نعيش حياتنا كما هي بكل أنواع الاستهلاك فيها، نتأثر كثيراً وعميقاً بكل الدعايات والإعلانات التجارية في إعلامنا المغاربي والتي تعدنا ''بالجنة المفقودة'' في حياتنا... فنستهلك أطناناً من كافة أنواع المواد، ونتخلص من أضعاف تلك الأطنان في صناديق القمامة... فهل هناك أسلوب آخر للحياة يمكن أن تعلّمَه لنا أزمة كورونا؟ أم أنه لابد وأن ننتظر لكي ''تفرضه'' علينا الظروف؟ وما هو موقف الإعلام المغاربي من الأزمة الاقتصادية الراهنة؟ وماذا عن ''مجتمع الاستهلاك'' الذي بدأ يتغير ويتشكل في ملامحه بفعل أظافر الأزمة المالية...؟

إنّ نمط الحياة الحديثة يتميّز، أكثر منه في أي وقت مضى، باضطرار المستهلك المغاربي إلى الدّخول في نوع من التعاقد غير محدّد الشروط يضع المستهلك نفسه بمقتضاه تحت رحمة التاجر بحيث لا يصبح للمستهلك مفرّ من قبول كل ما يستجدّ من الشروط، ومنها ما لو علم به مقدماً ما كان ليرتبط بهذا التعاقد ابتداء، الأمر الذي يعني في نهاية الأمر أنّ مقدار الرفاهية (الإشباع) الذي يحصل عليه بالفعل أقلّ بكثير ممّا كان يتوقّعه. ويكفي في الوقت الحاضر أن نفتح صحيفة أو ندير جهاز التلفاز أو نصغي إلى المذياع لنرى كم أنّ الأشياء أصبحت جاهزة وبسيطة، ولندرك أنّ السرّ في شكوى المستهلكين الدّائمة والمستمرّة ممّا يقترح عليهم من منتجات وخدمات وما يحدث لهم نتيجة الإعلان الكاذب والتّصريف الغير المضبوط لبضائع مغشوشة ومنتجات مزيّفة تمسّ حقّ الإنسان في سلامة الجسد والنفس وتنهب أمواله وثرواته لغير سبب مشروع. فالتّجارة من أكثر وجوه النشاط البشري إغراء لما فيه من كثرة الأرباح وقد جاء في الحديث الشريف: ''تسعة أعشار الرزق في التّجارة''، وفي التّجارة مجال واسع لأنواع الحيل في ترويج السّلع وإخفاء العيوب واستغلال ثقة المتعاملين حيث يقول ''ابن خلدون'': ''أنّها تستدعي المكايسة، والمماحكة والغش، وتعاهد الأيمان الكاذبة على الأثمان ردّا وقبولا''.

ومهما كان التّصوير المثالي لنظم الإعلام المغاربي المستخدم، فإنّها لا تكفي وحدها لتحقيق الأهداف العامّة لسياسة فعّالة في تحقيق مصالح المستهلكين، فإعلام المستهلك وسيلة ضرورية لوضع هذه السياسة موضع التنفيذ دون أن يكون قادراً وحده على تحقيق الأهداف المرجوّة من هذه السياسة، أمّا الأدوات الرئيسية الأخرى، فتتمثل في توعية المستهلك وحماية مصالحه الاقتصادية وتسهيل إجراءات التقاضي وتنظيم سبل تمثيل المصالح الجماعية للمستهلكين. وتبدو الحاجة ضرورية إلى التمسّك بارتباط إعلام المستهلك مع عناصر أخرى لسياسة الحماية المقرّرة للمستهلكين عندما نضع نصب أعيننا القيود التي تحدّ من فعالية وسائل الإعلام في شأن تداول السّلع والخدمات بالسّوق التي تؤدّي إلى ما يمكن تسميته بنقص الإعلام.

