كان العالم ينتظر موقف القذافي من الأحداث التي انطلقت مساء 17 فبراير 2011. أخيراً تكلم العقيد. في خطابه الشهير ليلة 22 فبراير، قدم القذافي للعالم ولليبيين قراءته لما يحدث. تحدث عن مؤامرة ضد البلاد وعن وجود جماعات دينية متطرفة تريد الاستحواذ على ليبيا. وكأنه يرى في زجاجة المستقبل، أسهب بتفصيل، عما ينتظر مدينة درنة قائلاً، إنها ستتحول إلى إمارة إسلامية يقودها أمير ملتح يطلب من الناس البيعة والجزية ويأمر النساء بالمكوث في بيوتهن. لكن القذافي كان في واد والعالم والليبيون في واد ثان. تلقف العالم خطاب العقيد الرؤيوي ساخراَ. كانت التعاليق السمجة مركزة على ملابسه الرثة وكلماته العامية الليبية الطريفة، لكن أحداَ لم ينتبه للتحليل الذي قدمه. مدفوعين بما تبثه وسائل الإعلام العربية ونظيرتها الغربية في واشنطن وباريس، انخرط ليبيون كثيرون في تمكين الجماعات الإرهابية من بلادهم.
سُحب الثورة الحاجبة
منذ اليوم الأول للأحداث ظهر المكون الإسلامي الجهادي واضحاً وجلياً في المشهد الليبي، لكن سحب "الثورة" حجبت الصورة الحقيقية عن أعين الناس والكاميرات، بالرغم من أن الأخيرة كانت تغظ الطرف بوعي عن كل ذلك. فخلال الحرب وقبل سقوط العاصمة طرابلس في أيدي المتمردين عمدت جماعة إرهابية إسلامية تسمى "كتيبة عبيدة بن الجراح" إلى تصفية عبد الفتاح يونس، أحد قادة ثورة سبتمبر 1969 مع معمر القذافي، والذي انشق عنه بعد فبراير 2011، هي الجماعة ذاتها التي هاجمت مقر السفارة الأمريكية في بنغازي في سبتمبر 2012 وقتلت السفير الأمريكي "كريستوفر ستيفنز"، السفير نفسه الذي كان يسلح هذه الجماعات قبل عام واحد لإسقاط نظام العقيد القذافي. لكأنه مكر التاريخ الذي لا يرحم.
في هذه الأثناء كانت الجماعات الجهادية الموالية للقاعدة تنظم صفوفها وتدعم مخازنها بالسلاح المنهوب من الجيش الليبي والقادم عبر البواخر من الخارج وتفتح مراكز التدريب في كل مكان لاستقبال "مجاهدي المستقبل" من ليبيا وبقية الدول المجاورة وخاصة تونس. فيما أرسلت الكثير من عناصرها للقتال في سورية إلى جانب المعارضة المسلحة ضد نظام الرئيس، بشار الأسد. لعل أبرزهم عميد بلدية طرابلس الحالي، مهدي الحارثي، الذي كان يقود ميليشيا عسكرية تحت اسم "كتيبة ثوار طرابلس" موالية لرئيس حزب الوطن عبد الحكيم بالحاج. ومع انطلاقة العمل العسكري في الساحة السورية، سافر الحاراتي إلى سورية لتشكيل مجموعة جهادية ضد النظام تحت اسم "جيش الأمة"، وتتهم هذه المجموعة بتنفيذ جرائم ضد معسكرات جيش التحرير الفلسطيني في سورية، التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية.
كان الحارثي خلال الحرب في العام 2011 يقود فرقة عسكرية خاصة حاصرت فندق ريكسوس في طرابلس في أغسطس 2011. ووفقاً لتقارير إعلامية، نشرتها شبكة فولتير الفرنسية، فقد كانت ترافقه مجموعة من المستشارين الفرنسيين. ووفق مصدر عسكري أجنبي رفيع المستوى تمّ تكليف الحاراتي من قبل حلف شمال الأطلسي بمهمة تقضي بأسر القادة الليبيين المتواجدين في جناح سري في الفندق وباغتيال النائب السابق في الكونغرس الأميركي ومساعد مارتن لوثر كينغ والتر فانتروي. ويحمل الحاراتي الجنسية الأيرلندية ومتزوج من سيدة إيرلندية. ووفق ما أكّده رئيس الوزراء السابق خوسيه ماريا أزنار ما زال مهدي الحاراتي مطلوباً في إسبانيا بسبب تورّطه في هجمات مدريد في 11 مارس 2004
.
