تمر هذه الأيام الذكري السابعة والثلاثين للمواجهة الليبية الأمريكية فوق خليج سرت التي عرفت بمواجهة خط الموت، والتي تمكن فيها الطيارين الليبيين من التصدي بطائراتهم المتواضعة لأكبر قوة عرفتها البشرية، عندما قام سلاح الجو الليبي من إسقاط طائرة (f14) الأمريكية ووقف مشروع المناورات التي كان الأسطول السادس الأمريكي يستعد لتنفيذها.
ولعل أفضل من يسرد هذه الملحمة "البطولية" أحد أبطالها بل قائد السرب الذي تلقى الأوامر وقام بتنفيذها على أكمل وجه، وفي هذا السياق تنشر "بوابة افريقيا الإخبارية" شهادة اللواء طيار بلقاسم امسيك، الذي قاد المواجهة بمشاركة مساعده مختار الجعفري الذي يقبع اليوم في سجون المليشيات بدعوى وقوفه ضد "أحداث فبراير"، ويقول امسيك:
"في صباح يوم 18 أغسطس من عام 1981 م. توالت البرقيات المجفرة والمفتوحة من مركزالعمليات بالقوات الجوية تعلن عن رفع درجة الإستعداد إلى الحالة القصوى في جميع القواعد الجوية الليبية بناء على ما ورد من مركز عمليات الطيران المدني حول إعلان قائد الأسطول السادس الأمريكي عن إجراء مناورة عسكرية في المنطقة قبالة السواحل الليبية ويقع جزء منها داخل خليج سرت أي جنوب الخط 32:30 درجة ولمدة أربعة أيام تبداء من يوم 19 إلى 22 أغسطس 1981م.
وعلى الفور تم إستدعاء أمر قاعدة القرضابية الجوية العقيد طيار جمعة رمضان زائد، إلى مقرعمليات القوات المسلحة بطرابلس لإجتماع طارئ بخصوص وضع خطة المواجهة العسكرية، وبعد إنتهاء الإجتماع إتصل بي العقيد طيار جمعة زائد، بصفتي أمر السرب المقاتل القاذف الوحيد المتمركز بالقاعدة في ذلك الوقت وأبلغني بأمر العمليات والقاضي بالتصدي والإشتباك مع أي طائرة تحمل العلامة الأمريكية أو "الإسرائلية" تخترق "خط الموت" 32:30 درجة في خليج سرت، وعليه قمت بإستدعاء جميع منتسبي السرب وجناح الصيانة وشرع الجميع كخلية نحل بمعنويات عالية في تجهيز وإعداد الطيارات بالخزانات الإحتياطية والصواريخ والرشاشات.
كان التنافس بين الطيارين لنيل شرف المشاركة
وقمت بعقد إجتماع بالطيارين وتلوت عليهم أمر العمليات وتم وضع جدول مناوبة للطيارين إبتداء من أول ضؤ يوم "الغد" 19 أغسطس موعد بدء المناورة وكنت والملازم مختار العربي الجعفري على رأس الجدول لأول طلعة إعتراض ولاحظت الروح المعنوية العالية لدى الطيارين الذين تسابقوا إلى الجدول لمعرفة مواعيد طلعاتهم وكان الحماس والوطنية ترتسم على وجوه الجميع تلبية لنداء الوطن الذي حان وقته .
يضيف امسيك، كانت السيخوي 22 في سرب 1022 طائرات قاذفة مقاتلة وليس من مهامها الإعتراض الجوي ولكن الواقع فرض نفسه ولا مناص من إستخدام السيخوي 22 في هذه المهمة فالوقت جدا قصير وليس في إتساع طائرات إعتراضية التمركز في القاعدة في هذا الوقت، وعليه تم تكليف السيخوي إلى حين وصول الطائرات الإعتراضية. صدرت التعليمات إلى الطيارين بالتوجه إلى حجراتهم داخل القاعدة إستعداد لأول ضؤ اليوم التالي بقيت وباقي الضباط المهندسين والفنيين وأمر الصيانة ومنتسبي السرب ومنتسبي جناح الصيانة في عمل دؤب طوال ليلة 19 أغسطس للتجهيز الطائرات.
"ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"
وقبل الفجر وصل الملازم طيار مختار الجعفري وتجهز بملابس الطيران وبدلة الظغط وكذلك فعلت وماهي إلا لحظات وأتصل بي موجه المقاتلات الملازم محمد عنون، من غرفة عمليات الدفاع الجوي بالمنطقة العسكرية الوسطي وأبلغني برفع درجة الإستعداد بالسرب حيث شرع الطيران الأمريكي من حاملة الطيارات نمتيز بالإقلاع، ثم عاود الإتصال وطلب الإستعداد بالدشمة وبسرعة توجهنا إلى الدشمة التي بها طائرات الإستعداد ونحن في الطريق طلب موجه المقاتلات الإقلاع الفوري لإقتراب طيران العدو من خط الموت، وعلى تمام الساعة السابعة ودقيقتان صباحا تم الإقلاع الهملياتي لرف السيخوي 22 كنت أمر الرف والملازم المختار الجعفري رقم 2 في التشكيل نردد الله أكبر وعلى الله التوكل، أمرت الملازم الجعفري بتشغيل جهاز التنشين ووضع الصواريخ جو جو في وضع الإستعداد وكذلك المدافع الرشاشة يالطائرة وتغيير قناة الإتصال إلى القناة رقم 12 المخصصة لغرفة التوجيه في ذلك الوقت وتم تحقيق الإتصال مع موجه المقاتلات بغرفة العمليات والذي طلب على الفور تغيير الإتجاه إلي 020 درجة في إتجاه الهدف المعادي الذي أصبح يقترب من خط الموت في حركة دوران حول نفسه ثم يقترب قليلا ويكرر الدوران وكأنه يجس نبض ردت فعل الليبيين، وهكذا إستمر الموجه في إرسال الإتجاه والمسافة والإرتفاع التي تفصلنا عن الهدف وأنا أكرر ذلك إلى أن تمكنت من رؤية الأهداف المعادية بالعين المجردة عدد طائرتان إف 14 على الفور أخبر الموجه بأنني أشاهد طائرتان إف 14 فرد على عجل "يانقيب امسيك هم ثماني طائرات توكل على الله وربي معكم قالها الملازم عنون" وبقولته هذه غمرني الله بقوة وشجاعة وعيناي تحدق في طائرتان للعدو تواجهنا وجه لوجه ثم قام قائد التشكيل الإمريكي بالدوران الحاد إلى اليسار ليأخذ وضع الطيران بالجانب الأيمن لتشكيلنا كعادتهم في السابق عندما كنا نلتقي فوق المياه الدولية ككل مرة والذي كنا خلالها نطير في نفس الإتجاه إلى أن يتم التشكيل معنا، ولكن هذه المرة إختلف الأمر فنحن في طلعة إعتراض حقيقي وهم قد تجاوزوا خط الموت فعلى الفور غيرت إتجاهي إلى اليمين متعقب التشكيل الأمريكي وما هي إلا لحظات ودوت صافرت الإنذر في لوحة التحكم في الصواريخ وأشتغل مصباح التحذير للصاروخ يعلن عن قبضه على الهدف وأنه جاهز للإنطلاق وفي لمح البصر إنتقلت عيناي إلى عداد المسافة من القاعدة فإذا بها 75كم فقط من سرت يعني أننا داخل المياه الإقليمية فلم أتردد ولم أبلغ غرفة العمليات فهذا الوضع ليس بالطبيعي ولا يمكن أن يحدث ولكنها إرادت الباري العزيز القوي وتحرك أصبعي للضغط على زر إطلاق الصاروخ لينطلق خلف مؤخرة قائد التشكل الأمريكي ( هنري كليمان ) وهو على مسافة 400 متر تقريبا ( يسبح وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي)على الفور أبلغت غرفة العمليات قائلا لقد أطلقت الصاروخ الأول وسوف أحاول بالأخر وطلبت من الملازم مختار بقذف خزانات الوقود الإحتياطية وأننا في إشتباك ولم يمهلني رقم 2 في التشكيل الأمريكي بعد أن شاهد صاروخي وهو ينطلق إلى مؤخرة طائرة قائد التشكيل وألتف إلى اليمين متعقب طائرتي ولاحقته في دوران حاد ولم نكمل الدوران حتي كان في وضع يمكنه من إطلاق صاروخ صبارو جو جو على طائرتي ولحظات ويرتطم الصاروخ بطائرتي ومرة أخري وتتدخل الإرادة الإلهية لتضغط يداي على زر القذف في الكرسي القاذف لينطلق شاقا عنان السماء على إرتفاع 7000 متر وتنفجر طائرتي ويتهاوا حطامها إلى البحر وأختفت طائرتي من رادار الموجة الملازم عنون.
البحرية الليبية والطيران العمودي اكمل المهمة بإنقاذ الأبطال
في هذه الأثناء شاهد الملازم الجعفري طائرتان تنقض عليه من الجهة اليسري فغير إتجاهه نحوهما فأبتعد عن موقع إختفاء طائرتي بحوالي 40 كم إلى الشمال وتمكنت إحدى الطائرات الأمريكية من قذفه بصاروخ وقفز هو الأخر بالمظلة وتمكن الموجه في غرفة العمليات من تحديد ورصد مكان سقوطه فعلى الفور توجهت طائرات الإنقاذ وزوارق البحرية الليبية للبحث وفعلا في الساعة التاسعة والنصف تقريبا تم العثور عليه وإنقاذه. وهكذا ضلت كل طائرات الإنقاذ وزوارق البحرية تبحث عني أنا في نفس المكان الذي وجد به الملازم مختار على مسافة 120 كم من الساحل في حين أنني على مسافة 80كم من الساحل أي بفارق 40 كم من موقع الجعفري.
