ليس من السهل أن نخوض مغامرة تهدف إلى إضاءة المخزون الفنّي والإبداعي الذي تحوزه قارة كإفريقيا، فهي شاسعة وممتدة، وتشمل أكثر من خمسين دولة، وعددا مهولا من الشعوب، ولها تاريخ قديم نجهل حتى متى كانت بدايات تفاعله مع الثقافات الإنسانية. وانّه لمن باب المسلّمات، أن نعتقد بأنها تمتلك فنونا مختلفة وعديدة ومبهرة في الآن نفسه.إن صراع الإنسان الإفريقي، مع الوجود، ومن أجل تمعين العالم والحياة، قديم قدم مجيئه إلى الأرض، وهو بذلك، كان قد أنشأ ثقافته وطقوسه وفنونه التي عبّرت عن آلامه ورؤيته للكون وللحياة. وثقافته هذه، منها ما تمّ تجاهله من قبل الدارسين والباحثين، ومنها ما تفاعل مع الثقافات الأخرى  نتيجة الاستعمار الأوروبي، ومنها ما رحل مع العبيد إلى شمال القارة بعد أن تمّ توظيفهم واستغلالهم وجلبهم بهدف السيطرة عليهم.لذلك، سنحاول برغم جلّ الصعوبات، إضاءة الفنون التي شهدتها القارة الإفريقية، عبر محاولة لمسها، وإثارة جملة من الإشكالات حولها، علّنا بذلك نؤسس لبدايات الحفر والتنقيب من أجل الحصول على كنوز إبداعية وتراثية، لها إشعاعها الإنساني.

 

فن العمارة و النحت

تكْشف الآثار القديمة في معظم أصقاع القارة الإفريقية، أن المنازل كانت تبنى من الأخشاب وبعض المواد الفخارية أو الطينية، ويعدّ الفخار مادة أساسية في بناء البيوت، وتمتاز هذه المنازل ببساطتها، مع أنها تختلف من منطقة إلى أخرى في مجال شكلها الخارجي ومظهرها. ويشهد الباحث أو المتتبع تلك الفروقات البسيطة، إذ هناك أمثلة متعددة، فأحيانا تكون المنازل في شكل مستطيل، وأحيانا أخرى تكون مربعة الشكل، ولكنها عادة  ما تبنى دائرية كما نلحظ في جهة السودان ومالي.عادة ما تكون القرى الإفريقية، محاطة بأسوار تحميها من الغزوات الخارجية،وهي قرى عادة ما نلاحظ من حولها الحصون والقلاع كما في نيجيريا. وتختلف منازل الفقراء عن غيرها من بيوت الأغنياء التي تشهد زخارف ورسومات جدارية كما تؤكده قصور الوجهاء والأعيان في دولة الكامرون. أمّا الأبنية والمعابد الدينية أو المساجد، فقد اتسمت ببساطتها.

على خلاف القارات الأخرى، والحضارات الإنسانية في شتى بقاع العالم، فإن فن النحت الذي شهدته القارة الإفريقية على ممر عصور طويلة، ظل مسكونا بروح الأساطير، وسحر الزنوج، وحاملا للعادات والتقاليد والشعائر الدينية، في أشكال فنية مبهرة نادرا ما نجد مثيلها في بلدان أخرى، وخاصة من ناحية القيمة الجمالية.إن فن النحت، ما زال يحظى إلى حد الآن باهتمام كبير في هذه القارة السمراء، وخاصة في السينغال، وذلك بعد أن دخل تخوم العالم الاقتصادي وأصبح يوفر مصدرا للقوت والعيش. وهو بالرغم من ذلك، إلا أنه ظل محافظا على ارتباطه بما هو وثني، فجلّ النحاتين، لهم إيمان بأن منحوتاتهم المصنوعة من الحجر والطين والأخشاب لها وظيفة روحية، كما لها القدرة على جلب الأمان من خلال طردها للأرواح.شمل هذا الفن، الأقنعة والمجسمات والأشكال المزخرفة التي تستخدم في الاحتفالات، وفي المناسبات الاجتماعية، وللأسف فان النحت الإفريقي كان قوامه الأول الخشب، وهو ما جعله عرضة للزوال. أما المنحوتات التي صنعت من البرونز والطين والنحاس فقد استطاع الصمود على غرار ما الآثار القديمة في نيجيريا .وهناك ميزتين لهذا الفن، الأولى تكمن في توظيف الألوان القوية، التي نراها على الأقنعة المعدة لأغراض سحرية وطقوس دينية، حيث يتم استعمال الجلود ورسم حيوانات فوقها، أما الثانية، فنكتشفها من خلال استعمال الأصداف وريش الطيور التي توظف من أجل تزيين المنحوتات وإضفاء مسحة جمالية عليها.

