ليس من اليسر في ظل الخارطة السياسيّة التي أفرزتها الانتخابات التشريعية التكهّن بمكونات الائتلاف الذي سيحكم البلاد في العهدة القادمة، فالنداء في مأزق والنهضة في مأزق ليس أقلّ خطورة،

إنّ الخارطة السياسية، التي أفرزتها الانتخابات التشريعية ليست في صالح الحزب الأول الفائز بأغلب المقاعد ولا الحزب الثاني الذي يتمتع بكتلة نيابية قويّة بحيث لا يمكن للحزب الأغلبي تجاهل دوره وتأثيراته في مستقبل العملية السياسيّة، سواء شارك في الائتلاف الحاكم أو تولّى قيادة المعارضة ومردّ ذلك أنّ بقيّة الأحزاب، المكونة لهذه الخارطة، وعلى اختلاف أحجامها لا تساعد أيّا منهما على تشكيل ائتلاف واسع، يؤمّن استقرار الحكومة ويتيح لها القيام بالإصلاحات الهيكلية، التي تتطلبها أوضاع البلاد، واتخاذ إجراءات غير شعبية، إجراءات لا مناص منها سواء لوقف تدهور الماليّة العموميّة وتوفير شروط تحريك عجلة الاقتصاد وتحسين مناخ الاستثمار، أو لحشد الموارد الضروريّة لمكافحة الإرهاب.

فنداء تونس الذي يمنحه الدستور الأولويّة لتشكيل الحكومة لا تسعفه هذه الخارطة بأحزاب قريبة منه تمكّنه من تشكيل أغلبية مريحة، فالأحزاب التي ينسحب عليها هذا الوصف والتي يمكن، نظريا، أن يعتمد عليها لتشكيل الائتلاف الحاكم ليست مضمونة بالضرورة. نلاحظ، إذن، أنّ تشكيلة البرلمان الحالي تضع حزب الأغلبية أمام خيارات صعبة، وفي وضعية مفتوحة على كل الاحتمالات سيجد نفسه عندما نفحص مختلف الفرضيات أمام واحد من سيناريوهين أساسيين.

ائتلاف دون النهضة
رغم إكراهات الخارطة السياسيّة التي أفرزتها الانتخابات ومحدوديّة هامش المناورة، التي يتحرّك فيها الحزب الأغلبي والتي قد تضطرّه، في نهاية المطاف، إلى تشكيل ائتلاف واسع يضم حركة النهضة فإنّ الأخبار المتسرّبة من دوائره تفيد أنّ تشكيل ائتلاف دون النهضة لا يزال الخيار السائد وأنّ الندائيين سيبذلون كل جهودهم لضمان أغلبية مريحة دون اللجوء إلى التحالف مع النهضة. ويعني هذا، عمليا، أن ينجح النداء في إقناع الأحزاب الوازنة في المجلس والتي تشاطره المرجعية الفكرية وتتفق معه حول النمط المجتمعي المنشود للانضمام للائتلاف الحاكم وأن يقدّم التنازلات الضرورية التي يتطلبها تحقيق هذا الهدف.

إذا نجح النداء في ذلك فسيتمكن من تشكيل حكومة ائتلافية تتمتع بأغلبية مريحة تساعدها على الاستقرار وعلى تنفيذ برنامجها بأريحية تحظى بمساندة 124 نائبا (النداء 85 نائبا، الاتحاد الوطني الحرّ 17 نائبا، والجبهة الشعبية 15 نائبا، آفاق تونس 8 نواّب، المبادرة 3 نوّاب) ويمكن أن تتعزّز هذه المجموعة بنواب الجبهة الوطنية للإنقاذ (نائب) والديمقراطيين الاشتراكيين (نائب) وصوت الفلاحين (نائب) والمستقلين ( 3نواب) مما يرفع العدد الجملي إلى 131 نائبا . تتمتع هذه الكتلة، من جهة أخرى، بـنسبة تفوق 96,%49 من أصوات الناخبين إذ يبلغ عدد الناخبين الذين صوتوا للأحزاب المشكلة لها 1.657٫776.

