يكفي أن تدخل حسابات الشباب في مدينة بنقردان الواقعة على الحدود التونسية الليبية بين شهري يوليو وأغسطس على موقع فيسبوك لتكتشف عالما مختلفا عند الناس. كل التدوينات تتحدث عن الهجرة غير الشرعية (الحرقة). لا تقرأ إلا "الحمد لله على سلامتك"، "الله يوصلك سالم"، "الله يوجهك خير"، والجميع يمني النفس أن يكون جزءا من المدعو لهم، و"الهاربين" من جحيم الواقع. حالة كبيرة من اليأس جعلت شباب تلك المناطق وعلى شاكلتها بقية مناطق تونس، يحلمون بالهجرة. لا خوف من الموت، لا يأس من الفشل، لا نية للتراجع، الهدف فقط أن يركب الجميع البحر ثم لتكن النتيجة ما تكن، المهم أن الأرض التي هم عليها أصبحت "طاردة".
في زاوية من إحدى مقاهي منطقة الطّابعي التابعة لبنقردان، يجلس أحمد ياسين مع ثلاثة من رفاقه، يتشاركون قهوة سوداء مع سجائر جزائرية مقلّدة يشعلونها من بعضها. اخترنا له اسم أحمد ياسين بطلب منه تجنبا لأي مراقبة مستقبلية له من طرف الأمن الذي يتابع موجة الهجرة في كل المواقع وبشكل مكثف. لا حديث لهم إلا عن "الحرقة" وكيف يبحثون عن سبيل لذلك. المبلغ المطلوب لذلك بين ثلاثة وأربعة ألاف دينار تونسية وقد تكون حتى أكثر، بعدها يكون الحلم قريبا. جميعهم بحثوا عن طريق لـ"حرّاق" ينقذهم مما هم فيه، لكن مازال الحظ لم يبتسم رغم الرحلات اليومية. تعرضوا في مرّة سابقة للتحيل من شخص سرقهم في أموالهم ثم دخل السجن وتركهم أمام السراب ثم فشل هو في محاولة وسط البحر لكنها فشلت أيضا. سيعيد المحاولة ولا يريد الخطأ مرة أخرى.
أحمد ياسين ورفاقه اليوم يمثلون قطاعا كبيرا من الشباب في الجنوب الشرقي التونسي. الهجرة بالنسبة إليهم أصبحت هدفا لا يرجعهم عنه إلا الموت وقد نجح ألاف غيرهم في ذلك. حالة البطالة الطويلة التي زادها فيروس كورونا تأزما، تجعل أغلبهم يحلم بمستقبل وراء البحار لم يجدوه في بلدهم. يعرفون أن أوروبا اليوم لم تعد بذلك الإغراء السابق، وأن الظروف لن تكون سهلة، لكن الهجرة إليها مازالت مغرية لتحقيق جزء من أحلام كثيرة حلموا بها.
يقول أحمد ياسين وهو في بداية العشرينات من عمره إنه بدأ يفكّر في الهجرة منذ كان في السابعة عشرة من عمره. انقطع وقتها عن الدراسة وانقطع معها أي مستقبل، في بلد يعاني بطبعه أزمات اقتصادية متعاقبة منذ التحولات السياسية في 2011. يضيف أنه يعيش ضغطا يوميا منذ سنوات سواء من المجتمع الذي يرى فيه شابا طائشا، أو من عائلته التي تعارض مغادرته نحو أوروبا عبر البحر خوفا عليه.
بدأت قصة أحمد عندما انقطع عن الدراسة وبدأ العمل لأشهر في أحد مستودعات النجارة بمنحة بسيطة لا تكفي حتى أجر سجائره، ثم توجه إلى العمل كالكثير من الشباب سائقا لإحدى السيارات على خط ليبيا رأس اجدير بمجرد حصوله على رخصة للقيادة، وبقي كذلك لحوالي ثلاث سنوات يوفر لنفسه مصاريف مضبوطة لا يمكنه عبرها تحقيق مستقبله حسب قوله، والتفكير كان دائما نحو أوروبا منتظرا فقط الساعة المناسبة.