 

فن الرقص

عرف عن الرقص الشعبي في إفريقيا، أن له طابع طقوسي، ولا يخلو من وثنية لها امتدادات روحية غريبة، سحرية تأخذ من طابع الحياة الإفريقية مرجعية لها. وهو عبارة على حركات يؤديها الجسد، كنوع من كتابة الوجود. وبما أن الظروف الحياتية صعبة، وقاتلة، فإن طبيعة الرقص هي الأخرى تعكس ذلك الصراع العنيف بين الإنسان وقوى الطبيعة. ومن العجيب أو الطريف، هو أن الأفارقة يرقصون جماعات، صغارا وكبارا، وذكورا وإناثا، وهو ما يحملنا إلى القول بأن الرقص، هو أكسجين الحياة في إفريقيا.إن أغرب شيء، الملفت لانتباهنا حقا، هو أن يرقص المجتمع الإفريقي، في ساعات الموت، ولكن البحوث الأنثروبولوجية تقول بأن الإفريقي، يعتقد أنه لا اكتمال لدورة الحياة إلا بمجيء الموت، وبالتالي فهو في شغف مستمرّ للرحيل إلى عالم ما بعد الحياة. وعادة ما يعرف عن الرقص الإفريقي، أنه ليس فنا مستقلا، وإنما هو شديد الارتباط بالموسيقى والغناء، ومن هنا سيقودنا البحث إلى التعريف بالأنماط الموسيقية الإفريقية ومحاولة ذكر أنواعها.

موسيقى الكناوة

تعتبر موسيقى الكناوة في الأصل، مزجا من الطقوس الاحتفالية للمعتقدات الأسطورية الإفريقية والأمازيغية القديمة، ومصطلح كناوة يعود في الأصل إلى جذور أمازيغية، ولكنه أصبح ذا  تركيبة مغربية صرفة، بعد أصبحت هذه الموسيقى معروفة في بلاد الأطلس، حيث تمّ تدارسها لتكون ضربا من ضروب استقطاب العديد من الفنانين. وهي بالرغم انتسابها الجغرافي الحالي للبلاد المغربية، وانعدامها أو انقراضها في مالي والنيجر وعديد البلدان الإفريقية الأخرى، الا أن الكلمات التي تصاحبها ظلت محافظة على الكثير من المفردات والكلمات الإفريقية.إن طقوس الكناوة شهادة تثبت تأثير ثقافة غرب إفريقيا على المغرب، ولقد استطاع المغربيون، أن يضفوا على هذه الموسيقى طابعا صوفيا وروحيا، ممّا يجعلها حكرا على تجربتهم، أو مطبوعة ببصمتهم الفنية، ذات الأصول الدينية في منحاها الروحاني والصوفي. أمّا عن المشترك بينهم وبين باقي أنواع الموسيقى في القارة الافريقية، فهو تلك الأهازيج وطقوس الرقص والاماءات الجسدية، التي تبيح التخمّر والجذبة والانفلات من العالم المادي، بجعل الجسد يحلّ في الغياب، وتشويش حواسّه، ممّا يجعل منها أشبه بالسحر  والسفر في دروب الروحانيات.في البدء كانت هذه الموسيقى حكرا على الهامشيين، والعبيد، والسود، ولكنّها الآن تستقطب جلّ الشرائح الاجتماعية، بل وخرجت من حقلها الجغرافي الضيق، لتسافر دون جواز سفر إلى العالم، وتنافس العديد من أنواع الموسيقى العالمية، وربّما أفضل دليل على ذلك، هو أنّ الغرب، فرنسيون وألمان وأمريكيون يشترون آلات الكمبري، ويجرون العديد من الدراسات حولها، ويتنافسون من أجل تعلمها، فلقد  سافر  عدد كبير من الفنانين الى المغرب، ومن بينهم راندي ويستون وجيمي هندريكس وكات ستيفنس، بهدف الدّخول وتعرّف عالم هذه الموسيقى الاستثنائية والمختلفة، لما تمثله من أبعاد دينية، تأتي كطاقة استشفائية من خلال تخليص الإنسان من اكراهات العقل وأزمات العلم وحالات الاغتراب والاستلاب. كما أن كل من الفنانين بوب مارلي وبيتر غابرييل وكارلوس سانتانا، كانوا قد اشتركوا بعزف الموسيقى مع مجانين الكناوة وعشاقها. وهو ما حلّق بها إلى المستوى العالمية.

