أولا: إذا الشعب يوما أراد الحياة
في الجزءالسابق (الثامن) من الملف (العدد 108 من الأسبوع المغاربي)، قدمنا نبذة عن الحركة القومية التونسية التي خرج من صلبها الحزب الحر الدستوري التونسي الذي قاد الكفاح من أجل الاستقلال.
والحركة القومية التونسية (Mouvement national tunisien)، في مجملها حركة اجتماعية وسياسية ظهرت بداية القرن العشرين، وقادت حملة النضال ضد الحماية الفرنسية في تونس للحصول في النهاية على الاستقلال في 20 مارس 1956.
وكان الحزب الحر الدستوري التونسي أول حزب قومي نشأ بتونس، شهر مارس 1920، وقد أصبح يعرف بعد 1934 بالحزب الدستوري القديم مقابل الحزب الحر الدستوري الجديد الذي أسسه الحبيب بورقيبة وعدد من زملائه في 2 مارس من ذلك العام.
وفي هذا الجزء، سنقف على عند عينة من الفاعلين في الحقل السياسي، النقابي والثقافي في غمار الحراك القومي التونسي، وفي سياق الحربين العالميتين وما ترتب عنهما من تحولات جيوسياسية وقانونية وحقوقية منذ أن انزاحت أوروبا المسيحية عن البراديغما الكنسية إلى البراديغما الوضعية.
لم يسلم الحزب الدستوري من الصراع التراجيدي، وإثر خلاف في الرأي بين أبرز مؤسسيه اتسع الصراع وتحول إلى أزمة، وربما استغلت إحدى الجهات هذا الخلاف ونفخت في جمره تمكينا لنفوذها داخل الدولة التونسية المستقلة.
لم تكن تونس بلدا محتلا، بل كانت دولة تحت الحماية الفرنسية، حافظت على الحد الأدنى من سيادتها السياسية واستوعبت نخبتها روح الغرب أكثر من أي بلد مغاربي آخر، ولأسباب عديدة لم تفلح في لعب دور الرائد في محيطها المغاربي والعربي ولا في التحرر من قبضته الجيوسياسية، فلم تسلم من بأس أشقائها الجبابرة: المغاربيين والمشارقة.
فمن خير الدين وابن أبي ضياف، إلى الثعالبي والحداد، إلى الشابي وفرحات حشاد وبورقيبة وبن يوسف إلى الجيل الذي فجر ثورة الياسمين إلى جيل هو الآن قيد التشكل، وهو الجيل الذي عاش طفولته في غمار الثورة واكتوى بفشل الدولة التي أنتجتها تلك الثورة.
إن الشباب الذين تتراوح أعمارهم اليوم بين العشرين والثلاثين هم من يقرر مصير تونس، سواء دعموا سياسة قيس سعيد أو ناهضوها، الأمر يبقى مشروطا بسلامة وعيهم أو بسلامة حدسهم لا فرق.
قيس سعيد الذي، يبدو، أنه استوحى سياسته من دهاء الملكة عليسا مؤسسة قرطاج، ونال من جلد الدستور ما نالته إليسا من "جلد الثور"، وإذْ لم يتوقف عن رسم الخطط والعمل على تنفيذها، لا شك أن عينه لا تفارق تجارب أسلافه السياسيين الذين أسسوا لتونس المستقلة، محاولا الاستلهام من نجاحهم، وإدراك مكامن الفشل التي حرمت تونس من أسباب النجاح.
لقد نجح في عبور محطات من الإصلاح، ويبقى الاستفتاء على دستور 25 يوليو 2022 من أكبر التحديات في مساره الإصلاحي. فهل يستجيب القدر؟
ثانيا: تجليات النهضة الثقافية في الحركة القومية التونسية
في غمار المد القومي التونسي كان ميلاد الشاعر الشابي (1909)، "وبفضل تأثيرات الحركات الإصلاحية التي كانت مُشعّة آنذاك في العديد من البلدان العربية والإسلامية، يقول حسونة المصباحي، أصدر الشيخ عبدالعزيز الثعالبي (1876-1944م) كتابه الشهير: «روح التحرر في القرآن»، مُطلقًا من خلاله أطروحات وأفكارًا جريئة لم يسبق لها مثيل، وتطرَّق إلى قضايا ساخنة مثل الحجاب، والتسامح الديني، والعلاقة بين الأديان، والعلاقة بين الشرق والغرب، وفصل الدين عن الدولة، وغير ذلك من القضايا التي لا تزال تشغل العرب والمسلمين إلى حد هذه الساعة. وما نستخلصه من كتاب الشيخ عبدالعزيز الثعالبي هو أنه دعا إلى ضرورة جعل القرآن «دستورًا» للدفاع عن التحرر، والتقدم والرقي، مُهيبًا بالعلماء المسلمين أن يجتهدوا من أجل تنوير العقول، وتحرير مجتمعاتهم من قيود الماضي للخروج بها من عصور الانحطاط والجهل والتخلف والقهر".