لكن تحقيق هذا الهدف ليس بالأمر الهيّن، فإذا كان من السهل على النداء الاتفاق مع حزبي آفاق والمبادرة وتذليل الخلافات السياسية بينه وبين الاتحاد الوطني الحرّ، نظرا لدرجة التوافق العالية بين برنامجه الاقتصادي والاجتماعي وبين البرامج الاقتصادية والاجتماعية لهذه الأحزاب فإنه من الصعب عليه التوصّل إلى توافق مع الجبهة الشعبية، فهذه وإن تشترك معه في المرجعية الفكرية وحول النمط المجتمعي المنشود فإنّها تختلف معه ومع مجموع هذه الأحزاب اختلافا جوهريا حول البرنامج الاقتصادي والاجتماعي، فنسبة التوافق بين الطرفين والتي يمكن الوقوف عليها عند مقارنة البرامج لا تسمح حتى بالاتفاق على برنامج الحدّ الأدنى، بعض قيادات النداء لم تخف تشاؤمها فقد أكّدت لنا أنّ إمكانية التوافق مع الجبهة أمر مستبعد إن لم يكن مستحيلا، لكنّها أضافت أن هذا لن يثنيهما عن المحاولة.

الجبهة لم تحسم بدورها الأمر فموقفها لا يزال غامضا ومفتوحا على مختلف الاحتمالات كما نلمس من تصريحات بعض قياداتها، فمنها ما يوحي بإمكانية التحالف إذا احترمت الأطراف الحليفة برنامج الحدّ الأدنى الذي تقترحه، ومنها ما يوحي بأنّ الجبهة ليست معنيّة بالمشاركة في السلطة وأنها لا تتحالف إلاّ مع الأطراف التي تلتزم ببرنامجها.

إذا حسم الخلاف لصالح المشاركة في التحالف فسيتعزّز هذا الخيار وإذا حسم لصالح الرفض فإنّ النداء سيجد نفسه أمام أحد خيارين أحلاهما مرّ فإمّا العدول عن هذا الخيار واللجوء إلى السيناريو الثاني أو التمسّك بهذا الخيار وفي هذه الحالة فإنّ الحكومة ستكون حكومة ذات أغلبية بسيطة، لا يتجاوز عدد النواب المساندين لها، وفي أفضل الحالات، 115 نائبا. حكومة كهذه ستكون، دون جدل، ضعيفة ومهتزّة، وعاجزة عن القيام بالإصلاحات الهيكلية التي يتطلّبها الوضع وعن إقناع الشعب بتحمّل التضحيات المؤلمة التي يستوجبها إنقاذ الاقتصاد الوطني، سيعزّز هذا الفشل، من جهة أخرى، صفوف المعارضة، فالحكومة ستجد نفسها في مواجهة كتلتين للمعارضة الكتلة التي تتزعمها النهضة وكتلة الجبهة الشعبية، تلتقيان أحيانا وتختلفان أحيانا أخرى.

نرجّح أن تحمل هذه الأسباب مجتمعة النداء على العدول عن هذا الخيار واللجوء إلى السيناريو الثاني «التحالف مع النهضة»، لكن إذا أخفق، لسبب أم لآخر، في تشكيل تحالف معها وانتهى الأجل المحدّد فإنّ رئيس الجمهورية سيكلّف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة .

والإشكال هو أنّ الحزب الثاني ليس قادرا، بدوره، على تشكيل الحكومة دون التحالف مع الحزب الأغلبي، إذ لا يمكنه، وفي كل الحالات، تشكيل ائتلاف بـ51 بالمائة من الأحزاب القريبة منه أو التي قد تقبل التحالف معه، وعندها سيضطرّ الرئيس إلى تكليف شخصية من أحد الأحزاب الصغيرة أو شخصية مستقلة لتكوين الحكومة وهذا مأزق آخر، ليس من السهل تجاوزه، فالأزمة التي قد تنجم عنه قد تقود رئيس الجمهورية، في حال انتهاء الأجل القانوني، إلى حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة كما ينصّ على ذلك الفصل 89 من الدستور.