ولأن الكناويين انحدروا في الأصل، ومنذ القرون الوسطى، من السودان ومالي والنيجر، حين كانوا عبيدا تمّ جلبهم إلى شمال إفريقيا، وتحديدا في جنوب المغرب، تمكنوا من إنشاء زوايا لها طابع علاجي، باعتبار أنهم ادعوا الانتساب الى بلال مؤذن الرسول، وفي ذلك ما يضفي الشرعية على قداسة زواياهم. ونجاحهم في ربط سلالتهم الأولى بهذا الجانب القدسي، جعل منهم على صلة قوية بما هو روحي. وتقول العديد من الدراسات بأن لهم قدرة خارقة في التأثير على حياة الناس والتحكم بمستقبلهم، فهم يروا أنه من الضروري أن تنشأ مصالحة ما بين عالم الإنسان وعالم الجان.تكمن وسيلتهم في شفاء المرضى عبر هذه الموسيقى التي عرفوا بها، حيث تقول المعتقدات بضرورة خروج الموسيقيين ليلا، كي يدقوا الطبول ويرددون الأناشيد الدينية، ثم يتشكل المشهد الفرجوي بعد تجمع الكناويين للرقص والقيام بحركات بهلوانية، ومن ثمّة يطلق البخور وسط الهتافات والأغاني واعتماد الألوان في الملابس التي يرتدونها.

إن أوّل ملاحظة نستطيع أن نسوقها حول هذه الموسيقى، هو أن جذورها روحانية ودينية، كما أنها تتغنى وتولد من رحم البسطاء والعبيد والمهمّشون، قبل أن تعلو إلى مرتبة العالمية، لذلك لن نحاول الكشف عن نجاحها الإنساني، لأن هذا الأمر بسيط وسطحي يستطيع أيّا كان معرفته، بل سندفع بهذا البحث القصير عن عالم الغرابة التي يصلها بعالم الميتا-فوق والأرواح. فقد كان لزاما على الكناوة من كسر بعض المحرّمات وتقويضها، وذلك كمرحلة تبيح لهم الاتصال بتخوم الجان، والماورائي الذي يحرّم المقدّس الديني الإسلامي الخوض فيه. ومن تجلّيات ذلك أن يلبسوا الأردية الملوّنة، والتحوّل في شكل مواكب دينية إلى مكان ما، على إيقاع قرع الطبول التي تمكّنهم من طرد الأرواح الشرّيرة، وتنصبهم كملائكة.عادة ما تحضر الشموع في الطقس الفرجوي للكناوة، تحملها النساء والأطفال، وفي أيديهم أيضا كؤوسا امتلأت بالحليب، وعراجينا من التمور كهبة وقرابينا للأرواح. ولاكتمال هذا الطقس المرفوق بعوالم الدهشة والسحر، تبدأ آلة الكمبري في العزف، وتنشأ التذاكير، والابتهالات، ثم يكون الرقص، كعلامة على تذويب الجسد، ورحيل الروح إلى الأسلاف الأوائل. وانّ كلّ شيء هنا يذكرهم بعالم البدء، في أزمنة ما قبل العبودية، قبل الوقوع في الأسر.