ومع مطلع الثلاثينيات، برز للوجود تيار فكري جديد، أعني بذلك الفكر الاجتماعي مُتجسدًا خاصة في كتاب «امرأتنا في الشريعة وفي المجتمع». وعلى الرغم من أن الطاهر الحداد، صاحب ذلك الكتاب، كان من طلبة الجامعة الزيتونية، معقل الشيوخ المحافظين، فإنه انجذب مبكرًا إلى الحركة الإصلاحية، وناصرها بقوة مناديًا بضرورة تحرير المرأة من القيود الاجتماعية والنفسية التي تكبلها لتكون مساهمة مع الرجل في بناء المجتمع الجديد.
إلى جانب الفكر الاجتماعي، برزت تيارات جديدة في المجال الأدبي يدعو أتباعها إلى التجديد، وإلى الثورة على القديم. وكان أبو القاسم الشابي (1909-1934م) أول من انتقل بالشعر التونسي الذي كان يعاني حتى ذلك الوقت الابتذالَ والسطحيةَ والركاكةَ، إلى الحداثة شكلًا ومضمونًا.
تمكّن بفضل صديقه محمد الحليوي من الإلمام بجوانب مهمة من الشعر الأوربي، وبخاصة الرومانسية. إلى جانب ذلك تأثر بشعراء المهجر، وبخاصة جبران خليل جبران. وهذا ما يعكسه ديوانه اليتيم: «أغاني الحياة». وقد تلقت الأوساط الأدبية المحافظة ذلك الديوان، وأيضًا كتاب الشابي النقدي: «الخيال الشعري عند العرب»، كما لو أنهما صفعة قوية، ودعوة للتمرد عليها، وعلى مناهجها، وعلى مفاهيمها للأدب والحياة؛ لذلك تصدّت للشابي بعنف مثلما فعلت مع الطاهر الحداد لتجبره على «الهجرة» بقصائده إلى مجلة «أبولو» المصرية.
و"ظل الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، يقول ساسي جبيل، حيا بعد موته، شامخا كنخلة في ربوع منطقة الجريد التونسي، مسقط رأسه كما بقي راسخا في أذهان الجميع في تونس و خارجها فقد تميز شعره بحس فني مختلف وبما يمكن اعتباره عبقرية و نبوغا استثنائين، ففي ظرف وجيز جدا من عمر الرجل ترك للبشرية نصوصا تضوع بالخلود وتدعو الى الحرية والحياة والحب بعيدا عن كل ربق من شانه أن يكمم الافواه.
ظل الشابي شجرة وارفة الظل تغطي بأغصانها الخضراء مساحات اليباب والقحط وتنثر أريجها الفواح في كل ركن … وإذا كان لابد من قول حقيقة واحدة فيما يخص الرجل فإنها تلك المتمثلة في انه استثناء في الشعر العربي خلال القرن العشرين … هذا الشعر الذي ذهبت به رياح التحديث وغمرته سحب العولمة وبات أشبه ما يكون بمخبر للتجريب أو لنقل للتخريب …
واستطاع ابو القاسم الشابي شاعر تونس الخالد أن يحملنا إلى أزمنة ثلاث الماضي بصفاء لغته وعمق عبارته، والحاضر بأزماته ومنعطفاته الخطيرة والمستقبل بغموض أسئلته المحيرة.
وفي تلك المرحلة الغنية بمختلف التجارب، أي مدة ما بين الحربين، ، يضيف حسونة المصباحي، لمع في المشهد الثقافي التونسي تيار أدبي تمثّل فيمن أصبحوا يُسمّون بـ«جماعة تحت السور». و«تحت السور» هو اسم المقهى الذي كانت ترتاده تلك الجماعة في حي «باب سويقة» بمدينة تونس العتيقة. وجميع أعضائها ينتمون إلى عائلات فقيرة، أو متوسطة الحال، كما أنهم انقطعوا مبكرًا عن الدراسة «قبل أن تُبْلى سراويلهم» بحسب عبارة «عرّابهم» علي الدوعاجي. وبفضل اللغة الفرنسية، تعرفوا إلى آداب أوربا الحديثة، وتأثروا بكتاب وشعراء من أمثال غي دو موباسان، وتشيكوف، وفلوببر، وبودلير، وفيكتور هوغو، وغوغول… وقد كان لتلك الجماعة التي كانت تعيش حياة «بوهيمية» – والمتمثلة على نحو خاص في «الثنائي الرهيب» علي الدوعاجي ومحمد العريبي- دور في تحديث القصة والشعر والأزجال، وبعض الصحف اعتنت بالدفاع عن الثقافة الجديدة المناهضة للتزمت والرجعية.