ائتلاف مع النهضة
إذا فشل خيار «الائتلاف دون النهضة» فإنّ النداء سيضطرّ إلى تشكيل ائتلاف واسع يضمّ بالأساس حركة النهضة، هذا الخيار سيصدم قطاعا مهمّا من الندائيين وناخبي النداء إذا أخذنا بعين الاعتبار التعهّدات القطعية لقادة الحزب بعدم التحالف مع النهضة.

لقد كشف الصندوق أنّ النداء فاز بالأغلبية، لكن كشف، في الآن نفسه، أن النهضة لا تزال رقما صعبا وأن الفارق الضئيل بينها وبين الحزب الأغلبي سيضيق على هذا الأخير هامش المناورة ويحدّ من خياراته، وضعية غير مريحة من شأنها أن تحمل النداء على مراجعة موقفه المتشدّد من التحالف مع النهضة وأن تجبره على أن يقرأ حسابا وألف حساب لموقف الحركة وردود فعلها، بل من شأنها أن تدعوه إلى التفكير، وبصفة جديّة، في خيار التحالف معها وهذا ما عناه الشيخ راشد الغنوشي عندما قال «لا تزال النهضة في موقع لا يقضى شيء دون مشاركتها وربّما دون مشورتها»

النداء لوّح بدوره، باحتمال اللجوء إلى هذا الخيار إذ أعلن قائد السبسي عشية افتتاح حملة الانتخابات الرئاسية في حوار أجرته معه قناة نسمة «إنّ نتائج الانتخابات ستحدّد طبيعة التحالفات» وأضاف « النهضة ليست عدوّا وعلاقتي بالغنوشي تقوم على الاحترام ولن نتجاهل النهضة وهذه تونس».

مأزق النداء
إقدام قيادة النّداء على التحالف مع النهضة، سواء في صيغة «حكومة وحدة وطنية» أو في إطار ثنائي سيلقى معارضة شديدة.
هذا بالإضافة إلى التوتّر الذي سيحدثه هذا الخيار في علاقة النداء ببعض من حلفائه الطبيعيين كالجبهة الشعبية والمسار وحزب العمل الديمقراطي، سيصدم كل هؤلاء وسيقولون: إنّ حزب الباجي يستنسخ تجربة الترويكا ولم يتعظ بنتائج تجربتها، إنّه يقوم هو، أيضا، بتحالف غير طبيعي، شأنه في ذلك شأن التكتّل، وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، قد يغضب البعض فيقول «اش اعملنا وجاء مليح، هربنا من القطرة جينا تحت الميزاب»، لقد نكث النّداء تعهداته وخان الشعارات التي أثّث بها حملته والتي أغوى بها قطاعات مهمّة من الهيئة الانتخابية. بعض الندائيين والمحللين يذهبون إلى أبعد من هذا، إذ لا يستبعدون حصول تصدّع داخل النداء ويرون أن قرارا كهذا سيكون ضربة البداية لنشوب توترات وأزمات بين مختلف مكوناته.
لكن القيادة، وتحديدا الباجي قائد السبسي، الذي يبدو أنّه عازم على اتخاذ هذا القرار وتحمّل تبعاته لا تعدمه الحجج للدفاع عن خياره ولا الوسائل التي قد تتيح له تهدئة غضب رفاقه وأنصاره وتفادي التصدّع الذي قد ينجم عنه.

سيحاول إقناعهم، بأن الشروع في القيام بالإصلاحات الكبرى التي يتطلبها وقف التدهور وإعادة تحريك عجلة الاقتصاد وتحسين مناخ الاستثمار والبدء في ترقية المرافق الاجتماعية أهداف لا يمكن تحقيقها، في ظلّ وضع موازين القوى الذي أفرزته الانتخابات، إلاّ بتوريط كل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين في «مشروع البناء الوطني» الذي تحتمه طبيعة المرحلة.