في هذا المناخ الفرجوي، يضمحلّ  الزمن الدنيوي، ويحلّ محلّه الزمن المتافيزيقي- النفسي، فتتسنّى للروح أن تبرأ من تعب الجسد، وتسافر إلى موطنها الأوّل. فالمشاهد يستطيع أن يرى العجب العجاب، إذ تظهر الراقصات في حالة غياب وتخمّر وجذبة، ويعمّ اللوز الأزرق الذي يحلّ في رمزية السماء صفاء وبدايات ووحيا، وعادة ما يرى أيضا سقوط راقص ما، فيتمّ رشّه بعطر الورود، أو يرى، أحدهم يرقص مستعملا سكينا ببراعة، دون أن يجرح نفسه. وفي الأثناء تكون الأنغام قد تمكّنت بالجميع، وكأنّ الأمر أشبه بلحظة شطح صوفية.عادة ما تسيطر النساء على ساحة الرقص زمن الطقس الفرجوي، ويصاحبهن في ذلك اللون الأصفر، والإضاءة الخافتة، حيث تتساقطن الواحدة تلوى الأخرى، عبر حركاتهن المنتشية، وشعرهن المتطاير. ومن حولهن نساء أخريات وصلن إلى درجة الانخطاف والاتحاد بالذات الإلهية أو المطلق. ومن هنا يتعافى المريض باسم المقدس، على خلاف المؤسسة الدينية الرسمية. وتنتهي الطقوس الفرجوية بالأكل، الذي يغلب عليه لحم الماعز والزيتون والخبز. كلّ هذا من شانه أن يثير حفيظة الدين لأنه في جانبه المؤسساتي يرفض رفضا قاطعا كل أساليب السحر.إن الكناويين وبالرغم من أنهم يعتبرون أنفسهم مسلمين، وبالرغم من أن أغانيهم تتضمن العديد من الآيات القرآنية، إلا أنهم واجهوا نقدا لاذعا من قبل الإسلاميين، الذين اعتبروا في كثير من الأحيان، أن الكناوة تلقى دعما يهوديا، ومرجعيتهم في ذلك، أن روّاد هذه الموسيقى على دراية شاسعة بالأرواح الإفريقية واليهودية وحتى المسيحية، وأنه لا يجوز توظيف القرآن في الأغاني والموسيقى. وعلى العكس من ذلك فقد ذهب الكناويون بالقول أن الموسيقى والفن، تتناغم فيهما كل الحضارات الإنسانية والثقافات المختلفة.

 

موسيقى الاصطنبالي

لم تكن موسيقى الكناوة وحدها ذات الجذور الإفريقية، والقادمة من الجنوب إلى شمال هذه القارة السمراء، فعلى غرارها أيضا، جاءت موسيقى الصطنبالي عبر العبيد إلى تونس، إذ أتى بهم الأسبان بهدف استغلالهم وإجبارهم على الأعمال الشاقة. فكان أن تمّ طمس هويتهم وثقافتهم التي عاشوها في أزمنة البدء قبل مرحلة الاستعمار والغزو.وكإثبات منهم لوجودهم، ولذواتهم، من أجل تخليد ذكراهم وسيرتهم وملحمتهم الممتلئة بالعذابات، التجأ أغلبهم الى موسيقى الصطنبالي، باعتبار أنّ الفنّ خالد مثل الوشم الذي يروي صراع الإنسان ضد الثقافات الأخرى، ويجعله واقفا ضدّ كل أشكال الفناء والاستغلال.وهذه الموسيقى، برغم تناغمها مع ثقافات شمال إفريقيا، وانصهارها في تخوم مجتمعية غير التي نشأت فيها المرة الأولى، وانزياحها عن أصولها من خلال تذويبها وإضفاء عليها طابعا حضاريا جديدا، إلا أنها حافظت على جيناتها، من خلال العديد من تجلياتها.لقد كان لزاما على أصحابها التفاعل مع طبيعة مجتمع وجدوا أنفسهم يعيشون فيه قسرا، وكي لا تصدّ موسيقاهم، عمدوا الى الأخذ من الدين الإسلامي، فوظفوه داخل أغانيهم، وبالتالي تستهلّ هذه الموسيقى في لحظة حضورها الفرجوي، بالابتهالات والصلاة على الرسول، والأذكار، وتعديد مناقب الأولياء الصالحين، وذكر كراماتهم. ومن الأدلة على ذلك، أنّ قبر سيدي سعد، كان محطة  يتجمع بها هؤلاء من أجل ممارسة طقوسهم، وإنشاء عروض الاصطنبالي الذي يتغنى بالأرواح وخاصّة بعلي بوراص، وهو كائن عرّفته الذاكرة الشعبية التونسية على أنّه جان.