وبعد حصول تونس على استقلالها عام 1956م، شهدت الثقافة التونسية انتعاشة كبيرة. فقد برز جيل جديد من الشعراء والمفكرين والأكاديميين في شتى التخصصات، تأثروا بتيارات الحداثة في فرنسا، وبالعالم الغربي. تعامل ريجيم بورقيبة مع تلك التيارات الجديدة بكثير من التسامح، وفق حسونة المصباحي، فاتحًا لها صحفه ومجلاته الرسمية. إلا أن الانتفاضة الطلابية التي اندلعت خلال حرب 1967م، دفعت الريجيم إلى التراجع، فأغلق المنابر والصحف والمجلات أمام المتطلعين إلى أفق أكثر اتساعا للحرية وللعدالة.
ويبدو أن ريجيم بورقيبة جفت ينابيع طاقته التحررية ودخل في صدام ضد قوى ناشئة، ولم يدرك أنه سقط في فخاخ العنف والتضييق إلا بعد أن استنزف طاقته ومصداقيته. وبعد انغلاق دام عقدا أو أكثر، استفاق إثر أحداث مدينة قفصة الدامية عام 1980، فـ"عاشت تونس انتعاشة ثقافية جديدة أذابت بسرعة جليد عقد السبعينيات الذي تميز بكثرة المحاكمات السياسية" وفق تعبير حسونة المصباحي.
تم استفراغ ريجيم بورقيبة من طاقته حتى إذا أصبح قوقعة جاهزة استقر فيها ريجيم بن علي، ومنذ أن اعتلى سدة الحكم "حتى سقوطه المدوي في (...)، وفّر نظام ابن علي للثقافة الرسمية كل الوسائل الممكنة، المادية منها والمعنوية، بهدف التصدي للثقافة المضادة في جل تعابيرها، إلا أنه فشل في ذلك فشلًا ذريعًا؛ إذ ظلت تلك الثقافة تقاوم بجرأة وحماسة كل العراقيل والعقبات للمحافظة على وجودها واستقلاليتها وحريتها".
ومع أن تونس المستقلة أنجبت شعراء ومفكرين وباحثين أفذاذ في العلوم الإنسانية، وتطور فيها المشهد الحقوقي والمجتمع المدني، إلا أن الوضع الفكري والسياسي استمر على حاله طيلة الفترة التي أعقبت ثورة الياسمين، واتسعت رقعة الفساد والعنف ورقعة البطالة والفقر، واتضح أن الخلل لم يتم رصده، وأن النخبة بشقيها الفكري والسياسي هي نفسها تعاني من خلل في الإدراك.
ثالثا: الحبيب بورقيبة: لقد نجح في القيادة، فهل كان رجل سلام وحوار؟
تحت عنوان: "نخبة الاستقلال المغاربية والمسألة الديمقراطية الحبيب بورقيبة أنموذجا" بالمجلة العربية للعلوم السياسية العدد 29 شتاء 2011، ورد أن بورقيبة من بين الرؤساء العرب القلائل الذين استمدوا شرعيتهم في الحكـم مـن خـلال تزعمـه لحركة تحررية قومية ضـد الاسـتعمار الفرنسي (1881-1956)، بطـرق نضالية سياسية سلمية براغماتية في الغالب.
الحبيب بورقيبة (3 أغسطس 1903 - 6 أبريل 2000)، أول رئيس للجمهورية التونسية، حكمها ثلاثين عاما (1957-1987)، وتشبّه بالزعيم التركي كمال أتاتورك، فأُطلِقت عليه ألقاب كثيرة مثل: "المجاهد الأكبر" و"صانع الأمة". عزله زين العابدين بن علي بانقلاب وفرض عليه الإقامة الجبرية في مَنزله، كما حُجبت أخباره عن الإعلام إلى حين وفاته عام 2000. اشتهر بإصدار العديد من التصريحات والقوانين التي تعتبر"مثيرةً للجدل".
العمل السياسي: اشتغل بالمحاماة والصحافة، فأصدر صحيفة "صوت التونسي" عام 1930، ثم صحيفة "العمل التونسي" عام 1932، وانضم إلى الحزب الحر الدستوري عام 1933 واستقال منه في نفس العام ليؤسس في 2 مارس 1934 بقصر هلال الحزب الحر الدستوري الجديد رافقه محمود الماطري والطاهر صفر والبحري قيقة.تم اعتقاله في 3 سبتمبر 1934 لنشاطه النضالي وأبعد إلى أقصى الجنوب التونسي ولم يفرج عنه إلا في مايو 1936.