من جهة أخرى فإنّ قبول الحركة مبدأ التحالف مع النداء يضفي، لونا من الصدقيّة على الخطاب الجديد للحركة، الخطاب الذي يدعو، وخلافا للخطاب السابق، للوحدة الوطنيّة، والذي بات يرفض تقسيم التونسيين إلى علمانيين وإسلاميين، إلى حداثيين ورجعيين، إلى كفار ومؤمنين، ويؤكّد أن الدستور وحّد التونسيين فالجميع باتوا متفقين في تقديره، حول مسألة الهويّة ومدنيّة الدولة، وقضيّة الحريات، ومبادئ حقوق الإنسان، والنظام السياسي، إنّ منطوق هذا الخطاب كما مفهومه يؤكّد أنه لم يعد من داع لافتعال خلافات حول هذه القضايا، أو تقسيم التونسيين بين منظومة قديمة ومنظومة ثورية، إلى قوى الثورة وقوى الثورة المضادة، وهذا ما عناه الغنوشي عندما رفع شعار «من دخل الدستور فهو آمن»

ما نستنتجه هو أنّ إبعاد هذا الخيار، والتي لا تبدو من أول وهلة، قد تمثل إضافة من إضافات التجربة التونسية، فهي تصبّ في اتجاه ما أصبح يوصف «بتونسة الإسلام السياسي» هذا الخيار ليس سهلا فهو محفوف بالمخاطر والمنزلقات والاستعصاءات. لكن لم يعد، مع ذلك، ضربا من الطوباويّة، فالحركيّة التي يشهدها المشهد السياسي، منذ اعتصام الرحيل ونجاح الحوار الوطني، والأزمة التي يشهدها الإسلام السياسي في باقي بلدان ما يوصف بالربيع العربي تشتغل جميعا لصالح هذه الفرضيّة، صحيح أنّ النهضة لم تقم بمراجعات طروحاتها السابقة والتنظير للسياسة الجديدة فالتراجع والعودة إلى الخطاب القديم، ما زال «في قفلة الصبّاط» لقد عاد، كما نرى، وبقوّة بعد فوز النداء.

رغم كل هذا فإنّ هذه الحركيّة تتجه لبلورة إسلام سياسي تونسي منفتح على البورقيبية ويسعى إلى التموقع في مسار الحركة الإصلاحية والوطنية التونسية، كما تتجّه في الآن نفسه، إلى بلورة بورقيبية جديدة تقرّ بأنّ هذا التيار جزء من الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي التونسي، وأن بإمكانه إذا نجح في انجاز القطيعة مع المشروع الإخواني أن يساهم في إطار ثوابت الهويّة التونسية، في تقديم الإضافة وإخصاب الحياة الفكرية والسياسية.

مأزق النهضة
لقد بنت النهضة كل حساباتها وسياساتها على فرضية فوزها المحقّق بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية وفوز حلفائها بكتل نيابية محترمة تساعدها على تأليف حكومة تتمتّع بأغلبية مريحة وعلى التحكّم في مسار الانتخابات الرئاسية.

في هذا الإطار يندرج مقترح الرئيس التوافقي واستماتتها في الدفاع على أسبقية الانتخابات التشريعية على الانتخابات الرئاسيّة، لقد كان همّها بعد أن تضمن القصبة، أن «تنصّب» في قرطاج رئيسا مدينا لها، ينفّذ أجندات القصبة ويبصم على مشاريع قوانين قصر باردو، اللاّفت هو العناد، لم تفلح في فرض النظام البرلماني الذي تريد فعقدت العزم على تهميش الرئاسة والاحتيال لتطبيقه على أرض الواقع.