وبرغم هذا التفاعل الذي رحل بالاصطنبالي الى ثقافة، إلا أن هناك العديد من النقاط التي توضح وفاء هذه الموسيقى لجذورها الإفريقية الأولى، ومن بينها، حالة الإغماء أثناء الطقس الاحتفالي، حيث يتملّك الجنّ شخصا ما، ويتماهى معه روحا وجسدا، لتنشأ حالة من الإغماء وفقدان كلّي للإرادة، عبرهما يصير ذلك الشخص مجرّد فعل هذياني، ولا سيطرة له على نفسه إطلاقا. وهي وضعية كثيرا ما تذكرنا بطقوس استحضار الأرواح في العديد من الأساطير والخرافات في الثقافات الإنسانية القديمة قدم البدء. ومن بينها أيضا ميزة التنبؤ، إذ عرف هؤلاء بقدرتهم الاستبصارية العالية على قراءة المستقبل، كضرب من ضروب النبوّة، والوحي، والمعرفة، ولكنّها نبوّة غير قائمة من منطلقات دينية كما تفرضها المؤسسة الدينية الإسلامية، لأنها مشفوعة بالخرافي، والجنون، والانسياب اللا إرادي من خلال تشويش الحواس، وتفجير مملكة اللاوعي، وإزاحة سلطة الرقابة الاجتماعية والعقلية والأخلاقية.عادة ما نشاهد، أو نحضر الطقوس الفرجوية للاصطنبالي، التي تقام في أغلب الأحيان، في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، وهو شهر الصيام. في هذه الليلة، تبدأ مجموعة الاصطنبالي في عملية استحضار الأرواح، وهي عبارة عن جان بيض وسود كما تسوقها الذهنية الخيالية لعامة الناس. وتعاد هذه الطقوس الفرجوية ليلة العيد، حيث تعزف الموسيقى بعد منتصف الليل.

إنّ الغناء الاصطنبالي، ليس مجرّد تعبيرة فنّية سطحية، إنما تشهد كلّ فرقة منه عريفة، رجلا أو امرأة، والعريفة، في مفهومها هو ذلك الشخص الذي سيحدد جنسه الجان عندما يغيب الأشخاص عن الوعي لحظة اندفاعهم في الرقص والغناء إلى حدود الإقامة فيما وراء الوعي. وتشهد الأغنيات المرفوعة، عالما متداخلا من الأساطير والقصص والبطولات والكرامات والملاحم، التي يتم سردها عبر  كلمات بلغة الهاوسا المالية، أو عبر الرقص كوسيلة لإيضاح المعنى للجمهور الذي لا يفهم تلك اللغة.وعلى غرار موسيقى الكناوة،فإن آلة الكنمبري، هي أساس موسيقى الصطنبالي، كما أنهما تشتركان في نفس الاتجاه الروحي، من خلال تشكّل الطقوس الاحتفالية في عملية استدعاء الجنّ بواسطة الغناء والأناشيد والنوبات التي تتسبب في غشيان المريدين، من أجل عقد مصالحة بين عالمي الجنّ والإنسان.وتذهب بعض الدراسات، بالقول أن المجتمع التونسي يرفض هذه الموسيقى، ويصفها بالشعوذة والسحر، وبأنها مشهد للقاء المومسات بالمخمورين، إلا أن الأمر غير ذلك، ففي مدينة القيروان، وبالرغم من أنها تعرف بطابعها الاسلامي المتشدد، تشهد هذه الموسيقى إقبالا كبيرا، حتّى أنها أصبحت منة التقاليد التي تحضر دائما، خاصّة في افتتاح معظم المهرجانات الثقافية، كمهرجان المسرح الحديث، ومهرجان ربيع الفنون، ومهرجان المونولوج والمسرح الفردي، وهي تنتظم في كلّ سنة وبشكل دائم.

لقد خرجت هذه الموسيقى، من حريم الزوايا وأضرحة الأولياء، إلى صدر المهرجانات الثقافية والعروض الجماهيرية، بعد أن صارت تستقطب الشرائح الشبابية بمختلف تصوراتهم الفكرية. وهذا أمر يجعل من أصولها ومن تراثها جاهزان للكشف عن طاقتها وسحرها الفنيين، كما يمكن الجانب الحضاري من استرداد أبعاده الروحية والميثية، مع تقويض كافة الأشكال العنصرية. إذ لم تعد هذه الموسيقى، حكرا على المهمشين، كما أنها تحررت من صورتها القديمة في ذهنية الناس التي رأتها في يوما على أنها من سلالة العبيد.ربما تكون النوبة، أو التخمّر، أو الانتشاء، ضرب من ضروب التصعيد، والترويح عن النفس، في واقع تسوده العديد من المتاعب الاجتماعية، والقهر اليومي، والقمع السياسي، ومن هنا تصبح هذه الموسيقى وسيلة تستقطب العديد، على اعتبار أن الفن هو وسيلتنا في الهروب من الاكراهات والأتعاب. كما أنّها أيضا تشتغل وفق أشكال فرجوية وتعبيرات فنية وفق طقس ديني، وهو ما يجعلها تدخل في إطار التمسك بالهوية والحفاظ عليها، كنوع من الحنين إلى الماضي والاحتماء به أمام مسار التغيرات المربك والغامض، الذي يشهده عالمنا اليوم. رفض الدين الإسلامي، في شكله المؤسساتي، والإداري، إيهام الناس كون هذه الموسيقى لها من القدرة ما يجعلها تذهب الجنّ والأرواح الشريرة، وهاجم شكلها التنبؤي والاستبصاري، لأنّ ذلك يعود إلى الله وحده. ولكننا لم نشهد تهجما من قبل هذا الدين على هذه الموسيقى.