ثم سافر إلى فرنسا وبعد سُقوط حكومة الجبهة الشعبية فيها اعتقل في 10 أبريل من العام 1938 إثر تظاهرة شعبية قمعتها الشرطة الفرنسية في 8 و9 أبريل 1938، ونقل بورقيبة إلى مرسيليا وبقي فيها حتى 10 ديسمبر 1942 عندما نقل إلى سجن في ليون ثم إلى حصن "سان نيكولا" حيث اكتشفته القوات الألمانية التي غزت فرنسا، فنقلته إلى نيس ثم إلى روما، ومن هناك أعيد إلى تونس حراً طليقاً في 7 أبريل 1943.
سافر إلى القاهرة كمنفى اختياري في 23 مارس 1945، وزار من هناك الولايات المتحدة قبل أن يعود إلى تونس في 8 سبتمبر 1949، ثم سافر من جديد إلى فرنسا سنة 1950 ليُقدم مشروع إصلاحات للحكومة الفرنسية قبل أن يتنقل بين القاهرة والهند واندونيسيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة والمغرب، ورجع إلى تونس في 2 يناير 1952 معلنا انعدام ثقة التونسيين بفرنسا ولما اندلعت الثورة المسلحة التونسية في 18 يناير 1952، اعتقل الزعيم الحبيب بورقيبة وزملاؤه في الحزب وتنقل بين السجون في تونس وفرنسا ثم شرعت فرنسا في التفاوض معه فعاد إلى تونس في 1 يوينو 1955 ليستقبله الشعب إستقبال الأبطال ويتمكن من تحريك الجماهير، لتوقع فرنسا في 3 يونيو 1955 المعاهدة التي تمنح تونس استقلالها الداخلي. وهي الاتفاقية التي عارضها الزعيم صالح بن يوسف واصفا إياها أنها خطوة إلى الوراء مما أدى إلى نشأة ما يعرف بالصراع "البورقيبي اليوسفي" ويتهمه خصومه السياسيون بالتهاون والتخاذل.في 20 مارس 1956، تم توقيع وثيقة الاستقلال التام وألف بورقيبة أول حكومة بعد الاستقلال.
استطاع بورقيبة إقناع أغلبية التونسيين بالمعاهدة التي تلاها توقيع وثيقة الاستقلال التام في 20مارس/آذار 1956، وبعد ثلاثة أشهر ألغى الملكية بخلع الملك محمد الأمين باي وإعلان تونس دولة جمهورية في 25 يوليو/تموز 1957، واختير أول رئيس لها.
جمّد بورقيبة نشاط الحزب الشيوعي عام 1962، وحارب فيما بعد الإسلاميين (حركة الاتجاه الإسلامي وحركة النهضة لاحقا) ونكّل بهم بعد فترة وجيزة من الهدنة استثمرها في حربه على المعارضة اليسارية التي شلّ فاعليتها وألغى الحريات الأساسية وفرض الرقابة على الإعلام.أقر ريجيم الحزب الواحد وتحالف مع الاتحاد العام التونسي، وشرعن ذلك بتعديل دستوري في 27 ديسمبر/كانون الثاني 1974 سمح له برئاسة الدولة مدى الحياة.
خارجيا، أعلن بوضوح تحالفه مع الغرب، ورحّب بالسياسة الأميركية في المنطقة، ولم يدخل في نزاع مع الاتحاد السوفياتي لكنه لم يقم معه علاقات اقتصادية أو عسكرية.
يصفه أتباعه برائد التحديث الاجتماعي في تونس، لكن معارضيه يصفونه بمؤسس العلمانيا التونسية، ورائد سياسة التغريب.قال عنه الكاتب التونسي الصافي سعيد صاحب كتاب "بورقيبة.. سيرة شبه محرمة": هو "أكثر من رئيس وأكبر من عاهل بكثير، لقد جمع بين يديه دفعة واحدة سلطات الباي والمقيم العام الفرنسي".
بعد سقوط بن علي وهربه من تونس يوم 14يناير/كانون الثاني 2011، أشرف الرئيس التونسي للمرحلة الانتقالية منصف المرزوقي على إحياء ذكرى وفاة بورقيبة بالمنستير، مما اعتبر تجاوزا لمرحلة الخلاف التاريخي بين بورقيبة وصالح بن يوسف، لأن والد المرزوقي كان مناصرا لصالح واضطر بسبب ذلك للهجرة إلى المغرب.
رغم التوترات العنيفة التي طبعت المشهد السياسي في عهده، تبقى مسيرة بورقيبة متميزة، تعكس ثقافته القانونية والسياسية ونزعته السلمية وميله إلى الحوار.
