاكات ما جاء على لسان القيادي السابق في الجماعة الليبية المقاتلة،  سامي الساعدي، الذي توعد مؤيدي الجيش في العاصمة طرابلس،  بالتهجير والطرد من المدينة.  وعلى صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك،  أطلق الساعدي الذي يقيم في تركيا منذ سنوات،  حملة ممنهجة ضد الجيش الليبي،  كما هاجم أهالي العاصمة طرابلس الداعمين لعملية الجيش الليبي التي تستهدف تحرير طرابلس من سطوة الميليشيات المسلحة والجماعات المتطرفة،  وأعلن مساندته التامة لقوات حكومة الوفاق. 

في ظل سيطرته على مناطق واسعةٍ في البلاد،  يواصل الجيش الوطنى الليبى عملياته العسكرية لتحرير المدن الليبية من التنظيمات الإرهابية والمليشيات المسلحة التى حاولت السيطرة على مفاصل الدولة، مستغلة في ذلك تردي الغياب التام للدولة واجهزتها في ظل الأزمة التي عصفت بالبلاد خلال السنوات الماضية. ويأمل الليبيون في بناء دولة قوية وانهاء الفوضى والتدخلات الخارجية التي تهدف لنهب ثروات البلاد.