قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمقامرة كبيرة في ليبيا تبدو في صالحه حتى الآن من خلال فرض نوع من النفوذ الجديد، وهو نفوذ ينذر بتغييرات مهمة في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط. فالأتراك يسعون من خلال نفوذهم الجديد لإظهار عزمهم أن يصبحوا لاعبا مركزيا في المنطقة، عبر بعض الاستعراضات العسكرية التي قد تجر نحو أزمة عميقة تمتد حتى نحو اليونان.
وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعمه لحكومة الوفاق الوطني ضد الجيش الوطني الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر، الذي كان يحاصر العاصمة طرابلس، لكن دخول الطائرات والقوات والسفن البحرية التركية ونحو 10000 مقاتل سوري نقلتهم أنقرة إلى ليبيا في مسارات المعارك بالإضافة إلى تفاهمات دولية جعلت الجيش الليبي يتأخر إلى مناطق أخرى شرقا.
ورفضت حكومة الوفاق دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لوقف إطلاق النار، والدخول في عملية سياسية جديدة تنهي سنوات الصراع، وأعلنت زعمها مواصلة المعارك نحو سرت والمنشئات النفطيّة وسط أخبار عن ضغوطات دولية من أجل الوصول إلى تفاهمات قبل احتدام المعارك من جديد.
وتركيا الحليف القوي لحكومة الوفاق، تستند إلى اتفاقات أبرمتها مع فائز السراح نهاية نوفمبر من العام الماضي، تتحصل بموجبها على امتيازات كبيرة اقتصاديا وأمنيا على كامل البحر المتوسط وداخل ليبيا وربما حتى في الدول القريبة، وهذا ما يفسر انزعاج عيد الأطراف في مصر وتونس التي تعتبر أن تركيا تتعامل في ليبيا بنوايا استعمارية بنفس المنطق العثماني القديم.
وبالعودة إلى السنوات التي سبقت التحولات في المنطقة العربية، كانت استراتيجية تركيا واحدة وهي "صفر مشاكل مع الجيران" اعتمادا على شعار القوة الناعمة لتركيا، لكن السنوات التالية تثبت أن هناك نوايا أخرى مبنية على الرغبة في بسط النفوذ في منطقة الشرق الأوسط. بل إنها اتخذت مواقف أكثر عدوانية ومشاركة فعلية في القتال الدائر في بعض الدول وأساسا ليبيا وسوريا.
البداية مع ليبيا كانت منذ العام 2011، عندما كانت جزءا أساسيا من الحرب التي شنها حلف الناتو وأسقطت نظام العقيد معمّر القذافي، وواصلت تدخلها بعد ذلك في دعم جماعات الإسلام السياسي التي تمارس كل ما تمارسه اليوم في البلاد. ثم كان الدور على سوريا، التي ساهمت أنقرة في وضع الخراب الذي وصلت إليه، وكانت المجال الجغرافي الذي يعبر منه الإرهابيون للقتال ضد الجيش السوري الذي يبدو أن ربح معركته رغم التحشيد الدولي الكبير ضدّه.
والاستراتيجية التركية المتبعة خلال السنوات الأخيرة تثبت أنها لا تؤمن بسياسة الأحلاف وتتعامل بنوع من التقية مع الجميع، بما يعني أنه لاثقة لها في أحد وهذا ما يفسر الاندفاع الكبير الذي تتميز به حتى مع القوى العظمى المنقسمة بدورها منها في علاقة بالأزمة الليبية حيث تقف الولايات المتحدة إلى جانبها على الأقل بالصمت، في حين أن التوتر بينها وبين فرنسا يتزايد يوما بعد يوم وسط الأخبار عن تحرش سفينة تركية بإحدى سفن المراقبة الفرنسية بالمتوسط.
وحالة التوتر التركية على كامل الشرق الأوسط والمتوسط قد تنذر بتطورات مستقبلية غير محسوبة، لعل أخطرها المواجهة مع اليونان جارتها الجغرافية وجارتها في عديد الإشكاليات الحدودية التي تحمل تجاهها نوعا من العداء التاريخي في علاقة بجزيرة قبرص المقسمة بينهما.
ويشر مراقبون إلى أن تركيا لا تعترف بترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى حول بحر إيجه، حيث تطالب بالعديد من الجزر اليونانية. كما كانت هناك تلميحات حول التنقيب عن الغاز بالقرب من جزيرة كريت اليونانية وقد يقرر أردوغان أن هذا هو الوقت المناسب لتحدي اليونان، في ظل التحرك المريح في المتوسط.