رابعا: صالح بن يوسف: هل كان متطرفا في مواقفه؟(4)
صالح بن يوسف (ميدون، 11 أكتوبر 1907 - فرانكفورت، 12 أغسطس 1961)، من وسط على قدر كبير من الثراء تعلم مبادئ القراءة والكتابة في كتاب القرية (جامع حاضر باش) ولما بلغ الثامنة من عمره أرسله جده إلى العاصمة ليتعلم في المدارس العصرية فتحصل على الشهادة الابتدائية في مدرسة نهج التريبينال ثم التحق بمعهد كارنو التحق بفرنسا لمواصلة تعليمه في السربون فحصل على الإجازة في الحقوق والعلوم السياسية سنة 1933. وعاد إلى تونس في صائفة 1934 ليفتح مكتب محاماة جعله مقرا لنشاطه القومي والتحق مباشرة بصفوف الحزب الحر الدستوري الجديد واحتل فيه المراتب الأولى فكان يحضر اجتماعات الديوان السياسي والهيئة السياسية دون أن يكون عضوا فيهما.
هو أحد أبرز قادة الحركة القومية التونسية. تولى الأمانة العامة للحزب الحر الدستوري الجديد كما تولى وزارة العدل في حكومة محمد شنيق التفاوضية بين 1950 و1952. عارض عام 1955 الاستقلال الداخلي الذي قبل به بورقيبة مما أدى إلى حدوث صدام بينهما. أدى الخلاف إلى حدوث شرخ في الحزب الدستوري وإلى دخول أنصار الفريقين في صراع مفتوح. ورغم حصوله على تأييد جزء كبير من الإطارات الدستورية خسر بن يوسف صراع الزعامة ووقع فصله من الحزب. اختار ابتداء من يناير 1956 اللجوء إلى المنفى وتقرب من جمال عبد الناصر. إلا أن إعلان الاستقلال في مارس 1956 والجمهورية في يوليو 1957 وابتعاده عن البلاد أدى إلى إضعاف موقفه ليقع في النهاية اغتياله في يونيو 1961 في ألمانيا.
بعد أن عبر بورقيبة عن تأييد المفاوضات بين فرنسا وتونس من أجل الاستقلال الداخلي طالبا من المقاومين المسلحين الذين كانوا يسمون آنذاك بـ «الفلاقة» بالنزول من الجبال، وتسليم أسلحتهم. وبالرغم من أن اليمين الفرنسي تمكن من إسقاط حكومة السيد بيار منداس فرانس متهما إياها بالتخلي عن شمال أفريقيا بعد التفويت في الهند الصينية، فإن المفاوضات الفرنسية ـ التونسية تواصلت بفضل السيد ادغار فور، رئيس الحكومة الفرنسية الجديد، الذي حرص على مقابلة بورقيبة في 21 أفريل (نيسان) 1955، ممهداً بذلك لإمضاء الاتفاقيات الفرنسية ـ التونسية في 3 يونيو 1955. أما الزعيم صالح بن يوسف الموجود آنذاك بسويسرا والذي كان أميناً عاماً للحزب الحر الدستوري، فقد عبّر عن معارضته التامة لاتفاقيات الاستقلال الداخلي متهما بورقيبة بـ «الخيانة»، وحاثّا المقاومين على مواصلة الكفاح المسلح من أجل الحصول على الاستقلال التام لا بالنسبة لتونس فحسب، وإنما لجميع البلدان المغاربية. وبالرغم من أن عدة شخصيات قومية بينها السيد المنجي سليم الذي كان يقود آنذاك المفاوضات الفرنسية ـ التونسية في باريس، كانت قد اتصلت بالزعيم صالح بن يوسف لإقناعه بضرورة التراجع عن موقفه ذاك، غير أنه رفض ذلك رفضاً قاطعاً مواصلاً نقده اللاذع لبورقيبة.
خامسا: الصدام بين بورقيبة وبن يوسف: هل كان حول الحكم؟
لا بدّ من الإشارة إلى أن موقف صالح بن يوسف لاقى في البداية تجاوباً عند الكثيرين، خصوصاً أن الاتفاقيات كانت تنصّ على ضرورة تقيّد تونس بمعاهدة باردو التي تمّ بموجبها دخول الاستعمار إلى البلاد، كما أنها تمنح فرنسا سلطة الإشراف على الأمن الجوي والبحري، وتخوّل لها مواصلة نفوذها وسلطتها على المؤسسات الأمنية. وقد صرح بعض جماعة الحزب القديم الذي كان يتزعمه الشيخ عبد العزيز الثعالبي بأن «الاتفاقيات تمثل مؤامرة استعمارية جديدة».