 

الموسيقى الحسانية

 تعرف موريطانيا، والمنطقة الجغرافية الممتدة في البقاع الصحراوية جنوب المغرب الأقصى، نوعية فريدة من الموسيقى المتميزة، واسمها الموسيقى الحسانية. وهي عبارة عن نسيج نشأ عبر تفاعل الموسيقى العربية مع الموسيقى الإفريقية، ونكتشف ذلك من خلال نغمة إيقاعاتها الصادرة عبر آلات موسيقية تقليدية وعتيقة جدا، وتسمّى بالكآردين والتيدنيت، بينما نظامها الصوت كان قد اختير له اسم الآزوان.تختلف هذه الموسيقى عن العديد من الأنواع الأخرى، فهي لا تنشأ من عدم ومحض بفعل كن فكانت، بل هي في علاقة عضوية بالشعر الحساني، حيث كلّ منهما يمثّل روح الآخر، وهذا الشعر، باعتباره يخضع لقاعدة البحور، فانه يظل موزعا على مقاطع ومقامات هذه الموسيقى، أي أن لكل بحر مقطعه الموسيقي الخاصّ به.

استقطبت هذه الموسيقى، العديد من الفنانين والباحثين والدارسين والمبدعين، إذ وجدوا طابعا جمع بين رافدين من الموسيقى، الأول فلكلوري وتراثي له مرجعيته الإفريقية، والثاني عربي بما يمتلكه من أدوات شعرية وأوزان لها من القدرة على ترويض الإيقاع وجعله يتناسب مع اتجاهها الإبداعي.تشتغل الموسيقى الحسانية على العديد من الآلات الموسيقية العتقية، التي يبدع الحرفيون في صنعها، وهي آلات رئيسية وأخرى فرعية. الأولى نوعان واسمهما التدنيت التي تعرّف على أنها متكونة من طبل خشبي يغطّى بجلد الأغنام أو الماعز، وعود له أوتار تسمّى بالأعصاب المصنوعة من ذيول الخيول. وعادة ما يعزف عليها رجل ما. وللمرأة أن تعزف على النوع الثاني واسمه الآردين، الذي يعرف بكونه هو الآخر طبل وعود يختلف عن العود الأوّل باختلاف أوتاره التي تنقسم إلى أعصاب طويلة وأخرى قصيرة.أما الآلات الفرعية، فقد عدّت وظيفتها لتكون بمثابة المساعد على تحسين الإيقاع، وهنّ الطبل والربابة والمزمار. الأول يصنع من جلد الأبقار والعجول، والثانية شبيهة بربابة العرب المعروفة مثلها مثل الثالثة.استطاعت الموسيقى الحسانية، أن تفوز بمكانة كبيرة وتدخل غمار العالمية، وذلك عبر انفتاحها على تخوم التراث من جهة، وعبر الاهتمامات التي حضيت بها من قبل العديد من الباحثين الإفريقيين والعرب والأجانب من جهة ثانية.

 

موسيقى المرسكاوي

سميت هذه الموسيقى بالمرسكاوي وفي ذلك انتساب إلى  مدينة مرزق جنوب ليبيا، وينهل المرسكاوي باعتباره نمطا من الموسيقى الشعبية في ليبيا، من ثلاثة روافد هي التقاليد الأفريقية والثقافة الأمازيغية المحلية، وثقافة العرب سكان مناطق الساحل، وبالقرب من الصحراء في ليبيا. حيث يتميز بأنغامه وإيقاعه وشعره الغنائي، الذي يؤدّى على مقام واحد، من خلاله يكون الموال ثم الأغنية وينتهي بالتبرويلة حيث يتسارع الإيقاع نحو نغمات راقصة.ارتبط هذا الفن بمدينة بنغازي عاصمة الشرق الليبي، وتعود أصوله إلى  رحلة العبيد من حوض النيجر والتشاد إلى المدن الساحلية الليبية، وما تخلله ذلك من نظرة ساخرة رفضت الأفارقة السود، ثم امتزاجه بالتراث الشعب الليبي، ليكون هناك جمع بين الحضارة الليبية وطقوس التمائم وقصص الشعوذة والسحر الإفريقية.