هل الإعلام يحجب حقيقة المنتوج...؟
الإعلام يعمل على أن نكون في صراع مستمر لا هوادة فيه مع من يحيطون بنا لأجل الشعور بالتفوق عليهم من خلال ما نستهلك أي ما نرتدي من ملابس وما نركب من سيارات وما نستعمل من عطور وأغراض أخرى كثيرة... لذلك تأتي المناسبات الاجتماعية لتكون مناسبات ''نفسية'' أو مباريات نفسية في التباهي والاستعراض... وهكذا تحولت الأعراس أو حفلات الزواج ـ مثلاً ـ إلى نوع من المسارح التي نقدم عليها وفيها عروضنا مما نلبس ومما نأكل ومما نطرب ونحتفل... وهكذا أيضاً الحفلات الأخرى كاحتفالات أعياد الميلاد الشخصية، والمناسبات الاجتماعية الأخرى... بل حتى مناسبات العزاء في حالات الموت صارت تصنف على أنها مناسبة خمسة نجوم وأصبحت مناسباتنا الاجتماعية بدلاً من أن تكون مناسبات للتضامن الاجتماعي والتآخي والود، أصبحت بفعل الإعلام والدعايات والإعلانات التجارية فرصاً ذهبية للتفوق الطبقي والاستعلاء المادي.

لماذا فشلت وسائل الإعلام...؟    
نعم. ففشل وسائل الإعلام يرتبط أيضاً بسلوك المستهلك ذاته، فقد أثبت الواقع محدودية وسائل الإعلام المتاحة بالرغم من إجباريتها، ومن بين هذه الوسائل الملصقات أو البيانات الإجبارية اللازم وضعها على السلع. ويمكن أن نعزو فشل وسائل الإعلام المغاربية المرتبطة بسلوك المستهلك إلى بعض العناصر الموضوعية بالإضافة إلى بعض العناصر الشّخصيّة. فمن النّاحية الموضوعية نجد أنّ سلوك المستهلك بالنسبة إلى وسيلة الإعلام، يرتبط بمدى التكلفة التي يتحمّلها المستهلك للحصول على المعلومات، كما هو الشأن بالنّسبة إلى سعر الجريدة أو المجلة التي تصدر عن إحدى جمعيات المستهلكين للإعلام بالسّلع والخدمات المتداولة في السّوق، أو عن مؤسسة إعلامية متخصّصة سواء كانت تابعة للقطاع العام أو الخاص. ومن الناحيّة الشخصيّة نجد أنّ هناك تبايناً بين المستهلك من حيث درجة التّعليم ودرجة الاندفاع أو التعقل. كذلك نجد أنّ هناك تبايناً بين شرائح مختلفة من المستهلكين، فالقدرة على الاستفادة من المعلومات المتاحة تختلف بين صغير وكبير، ومن ذلك أيضاً مدى قدرة المستهلك على استيعاب الكمّ من المعلومات المكتوبة بأحجام تعوق الاطلاع عليها.

فعناصر التضليل مازالت تستخدم إلى اليوم، وتستعمل بصورة منتجة في الدعاية والإعلان والسياسة. فالسحر والخزعبلات يمارسان تأثيرهما على نحو روتيني ويومي في البيت والمكتب، وينتشي الناس ويتعجبون من الإنجازات التي أمامهم، لكن ما يحدث هو تزييف للحاجات... فالإعلان والدعاية والإعلام هم من يقررون للفرد ماذا يختار من سلع وأدوات وألعاب ووسائل لهو وتسلية، فأنت لا تختار بوحي إرادتك... إنه الإعلان والإعلام الذي يوجهك في الاختيار، وإذا ما أدركنا دوافع الإعلان التجارية وغير
التجارية أمكننا الاستنتاج بأن النظام الصناعي قادر باستراتيجياته وآلياته على تسيير الإنسان وفق مقتضياته وأهدافه البعيدة.