وفي 13 سبتمبر 1955، عاد صالح بن يوسف إلى تونس، فخصّ باستقبال جماهيري كبير، وكان بورقيبة في مقدمة مستقبليه. ثم خطب صالح بن يوسف مركزاً على أن الاتفاقيات منقوصة وأنها تمثل خطراً كبيراً على «استقلالنا وحريتنا». وأجابه بورقيبة بأن هذه الاتفاقيات إيجابية لأنها تخلّص تونس من الإدارة الاستعمارية، غير أنها لا توقف ولن توقف مسيرة تونس نحو استقلالها التام.
وفي يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)، ألقى الزعيم صالح بن يوسف خطاباً حماسياً أمام جامع الزيتونة أعلن فيه من جديد رفضه القاطع لاتفاقيات الاستقلال الداخلي، محرّضاً على ضرورة مواصلة الكفاح المسلح من أجل الحصول على الاستقلال التام ودعم نضال الشعب الجزائري والمغربي للحصول على استقلالهما. اتخذ أنصار بورقيبة قراراً يقضي بطرد صالح بن يوسف من الحزب، غير أن هذا الأخير سارع بتكوين أمانة عامة رافضاً القرار المذكور. وهكذا باتت البلاد بأسرها على حافة حرب أهلية مدمرة.
أنصار صالح بن يوسف في الداخل دبّروا العديد من العمليات لاغتيال بورقيبة، غير أن جميعها منيت بالفشل. وقد ردّ النظام التونسي الجديد على هذه العمليات بقسوة شديدة. وفي بيت قديم بـ «صباط الظلام»، بنهج الباشا، بقلب المدينة العتيقة بالعاصمة، اخضع العديد من أنصار صالح بن يوسف إلى عمليات تعذيب وحشية قضى البعض منهم بسببها.
وقد ازدادت مواقف بورقيبة صلابة عندما قبلت فرنسا منح تونس استقلالها التام وذلك يوم 20 مارس (آذار) 1956، أي عقب مضيّ 9 شهور فقط على امضاء اتفاقيات الاستقلال الداخلي. ورغم أن صالح بن يوسف واصل حملته الدعائية ضد بورقيبة انطلاقا من القاهرة ومن عدة أماكن أخرى، فإن المساعي ظلت مستمرة لعقد مصالحة بينه وبين بورقيبة الذي طلب من السلطات السويسرية مطلع عام 1961، ترتيب لقاء بينه وبين خصمه، وتمّ اللقاء بين الزعيمين في شهر فبراير (شباط) 1961. وحسب المعلومات المتوفرة، فإن اللقاء لم يعد بطريقة جيدة، وغلب عليه منذ البداية التشنج والانفعال. فقد مدّ بورقيبة يده لمصافحة صالح بن يوسف غير أن هذا الأخير رفض ذلك. مع ذلك تجاوز بورقيبة هذه الإهانة وخاطب خصمه قائلا: «إنني احترمك كثيراً وأريد أن نتعانق وأن ننتهي من خلافاتنا التي لم يعد لها في الواقع سبب يذكر، خصوصاً وقد أحرزنا على استقلالنا، إذن فلنضطلع بهذه المهمة معاً، أما الباقي فقد كنت أنا على حق، وكنت أنت مخطئاً، ذلك لأن الاتفاقيات الفرنسية ـ التونسية لم تكن خطوة إلى الوراء، بل كانت خطوة إلى الأمام». وغاضبا ردّ صالح بن يوسف قائلا: «ليس صحيحاً، وما زلت اعتبر الاتفاقيات خطوة إلى الوراء، والاستقلال الصوري الذي تحدثني عنه ليس إلا كارثة على تونس وعلى الثورة الجزائرية التي أعلم أنك تتآمر عليها». وبدأ النقاش يحتد بين الزعيمين إلى أن بلغ التوتر درجة قصوى وانقلب اللقاء إلى صياح وتبادل للشتائم والكلمات النابية. وأخيراً اضطرت الشرطة السويسرية للتدخل مخرجة صالح بن يوسف من صالون الفندق.
والشيء المؤكد أن من دبروا مؤامرة الاغتيال اختاروا الوقت المناسب لها. وبما أن الرأي العمومي التونسي والعربي وحتى العالمي كان منشغلاً بهذه المعركة الجديدة بين تونس وفرنسا، فإن مدبري مؤامرة اغتيال صالح بن يوسف سارعوا بتنفيذها بعد أن أعدوا خطة محكمة لذلك. ففي 2 يونيو 1961، غادر الزعيم صالح بن يوسف القاهرة مع زوجته متوجها إلى ألمانيا قصد عرض نفسه على طبيب خاص، وبعد ذلك بحوالي شهرين، وتحديدا في 11 أغسطس، كان بن يوسف يتهيأ للسفر إلى كوناكري لحضور مؤتمر الحزب الديمقراطي الغيني بدعوة من الرئيس أحمد سيكو توري. وفي ذلك اليوم، اتصل به ابن أخت قريبه، البشير زرق العيون، الذي كان يعيش في ألمانيا بهدف إعداد لقاء جديد بينه وبين بورقيبة. وقد وافق الزعيم صالح بن يوسف على ذلك اللقاء الذي اتفق على أن يتم في الساعة السادسة مساء في فندق «رويال» بمدينة فرانكفورت الألمانية، حيث تمت تصفيته.