لقد علّلت مقترح الرئيس التوافقي بعدم رغبتها في التفرّد بالسلطة وحرصها على تحقيق التوازن بين القصبة وقرطاج وهذه مغالطة مفضوحة ، فهذا المقترح هو في الواقع عين التغوّل، إنّه تغوّل بأسلوب ناعم وبالوساطة، لكن لم تنطل الحيلة فقد كشفت ردود فعل الطبقة السياسية وجلّ التحاليل هذه المناورة وأوضحت أنها تستهدف، بالأساس، الباجي قائد السبسي الذي بدا وكأنه الأوفر حظّا للفوز بالرئاسة.

كانت هذه خطة الحركة لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد جاءت نتائج الانتخابات التشريعية لتقلب الأمور رأسا على عقب، وتسقط كل الحسابات في الماء، فكانت مبادرة ابن جعفر أو رقصة الديك المذبوح وكانت تصريحات رؤوف العيادي الذي اعتبر ما حدث انقلابا ناعما وندمت النهضة حين لا ينفع الندم. ثم تعالت الأصوات، من هنا وهناك، لنعي الثورة والترحم عليها ولانذار القوم بأن عصرا جديدا من الاستبداد والفساد على الأبواب، كما انطلقت الدعوات المدويّة لحشد الأنصار ورصّ الصفوف وشحذ العزائم للتصدّي للخطر الداهم وإنقاذ الثورة المغدورة. الهدف واضح، إنه ببساطة إسقاط الباجي في الانتخابات الرئاسيّة.

ليس غريبا أن نستمع لردود فعل متشنّجة ومواقف غير عقلانية من أحزاب ما يوصف بالعائلة الديمقراطية الاجتماعية، فالنتائج الكارثية وغير المنتظرة لهذه الأحزاب تبرّر ذلك، وليس غريبا أن نسمع من العيادي وصف ما حدث بالمؤامرة والانقلاب فقد اعتدنا سماع ذلك منه، ما يثير الاستغراب هو انضمام عدد من قياديي النهضة وإطاراتها علاوة على أجهزة الإعلام المنحازة لها إلى هذه الجوقة.

الأكيد أن خلافات عميقة تشقّ النهضة حول الكيفيّة التي ستتعاطى بها مع هذه المستجدات، لم تكن بحاجة لانتظار ما حدث بمجلس الشورى للتيّقن من ذلك، فهناك العديد من المؤشرات التي تشي بهذه الخلافات، تكفي المقارنة بين خطاب رئيس الحركة وخطابات الآخرين، للوقوف على أوجه الخلاف. لقد حافظ الرجل على هدوئه وتعامل بعقلانية وروح رياضية مع نتائج الانتخابات، والأهم من ذلك أنه ترك الباب مفتوحا لإمكانية دعم ترشّح الباجي للرئاسة. فقد أجاب عندما سئل عن الموضوع «أنّ النهضة ليس لديها فيتو على أي مرشح رئاسي».

النهضة وخطورة المأزق
إنّ الخطاب السائد اليوم في حركة النهضة، وفي دوائر ما يوصف بأحزاب العائلة الديمقراطية الاجتماعية يحمل على الاعتقاد بأنّ هذه الأحزاب لم تهضم، في الواقع، رغم التصريحات العلنية نتائج الانتخابات وأحكام صندوق الاقتراع، إنّها تكرّر ما عابت به خصومها عقب انتخابات 23 أكتوبر 2011.