نعم... فاليوم يبتكر النظام الاستهلاكي المغاربي رموزه وطقوسه كذلك، ويسوق إعلامياً وثقافياً، ومن خلالها يجري تقنين الحاجات والرغبات والأذواق. وما يحدث هو إبهار فقط وتنوع يذر الرماد في العيون، مع إفراغ كل شيء من المعنى... لذلك، يتقن المجتمع المغاربي المعاصر من خلال وسائل إعلامه صناعة الزيف، لا في شكل أقنعة فحسب، وإنما على هيئة أغراض حية. فحتى ما هو روحي أو إنساني من حاجات ومشاعر تحول إلى سلعة في ذلك المجتمع الكبير، فضاعت منا قيمة السلوك الاقتصادي الرشيد، في مقابل البحث عن أقصى درجات الانتفاع من توجه الإنسان المغاربي إلى المظاهر والاستعراض الاستهلاكي، لأن ذلك الإنسان الواقع تحت تأثير وسائل الإعلام التي تلقنه أن قيمته فيما يستهلك، ذلك الإنسان يريد بل يسعى بكل قوته وبتأثير كبير مغيّب لعقله إلى أن يكون شيئاً هاماً بأي طريقة وبأي ثمن، وذلك يأتي من خلال استهلاكه وتباهيه بهذا الاستهلاك أمام الآخرين... وتكون النتيجة وجود حالة متصاعدة من السعي إلى الممتلكات ـ لا عن احتياج إليها ـ بل عن بحث عن قيمة اجتماعية ونفسية مفقودة.

هل الحلّ في فرض الرقابة على الدّعاية؟
إنّ النّظم الأوروبية تتوسّع تدريجياً في مجال فرض الرّقابة على الدّعاية، من أجل امتداد هذه الرقابة إلى الدّعاية التي تعدّ من قبيل المنافسة غير المشروعة، والدّعاية التعسفية، فالرسالة الدعائية ليست في هذه الحالات الأخيرة مقصود بها إيقاع المستهلك في غلط، ولكن هذه الرسالة تعدّ في هذه الفروض متعارضة مع مصالح المستهلك. والغرض من الرقابة في هذا الفرض هو حماية إرضاء المستهلك من محاولات المحترف التعدّي عليه بواسطة الصور، والإلحاح على العقل الباطن... وما يبرّر القلق المتعلّق بمجال حماية المستهلك غياب قواعد في مواجهة الدّعاية الموجّهة إلى الأطفال والدّعاية الخفيّة، والدّعاية المرتبطة بالسّلع الخطيرة على الصّحة. والضّرورة تفرض الرقابة على ''الصّمت''، بحيث يجب أن تعدّ دعاية مضلّلة تلك التي لا يشير إلى عنصر من عناصر السّلعة كان من مصلحة المستهلك أن يتعرّف عليه، وهو ما يتماشى وضرورة الالتزام بالإدلاء ببيانات صحيحة وليس فقط حظر الإدلاء ببيانات كاذبة.

ما هي الشروط الأساسية اللاّزمة لتنظيم إعلام المستهلك المغاربي؟
تتجلّى أولى الخطوات في ضرورة مقاومة الآثار السّلبية المترتّبة على الدّعاية المضلّلة من خلال إجراء إيجابي يتوجّه إلى تأكيد ودعم الالتزام الواقع على عاتق المحترف بإعلام المستهلك، مع السّعي نحو تعدّد مصادر إعلام المستهلك... ولابد أيضاً أن يهتمّ المجتمع المغاربي بتنظيم وسائل جماعية للإعلام غير خاضعة لسيطرة المنتجين وموزّعي السّلع ومقدّمي الخدمات، هذا ولا يمكن أن ننسى أنّه مهما كانت قيمة وفعّالية وسيلة الإعلام التي نسعى إلى ترسيخها، فإنّ الإعلام لن يكون إلاّ أحد عناصر السياسة المتعلّقة بالحفاظ على مصالح المستهلكين، وبذلك فإنّ العمل الذي يجمع بين رسائل التّوعية، وسائل إعلام المستهلك، وسائل حمايته، نظم التقاضي وتمثيل مصالح المستهلكين هو وحده الذي سيسمح بمراعاة اختلاف احتياجات ومصالح التّجمعات المختلفة بين المستهلكين.

*باحث وكاتب صحافي من المغرب