بعد أشغال هيأة الحقيقة والكرامة، أحيل ملف الاغتيال على أنظار الدائرة الجنائية المختصة في العدالة الانتقالية بتونس العاصمة. ووجّهت الاتهام فيها لكل من رئاسة الجمهورية والحرس الرئاسي و وزارة الداخلية والخارجية وسفارة تونس بألمانيا بسبب المشاركة وألمانيا لتستّرها على الجناة. أما الأشخاص فوُجّهت تهمة القتل العمد مع سابقية الإضمار لكل من الحبيب بورقيبة و بشير زرق العيون وحسن بن عبد الله الورداني وقد حفظت التهمة في حقهم بسبب الوفاة. أما عبد الله بن مبروك الورداني ومحمد بن خليفة محرز فلم يتم العثور عليهما. فيما وجّهت تهمة المشاركة في القتل إلى حميدة بن تربوت والذي استمعت الهيأة لشهادته.
يبقى السؤال الذي يجب طرحه: هل اختار صالح بن يوسف موقع المعارض بوصفه حامل مشروع سياسي وصاحب رؤية سياسية تختلف عن رؤية بورقيبة؟ أم أن معارضته كانت فقط من أجل افتكاك زمام الحكم من يد رفيقه بورقيبة؟ وهل تصفيته كانت بأمر من الرئيس بورقيبة أم من جهة أخرى بهدف إحداث تصدع في صفوف النخبة السياسية التي قادت معركة الاستقلال؟
سادسا: فرحات حشاد: النقابي الذي أسس أكبر منظمة عمالية في تونس
فرحات حشاد (العباسية، قرقنة، 2 فبراير 1914 - رادس، 4 ديسمبر 1952) زعيم سياسي ونقابي تونسي راحل، لمع نجمه بعد تأسيسه لاتحاد العام التونسي للشغل عام 1946م واكتسب شعبية عارمة بين الطبقة العاملة وكل مكونات المجتمع. ومناضلا من أجل استقلال بلاده عن الاستعمار الفرنسي وكان أول كاتب عام للاتحاد العام للعمال التونسي منذ إنشائه عام 1949 م وحتى اغتيال حشاد يوم 5 ديسمبر عام 1952 م.
يعتبر أحد أهم رجالات الحركة الاستقلالية في تونس مع كل من الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف. لمع نجمه بعد تأسيسه للاتحاد العام التونسي للشغل عام 1946 م واكتسب شعبية عارمة بين الطبقة العاملة التونسية.
تم اغتياله في 5 ديسمبر 1952 في خضم انفجار حركة مقاومة مشهودة من التونسيين إزاء فرنسا ونفي كبار الزعماء التونسيين أو سجنهم وإذ عجز الفرنسيون عن سجن فرحات حشاد لنوع من الحصانة اكتسبها في الأوساط النقابية العمالية في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الحر، فلجأت إلى اليد الحمراء للقيام باغتياله وهو ما تم فعلا. فاغتيل بمنزله بتونس العاصمة عام 1952 م.
أنشأ حشاد في عام 1946 م الاتحاد العام لعمال تونس من بين اتحاد الشمال والجنوب واتحاد عمال تونس وتم انتخابه كأول سكرتير عام لهذا الاتحاد وكان في الثلاثين من عمره. أثناء توليه هذا الموقع دخلت الحركة العمالية التونسية مرحلة الصراع من أجل التحرير والاستقلال وكانت هناك نشاطات للحركة القومية تحركها وتوجهها الدعوة للدستور الجديد. وبدأت المظاهرات والإضرابات والاحتجاجات تزداد في شوارع تونس مطالبة بالتحرير وبتحسين مستوي الحياة والعمل للتونسيين.