الفرق هو أنّ «الأحلاف» يسعون، اليوم، علنا إلى تقييد أيدي الحزب الأغلبي وحلفائه وحرمانهم من تنفيذ سياساتهم وبرامجهم، ووسيلتهم لتحقيق ذلك رئيس الجمهورية، إنهّم يرغبون، ودون لبس، إلى أن يتحول قصر قرطاج إلى معقل للمعارضة وأن تتضافر جهود صاحب قرطاج وجهود معارضة باردو لمحاصرة صاحب القصبة ولمواجهة الأغلبية البرلمانية، ما نقوله ليس رجما بالغيب، فهذا الهدف كشفت عنه، وبكل وضوح، خطب جلّ أحزاب هذا الحلف الذي هو بصدد التشكل ، فالجميع يسعى، بدعوى حماية الثورة، إلى إفراد النداء «إفراد البعير المعبّد».
إنّ هذا المناخ العدائي وهذه العودة، بشكل سافر، إلى تقسيم الشعب والنخب وهذا التشديد على أنّ الصراع هو صراع بين المنظومة القديمة والمنظومة الجديدة، بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة، إنّ كل هذا سيجعل من شعار الوحدة الوطنيّة مجرّد حلم ومن مقترح تشكيل حكومة وحدة وطنية خيارا غير قابل للانجاز، إنه يدفع كل الأطراف دفعا لتوضيح الرؤية ويولّد لديها القناعة بأنّ تلك الشعارات لا يشهد لها الواقع وإن تقتضيها الضرورة ويستدعيها إنقاذ البلاد بأقل التكاليف.

إنّ الخيار الذي استقرّت عليه النهضة للخروج من المأزق أو من المرجح أن تستقرّ عليه، في نهاية المطاف، يرجّح احتمال أن تتطوّر الأحداث في هذه الوجهة، كما أنّ الوضعية التي يجد فيها النداء نفسه ترجّح ذات الاحتمال. إذ يبدو أنّ الباجي يرغب ويسعى للتوصّل إلى «حلّ وسط تاريخي» للخروج من هذا المأزق (un compromis historique) وربما الشيخ راشد وقلّة من قادة النهضة يرغبون بدورهم في دفع الأحداث في هذه الوجهة للخروج من مأزقهم، لكن الواقع عنيد كما يقال، لا يمكن أن يسير حسب الرغبات، فهذه الرغبة، وكما تؤكّد الأحداث صباح مساء، لا تشهد لها، بعد، الأحداث. لقد نجح الشيخ ، في أزمات سابقة في توجيه كفّة الأحداث لصالح مواقفه وخياراته، لكن يبدو أنه عاجز هذه المرّة عن ذلك، فثمن دعم ترشّح الباجي سيكون جدّ مكلف للحركة قد يمزقها ويذهب بريحها وفي هذا تحديدا تتجلّى خطورة المأزق الذي يواجهه الشيخ.
ما نخلص إليه هو أنّ النداء سيجد نفسه مضطرّا للحكم بأغلبية بسيطة وسيقتنع أنه لا خيار أمامه، في إطار معطيات الواقع الراهن بالبلاد، إلاّ إتباع الأعراف السائدة في البلدان الديمقراطية

العريقة، أي الحكم في صيغة سلطة/معارضة، وأن يتحمّل تبعات هذا الخيار/الضرورة. سيكون الحكم بهذه الصيغة، ودون جدل، مكلفا نظرا لحجم التحدّيات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها البلاد، لكن، وكما يقال، للضرورة أحكام..

سيحذّر البعض من مغبّة هذا الخيار ويرى فيه ضربا من الترف بالنسبة لأوضاع ديمقراطية ناشئة وفي ظل وضع إقليمي خطير ومفتوح على كل الاحتمالات، لكن سيقول البعض الآخر «ربّ ضارة نافعة» ويؤكد أن تكافح الأطروحات والآراء والخيارات هو الكفيل بالتمكين للفكرة الديمقراطية ولوضع البلاد على سكّة الازدهار الاقتصادي والتقدّم الاجتماعي، سيتطلّب ذلك تضحيات مؤلمة لكن يبدو أنّ ذلك هو قدرنا وأنّه لا مناص من المرور بهذا الطريق الصعب، فهو الذي سيهيّئ الظروف لإنجاز ما تعذّر انجازه، اليوم، وهو بناء كتلة تاريخية جديدة، تؤكد كل الأحداث العربيّة والإسلامية أن البلاد مازالت بحاجة إليها لإنجاز القطيعة مع ثقافة القرون الوسطى وللبرهنة على أنّ قدر المسلمين ليس حكم داعش وأنّه بإمكانهم أن يعيشوا عصرهم دون أن يفقدوا ذاتيتهم.

- جريدة المغرب