أكثر من 10 ساعات في مواجهة الموت
ويواصل امسيك سرده قائلا: أما أنا فقد واصلت التعلق بالمظلة إلى أن بلغت البحر تخلصت من المظلة وبدلة الطيران والحذاء وصعدت إلى طوق النجاة بعد أن تغلبت على بعض الصعاب واجهتني في إنتفاخ طوق النجاة وبقيت عشرة ساعات وخمس وأربعون دقيقة في البحر، داعبني فيها شبح الموت مرات عديدة ونزفت أول قطرت دم زكية ليتحول خليج سرت إلى خليج أحمر من الدم عند اللزوم، (كان هذا شعارا رفعته القيادة الليبية آنذك) إلى أن تمكن بالمصادفة الرائد خالد عبيد، في آخر طلعة طيران وهو في طريق العودة إلى القاعدة قبيل الغروب من العثور عليا وإنقاذي وهي الإرادة الإلهية تتدخل للمرة الثالثة بمعجزة الله لإنقاذي من الموت المحقق كان ذلك عند الساعة الخامسة وخمس وأربعون دقيقة بعد مدة زادت عن 10:45 ساعة .
في الجانب الآخر وضع الطيران الأمريكي مظلة جوية فوق المكان الذي سقطت فيه طائرتهم وأخذت العموديات التابعة لهم وكذلك زوارق بحرية تبحث في نفس المكان الذي وقعت فيه طائرتهم وكلما تقترب عمودياتنا وزوارق البحرية الليبية من المكان تأتيهم المقاتلات الأمريكية لتبعدهم عن المكان وضلوا هكذا إلى المساء وتمكن جهاز الدعم الألكتروني الليبي من إلتقاط مكالمة في جهاز الإتصال بين آخر عمودية أمريكية تبحث عن طياريهم وبرج المراقبة في الحاملة يخبرهم أنه لم يعثر على الغرقى ويطلب فيها الإذن بالعودة إلى الحاملة، وكان ذلك بعد أن تم إنقاذي بساعات.
إرغام الأسطول السادس على إلغاء مناوراته
في صباح هذا اليوم وبعد الإشتباك مباشرة أعلن الناطق الرسمي بالبيت الأبيض الأمريكي وهو الرائد لادي هاملتن، عن الإشتباك وقال لقد وقع إشتباك بين الطائرات الأمريكية والطائرات الليبية في فوق البحر المتوسط وقد تم إسقاط طائرتين ليبيتين ولا ندري ما إذا كان خسائرنا جرحى أو قتلي. _وهذا يعني إصابة طائرتهم_ و في صباح نفس اليوم أعلن قائد الأسطول السادس (بل ماير جونسن) عن إنهاء المناورة فورا وسحب الأسطول السادس بالكامل إلى المواني الإيطالية ولم يحصل هذا في تاريخ الأسطول السادس بأن يرغم على إلغاء مناوراته في اليوم الأول وهذا نصر ثاني لليبيا.
وأجرى معي التلفزيون الليبي الرسمي مقابلة ليلا بعد إنقاذي والتي أعلنت فيها عن إسقاط الطائرة الأمريكية وفي صباح اليوم الثاني للإشتباك أعلن قائد الأسطول عن سقوط طائرة إف 14 جنوب البحر المتوسط، قال إنها أصيبت عن طريق الخطاء.
مياه الخليج لفضت الدليل بعد شهر من النكران
ويضيف امسيك بعد حوالي الشهر ألقت أمواج البحر الهادر في خليج سرت جزء من حطام الطائرة الأمريكية إف 14 على شاطئ منطقة "الجبيل الخاش" بسرت نقل الحطام الى قاعدة القرضابية ومنها إلى جامعة الفاتح في ذلك الحين ليتم معاينته ومعرفة مدة بقائه في البحر و أثبتت النتيجة أنه مقارب لمدة الإشتباك. وأودع بعد ذلك جزء من الحطام بمتحف السرايا الحمراء بطرابلس ليحاكي سارية المدمرة فيلادلفيا الأمريكية التي حطمها البحارة الليبيين عام 1835. وهكذا يسجل التاريخ لرجالات ليبيا ووطنييها دفاعهم عن الوطن ليرسموا شموخ ليبيا وعزتها وهيبتها وسيادتها.