لعب الاتحاد العام لعمال تونس بقيادة حشاد دوراً هاماً في بدء وتوجيه الحركة وراديكالية المطالب الشعبية وصعد الاتحاد التونسي إلى الاتحاد الدولي لاتحادات العمال الحرة وبدأ في حضور المؤتمرات الدولية لهذه الاتحادات منذ عام 1949 م حتي بلغ أعضاء الاتحاد التونسي عام 1951 م قرابة 120 ألف عضو من كل أنحاء ومستويات العمل في تونس فبدأ تنظيم عمليات مقاومة الاحتلال الفرنسي. بل انه اتجه إلى تشجيع تكوين اتحادات عمالية في شمال أفريقيا وأصبحت لها اولوية في اهتماماته فبدأ في تشجيع الاتحادات في المغرب والجزائر وعدا لتكوين اتحاد مستقل في ليبيا لوضع أسس اتحاد عمالي موحد ثم بعد أن تحقق له الجانب الاجتماعي والاقتصادي بدأ العمل لما بعد التحرير.
سابعا: الاتحاد العام التونسي للشغل: هل مازال في مستوى التحديات؟
تأسس الاتحاد في 20 يناير 1946 خلال المؤتمر الذي انعقد بالمدرسة الخلدونية من قبل فرحات حشاد ومحمد الفاضل بن عاشور، ويقع مقره في تونس العاصمة. ينشط الاتحاد أساسا في القطاع العام، وله 24 اتحادا جهويا و19 منظمة قطاعية و21 نقابة أساسية. ينتقده البعض بسبب مركزية السلطة فيه، وضعف تمثيل المرأة والقطاع الخاص وبعض ولايات الساحل.
الاتحاد عضو في الاتحاد الأممي لنقابات العمال الحرة، ومنذ نوفمبر 2006 في اتحاد النقابات الأممي. يملك الاتحاد صحيفته الخاصة وهي الشعب، ووكالة أسفار وجمعية تعاونية في قطاع الصيد البحري، وشركة تأمين مشتركة. من جهة أخرى يقوم بكراء فندق أميلكار في قرطاج.
وقد بقي الاتحاد هو المنظمة النقابية الوحيدة على الساحة التونسية بعد الاستقلال رغم محاولات للخروج عليها وتأسيس منظمات أخرى هي: الاتحاد التونسي للشغل في الخمسينات والاتحاد الوطني التونسي للشغل في الثمانينات، والجامعة العامة التونسية للشغل عام 2006. بعد الثورة التونسية في 2011، خسر الاتحاد احتكاره لهذا القطاع النقابي، وذلك بعد تأسيس الجامعة العامة التونسية للشغل في 1 فبراير 2011 والمنظمة التونسية للشغل في 26 أغسطس 2013.
الاتحاد هو أحد مكونات رباعي الحوار الوطني الذي تحصل على جائزة نوبل للسلام في 2015 لنجاحه في الخروج بتونس من أزمتها السياسية عبر الحوار القومي والتوصل للمصادقة على دستور تونس 2014 وتنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية.
واختار الاتحاد العام التونسي للشغل الوقوف مع إصلاحات قيس سعيد، وجد نفسه في المعارضة بعد إعلان رفضه المشاركة في الحوار. ووفق المعطيات المتداولة، لم يحدد الاتحاد بعد موقفه النهائي مما يحدث، ولا تموضعه النهائي بوضوح، وهو لا يزال يختبر مكونات وتفاصيل المشهد، وقد يسرّع الإضراب المقرر في 16 يونيو في تحديد هذه المواقف.
هناك من يرى أن الاتحاد، اليوم، تقع على عاتقه مهمة وطنية في لعب دور محوري بالتعاون مع الأحزاب والمنظمات، لخلق موازين قوى جديدة وازنة لدفع البلاد إلى حل تشاركي في إطار المشترك الوطني.
ولا شك أن أطرافا تريد استقطاب الاتحاد في حملة تستهدف إسقاط الاستفتاء، في حين يطالب حراك 25 يوليو المساند لإجراءات رئيس الجمهورية قيس سعيد ،''بمحاسبة الاتحاد العام التونسي للشغل بسبب إمكانية تنفيذه لإضراب سياسي، معتبرا أن ''أمين عام الاتحاد غير شرعي بموجب قضيّة الطعن في المؤتمر الأخير''. ويدفع حراك 25 يوليو بالاتحاد نحو الانخراط في مسار الإصلاح الذي يقوم به الرئيس.
ويبدو أن محور المقاطعة لا يحمل أي مشروع سياسي سوى رفض إصلاحات قيس سعيد، وأن حالة الغليان التي تعيشها تونس هذه الأيام وراءها جماعات مصالح تخشى ضياع مصالحها دون أن تقوى على تعزيز أطروحة الرئيس ولا أن تبدع أطروحة تعيد الثقة إلى الشعب.
لذلك، وفق الأمين العام لحزب التيار الشعبي، أنّ أغلب المقاطعين للمسار الحالي، يُراهنون على إسقاط هذا المسار وإسقاط الرئيس وإنهاء هذه المهمة قبل حلول 25 يوليو.