وبما أن تاريخ إفريقيا في جنوب الصحراء ووسطها، أسبق زمنيا من تاريخ شمالها، كان من السهل جدا أن يحدث التأثير على الثقافة الليبية التي التصقت بالموروث الشعبي للعبيد القادمين إلى أرضها. ولأن مدينة بنغازي التي عرفت باستقبالها واحتضانها للمارقين عن قيم القبائل والخارجين عن تعاليمها الدينية، كما أنها المدينة الأولى التي تضامنت مع العبيد الأفارقة، وأعتقتهم من عبوديتهم، وسمحت لإبداعاتهم السموّ والخروج من أطرها الضيقة الى مجالات الشهرة في الأوساط الفنية ، فإن ذلك ساهم في ولادة نمط متطور من الغناء هو المرسكاوي، وذلك عبر إطلاق العنان لمضامينه ومآسيه وجماليته الإيقاعية وأشعاره المتمردة.تميز هذا النمط الموسيقي بكونه مكوّنا من الفصاحة الشعرية التي عرف بها البدو، من جهة، ومن جهة ثانية فقد نهل من الموروث الأمازيغي. وتميز أيضا بما يشبه الموال العربي وهو التهيئة الأولى للدخول في الأغنية، التي تنتهي بإيقاعات متسارعة تحمل مستمعيها للطرب والرقص.ولا يفوتنا في هذا السياق أن نذكر مشاهير الفنانين الذين تميزوا بهذا النمط الموسيقي، وهم علي الجيهاني، وعبد الجليل القندوز وخديجة الفونشة التي اشتهرت باسم الوردة الليبية، والسيد بومدين ومهدي البرعصي.

 

موسيقى جنوب الصحراء

عرفت الموسيقى الإفريقية وخاصة في جنوب الصحراء،  خصائص ميزتها عن باقي الأنماط الموسيقية، لأنها حافظت على بداياتها وأصولها، وظلت عذراء دون أن تتفاعل مع ثقافات أخرى. ويظهر ذلك جليّا من خلال أدواتها الخاصة، وتقاليدها الضاربة في أصقاع القدم.في تعريفها البسيط، من الممكن أن جدا أن نقول، بأن هذه الموسيقى، هي تلك التقليدية وغير المهاجرة إلى ثقافات وحضارات إنسانية أخرى، باعتبارها ظلت ذات ميزة افريقية بحتة. ومن قبيل التذكير، نشير الى أن التراث الإفريقي غني بالعناصر الموسيقية، لا وجود لمجتمع واحد في إفريقيا دون نمط موسيقي يميزه، وهي موسيقى معقدة، تعسر على الفهم، لأنّها تخرج من أعماق الأدغال، كما أنها تحمل نوعية استثنائية من الإيقاع و الأصوات والأنغام.وهي على غرار أنها شعبية، فإن معظم ألوانها وأنماطها تشهد نزوعا في اتجاه ما هو ديني أو طقسا احتفاليا، وعادة ما تكون مصحوبة بالرقص والغناء ولا تقتصر على المناسبات والاحتفالات فحسب، لأنها بمثابة السلوك اليومي، الذي ينظم الحياة البدائية داخل الأدغال الإفريقية. هي أيضا متعددة الآلات الإيقاعية. وأهمها الطبل بأنواعه وأشكاله المختلفة، الذي أبدع الأفارقة في استخدامه إلى درجة مذهلة ومغرية بالبحث والدراسة.هذه الموسيقى، تمثل ما يقارب الخمسين دولة، وعادة ما تشترك في ثقافة الزولو، إذ تعدّ جملة من الآلات للعزف ولها خصائص مميزة، حيث تتسم بالتكرار وتعدد الأصوات، كما تحضر الأغاني والرقصات والطقوس. وهذه الموسيقى تبقى غنية من حيث أدواتها التعبيرية، حيث تقرع الطبول، وتستعمل الأجراس الحديدية، والمزامير، وينشأ على اثر ذلك الدوران الغريب والمدهش، والرقص والانتشاء.

