طفل لعائلة بدويّة من أرياف مدينة سرت الساحليّة المفتوحة على الصحراء الشاسعة، أبوه محمد عبد السلام القذّافي (أبو منيار)، الذي توفي في العام 1985، وأمّه عائشة التي توفيت في العام 1978، حيث ولد معمر القذّافي في العام 1942، وكبر في تلك الصحراء، أين درس القرآن ككل أطفال البادية، التي بقي متأثرا بقيمها طيلة حياته وظل مسكونا بها يقود بلاده من وسط خيمته التي كان ينقلها معه إلى كل العواصم، والتي نصبها حيث في باريس عاصمة التنوير الأوروبي، وتحتها كان يستقبل الملوك والرؤساء، وظلّ بدويًا من الولادة إلى الممات .

في عمر التسع سنوات، دخل الطّفل معمّر القذّافي إلى المدرسة الابتدائية في سرت، ليتنقل بعدها من العام 1956 إلى العام 1961 انتقل للدراسة في سبها جنوب البلاد، وتعتبر سبها من أحد الامتدادات الجغرافية كذلك لقبيلة القذاذفة التي ينتمي إليها، وهي قبيلة بدوية صغير تمتد في سرت وجنوبا حتى سبها، تعيش على تربية الإبل والماشية، وفي تلك الفترة، في فزان بدأ الوعي السياسي للشاب معمّر القذّافي يتشكّل عبر إذاعة القاهرة وخطابات جمال عبد الناصر الذي كان الزّعيم العربي الأوّل في تلك الفترة، والملهم الكبير للجماهير العربية بمقولات التحرير والوحدة والعروبة، ربّما هما شيئان بقيا للأبد مع معمّر القذّافي، الصحراء ووعيه الناصري القومي.

في العام 1961 مع حل دولة الوحدة بين مصر وسوريا، قاد الطالب معمّر القذّافي مظاهرة في مدينة سبها رافعًا صورًا جمال عبد النّاصر الذي يمنحه بعد ذلك بسنوات لقب "أمين القومية العربية"، ومرددا شعارات تنادي بالوحدة وتشجب قرار الانفصال.

انتقل القذّافي بعد ذلك إلى مدينة مصراتة الساحليّة والصناعيّة، شمال غربي البلاد، مدينة بطباع خاصة، مدينة التجّار والصناعيين والتنوع الاثني والثقافي، عرب ويهود وأتراك وانفتاح على المتوسّط من خلال التبادل التجاري، وحراك ثقافي وسياسي وطلابي مهم، وهناك تحديدا تعلّم الإنجليزيّة والإيطالية وبدأ تشكيل خلاياه "الثوريّة" الأولى وبدأ يسير على درب مشروعه السياسي .

انتقل القذّافي بعد ذلك الى بنغازي في العام 1963 ليلتحق بالأكاديميّة العسكريّة، كان مأخوذا بنموذج الضباط المصريين الذين سيطروا على السلطة وحولوا الملكيّة إلى جمهوريّة وعبروا عن مواقفهم القومية والوحدويّة ودخلوا بمصر (القطر العربي الأكثر تأثيرا وقوّة) الى عصر سياسي جديد .

وفي بنغازي، ومن داخل أسوار الكليّة العسكريّة، بدأ معمّر القذّافي تشكيل تنظيم "الضباط الوحدويين الأحرار"، تماما كما في مصر وبدأ في توزيع المناشير والكتب التي تتحدّث عن ثورة يوليو في مصر وبدأت النواة الصلبة للمشروع تتشكّل عبر ثلّة من الطلبة العسكريين المسحورين هم كذلك بالمد الثوري العربي والقومي وبنموذج جمال عبد الناصر.

بعد حصوله على الشهادة من الكلية العسكريّة في العام 1965، أرسل في دورة تدريبية إلى المملكة البرطانية المتحدة، ليعود منها في العام 1966 كضابط في الإرسال ويبدأ حياته المهنية العسكريّة التي خصصها بالأساس لبث دعوته السياسيّة والتحضير لما سيسمى لاحقا بـ"ثورة الفاتح من سبتمبر" .

طيلة سنوات الستينات كان العالم العربي يعيش على وقع "الناصريّة"، كان جمال عبد النّاصر النّجم السياسي الأبرز والأكبر، بكاريزما جذابة ومشاريع كبيرة وأحلام تشبع طموحات الشعوب العربية الخارجة لتوها، وفي معظمها، من عقود طويلة من الإستعمار، كانت خطابات جمال عبد الناصر تهز كل الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، بمن فيهم الشعب الليبي، الذي كان محكوما حينها بنظام ملكي دستوري.

كان معمّر القذّافي طيلة تلك السنوات يجهّز رفاقه العسكريين للقيام بـ"الثورة" على النموذج المصري، انقلاب عسكري ينهي الملكيّة ويعلن قيام الجمهوريّة.

حدّد الموعد الأوّل للثورة في 12 مارس من العام 1969، لكن ألغي لأسباب "مصريّة" أيضًا، فقد كان كبار الضباط ليلتها يحضرون حفلا لأم كلثوم ما جعل عملية الانقلاب والقبض عليهم صعبا للغاية، فتم تحديد موعد آخر للعمليّة 1 سبتمبر 1969 .

تم إختيار موعد الفاتح من سبتمبر لأنّ معلومات كانت لدى الضباط تقول بأنّ الملك كان يستعد لإعلان تنازله للعرش لصالح ولي عهده الرضا في الثاني من شهر سبتمبر .

وفي ليلة الفاصلة بين 31 أغسطس و 1 سبتمبر عام 1969، وبينما الملك في الخارج لمتابعة علاجه السنوي ، سيطر الضباط في طرابلس وبنغازي على المواقع الإستراتيجية، وحوالي الساعة الثانية صباحا، تم اعتقال ولي العهد، مع كبار المسؤولين الحكوميين وكبار الضباط. لم تحدث عمليات كبيرة لتبادل النار، وتمت عملية الاستيلاء على السلطة بدون إراقة دماء ولا مقاومة.

 عند الفجر، استقل معمر القذافي سيارة جيب محملة بالأسلحة نحو إذاعة بنغازي، حيث قرأ "البيان رقم 1" للثورة معلنا إسقاط النظام الملكي وإعلان ليبيا دولة جمهوريّة، ونهاية حقبة كاملة من التاريخ السياسي للبلاد وبداية حقبة أخرى .

وهكذا، من الصحراء إلى السّلطة سار معمّر القذّافي حاملا لقيمه البدوية ولقناعاته القومية والعروبية الوحدويّة، وحقّق حلم الطفل الصغير الذي كانه، في صحراء فزّان الشاسعة وهو يستمع في الليالي الباردة لخطب زعيمه الملهم جمال عبد النّاصر، حمل معه بداوته ووعيه السياسي الذين لازماه طيلة 42 من الحكم، لينتهي التاريخ بشكل دائري ويعود إلى سرت مرّة أخرى، إلى الصحراء لينتهي مقتولا، في حرب لا يبدو أنها قد انتهت بعد.