قبل سنتين اتفق مع أحد منظمي الهجرة غير الشرعية على كل التفاصيل من أجل المغادرة بحرا بشرط توفير مبلغ مالي كبير. قام بتجميع المبلغ بعد جهد كبير عبر سلفات من أصدقاء وأقارب، لكن تفاجأ بأن من أخذ الأموال مجرّد متحيّل استغل وضعه الاجتماعي والاقتصادي ثم اختفى وانقطع معه كل اتصال. عاد بعدها إلى العمل على ليبيا ليجمع مبلغا جديدا "للحرقة" وسط قلق دائم لا يملؤه إلا ولعه بكرة القدم وحبه لفريقه النادي الإفريقي باعتباره عضوا في إحدى مجموعات التشجيع في الفريق، وهذه أيضا ظاهرة تستحق الدرس باعتبارها تعبيرة عن نقمة خاصة على الأوضاع ورد فعل نفسي على الواقع المعاش.
المرة الثانية كانت خلال شهر أغسطس، الذي يعرف موجة غير مسبوقة من الهجرة من سواحل الجنوب التونسي، حيث تقول إحصائيات أن جزيرة لامبيدوزا الإيطالية تستقبل أسبوعيا أكثر من 3000 ألاف مهاجر من مدن الجنوب الشرقي التونسي، قد لا يكونون كلهم من تلك المنطقة، لكنها تكون هي نقطة الانطلاق. اختار أحمد ألا يخبر أهله بشيء في المحاولة الثانية، اجتهد لتوفير مبلغ جديد بنفس الطريقة السابقة، وتتبع "خيطا" جديدا يسافر به نحو حلمه وقد نجح في الجزء الأول من المخطط قبل أن يرفض الحظ مطاوعته.
انطلق المركب الذي يقلّهم ليلا من سواحل جرجيس وكان عند لحظة الانطلاق قد أخبر عمّه الأصغر. يفترض أن يتسع المركب لتسعة أشخاص فقط، لكن منظمي الرحلة يفكرون في الربح الأقصى فيضاعفون العدد. في أغلب الأحيان تكون المراكب مهترئة ومهددة بالغرق. بعد دخلوا في البحر مسافة أميال لم يغرق المركب لكن تعطل محركه ولم يعد قادرا على المواصلة، كانوا في خطر شديد إلى أن تفطنت لهم بحرية صفاقس فقامت بإرجاعهم إلى السواحل التونسية وسط حالة من الإحباط.
يقول إنه تمنى أن يبقى في عرض البحر تحت الخطر على العودة إلى السواحل. كان يأمل في أن تتواصل الرحلة حتى بعد انتظار طويل، لكن وصول البحرية كان أسرع وتبخّر الحلم مرة أخرى. يضيف أن خبر تعطل المركب تناقلته وسائل إعلام تونسية فعاشت العائلة معه فجرا صعبا، وفي كل لحظة كانت تنتظر خبر غرقهم إلى أن اتصل بهم وأخبرهم بنجاته ومن معه وتزامن ذلك مع غرق مركب آخر ذهب ضحيته أكثر من 3 شبان، ثم مع مركب بعده بيوم أنقذ صيادون ركابه كل المهاجرين.
يؤكد أحمد ياسين أنه رغم فشله في المحاولتين ورغم الخطر الذي عاشه في قلب البحر إلا أن فكرة الهجرة مازالت راسخة لا ينوي تركها، يقول إنه يفضل الموت في البحر على موت نفسي في بلاده. ما يفكر فيه أحمد يشاركه فيه مئات الشبان من مدينته وألاف من بلده، وهي ظاهرة تفسّر إلا بحالة من اليأس لم تقدر سلطات البلاد لا على مواجهتها رغم الضغوط الأوروبية ولا على فهمها والانطلاق في مشاريع مستقبلية للشباب تنهي من أذهانهم هذه الظاهرة الغريبة.