 

الموسيقى الإفريقية.. أسّست للإبداع العالمي

لم تبق الموسيقى الإفريقية رهينة الجغرافيا، أو سجينة القارة السمراء، أو حكرا على الأفارقة وحدهم، بل شهدت رحيلا فنيا إلى أصقاع العالم، وذلك من خلال تأثيرها على العديد من الأنماط الموسيقية العالمية، لما تحمله من طاقات إبداعية جذبت إليها الفنانين والباحثين.ويكشف لنا كتاب الموسيقى الشعبية الأمريكية، لصاحبيه لاري ستار وكريستوفر واترمان، وقد نشرته إحدى دور النشر في جامعة أكسفورد، عن الأصول الأولى لهذه الموسيقى. فكان أن كانت هناك شهادة دامغة تقول بأنها ذات جذور افريقية صرفة، حيث طوّر الموسيقيون في أميركا اللاتينية مجموعة واسعة من الأساليب التي تمزج الموسيقى الأفريقية مع تقاليد أوروبا.إن هؤلاء الموسيقيين، كانوا قد وجدوا حقولا خصبة، في أغاني العبيد الذين تمّ جلبهم إلى أمريكا، حتّى أنه في السنوات التي مضت، وهي ليست بالبعيدة، عمّت الأنماط الموسيقية الأفريقية وانتشرت هناك بشكل شاسع، ولاقت رواجا وإقبالا جماهيريا مكثفا، وهي وان تم تطويرها ومحاولة تذويبها بتفعيل حقولها الإبداعية مع أنماط أخرى غربية، إلا أنها ظلت حافلة بانتمائها الأول. حين نتحدث مثلا عن فن الجاز، لا يمكننا إطلاقا أن ننسى أن الزنوج كانوا قد جلبوا معهم تراثهم من إفريقيا واحتفظوا به، كما أنهم كانوا يرددون أغانيهم وهم تحت قمع الأعمال الشاقة تحت سلطة الأسياد، لتمتزج صرخات العذاب بالتعبيرات الروحية والفنية.

لقد وجدوا عددًا كبيرًا من الآلات النحاسية مثل السكاكين وأواني الطبخ المبعثرة وبعض القطع الحديدية التي تركتها فرق الموسيقى العسكرية بعد الحروب الأهلية، فجمعوها وأخذوا ينفخون فيها، محاولين عزف تلك الألحان المحفوظة، وهكذا بكل عفوية ابتكروا أسس موسيقى الجاز، كما أصبحت الآلات النحاسية هي الآلات الأساسية لعزفها.ومن خلال ذلك، نشأت فرق الجاز، وشهدت هذه الموسيقى ثورة فنية منذ سنة 1945،حيث شنّ الموسيقيون ثورة ضد الوظيفة التقليدية للموسيقى التي يعزفونها، وهي تحريك أرجل الراقصين؛ لأنهم كانوا يشعرون أنهم يقدمون للجماهير فنًا يستحق الإصغاء إليه في سكون تام، وبأنه فن جديد يخاطب المشاعر ويرتفع إلى المستويات السيمفونية، ولم يعد يشترك في أدائه عازفون بالسليقة، بل أفضل خريجي المعاهد الموسيقية.

لم يكن الجاز وحده من أصول افريقية، فموسيقى البلوز هي الأخرى انحدرت من نفس المكان، ولقد أخذت من حالات الشعور بالإحباط والحزن، والغرض منها هو الانتصار على العذابات الحياتية. اشتهرت بالأساس في المناطق المجاورة لنهر الميسيسيبي، حيث شيدها العبيد الأفارقة وعرفوا بها، ويكمن إلهامها انطلاقا من مخاض هؤلاء وعبوديتهم التي سعوا بتحويلها إلى وسائل تعبيرية فنية تصد عنهم العنصرية والفقر والإذلال. وهي اليوم تتمتع بجاذبية عالمية، إذ تشهد إقبالا كونيا وإعجابا عالميا، بعد أن صارت مشتركا إنسانيا يجمع عازفي طبول أفارقة، ومغنين من أصول هندية، وإقبالا مألوفا من قبل كافة شرائح المجتمعات في العالم.ما نستطيع قوله، هو أن الموسيقى الإفريقية كانت قد شكلت رافدا عالميا لبقية ثقافات العالم، فعلى غرار البلوز والجاز، كان هناك أيضا موسيقى الريقي والصالصا، وهي جميعها وان كانت تحسب على المجتمعات والدول والشعوب الغربية والأمريكية، إلا أن أصولها كانت نابعة من جراح العبيد الأفارقة، الذين افتكوا حريتهم واقتلعوها عبر سلاح الفنون والغناء، حتى أنهم هم من علم أسيادهم فن الإبداع والإضافة ومعاني الإنسانية التائقة للحرية.

*باحث في الاثروبلوجيا