الفيلم الأمريكي نفسه
ما حدث في ليبيا منذ 2011 وحتى اليوم، بأيدي الليبيين أنفسهم، ليس جديداً. المشروع الأمريكي لتحويل عدد من الدول المعادية و"الشريرة" إلى ساحات واسعة للفوضى، من خلال تقسيمها وتشتيتها وإيقاع شروخ حادة في بنيتها الاجتماعية، متواصل منذ الحرب الكورية في الخمسينات وصولاً للعراق مروراً بفيتنام ويوغسلافيا وتشيلي وأفغانستان، والله وحده العليم بما سيحدث. وما يجري في سوريا، ليس بعيداً عن كل هذا.
لكن اللافت أن مشاريع الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة العربية والإسلامية تنفذ دائماً بأدوات ''إسلاموية". في كل التجارب، وليس بعضها، كانت البندقية الجهادية إحدى الوسائل التي تعتمدها الامبريالية لتقسيم وتفكيك الدول المعادية لسياساتها أو تلك التي تشكل خطراً على تمدد مشروعها في العالم، بل حتى الدول التي ترفض السير طوعاً في الركب الاستعماري. ينسحب ذلك على الدول العربية أو تلك التي تسكنها مجتمعات مسلمة، أو حتى أقليات، كمعطى موضوعي يتم التلاعب به وتطويعه «طائفياً» و «عرقياً» و «مذهبياً». إذ تكشف دروس التجربة التاريخية أن كل الساحات التي حضر فيها الجهاديون منذ ثمانينات القرن الماضي حتى اليوم كانت مستهدفة بمشاريع التقسيم الأمريكية أو مناطق لخوض معارك أمريكية بالوكالة.
نهاية العام 1979، دخلت القوات السوفياتية إلى أفغانستان، لتلتقط الإدارة الأمريكية الحدث وتحوله إلى صراع بين «الإلحاد» و«الإيمان» في إطار استنزاف عدوها الأول، الاتحاد السوفياتي لتهزمه بالاعتماد على «المجاهدين» مثلما هزمها في فيتنام ببنادق «الثوار». في العام 1980 انطلقت الولايات المتحدة في تنفيذ المشروع بعد أن أقنعت دولاً عربية بدعمه سياساً وإعلامياً ومالياً.
انتهت مرحلة «الجهاد الأفغاني» المدعوم أمريكياً والممول عربياً بوطن مقطع الأوصال وحرب أهلية. لم يعد هناك متسع من الوقت، فقد بدأت الماكينة الاستعمارية في تفتيت بلد آخر طالما كان معادياً للسياسات الأمريكية ومساندا لقوى التحرر الوطني والاقتصادي. قرر الحلف الأطلسي ومن خلفه الإدارة الأمريكية تقسيم يوغسلافيا إلى دويلات صغيرة على أساس عرقي وطائفي. تقسيم كانت ثمنه حرب قذرة دعمتها واشنطن ومولها العرب وكان وقودها إلى جانب الشعوب الرثة، الجهاديون الذين زحفوا من كل فج عميق تحت عناوين عاطفية براقة من نوع «نصرة الإسلام» والتصدي «للزحف الصليبي».
في العام 2003، احتلت القوات الأمريكية العراق، بعد أن قدمت الذرائع الكاذبة حول امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل. وطيلة الوجود الأمريكي في العراق، شهد البلد ذروة ما شهده في تاريخه من استقطاب طائفي، خلف مجازر دامية بين أبناء الوطن الواحد. زرع الاحتلال، بشكل مباشر أو غير مباشر تحت ذرائع المقاومة تنظيماً جهادياً دمويا أصبح اليوم يسمى «داعش» بعد أن مر بمراحل تطور تغذت كلها من خطاب الكراهية الطائفي. وهذا العنف الجهادي أفرز في مواجهته خطاباً طائفياً لا يقل كراهية وتأسست عليه ميليشيات لا تقل عنه دموية، لتدخل البلاد في «حرب الطوائف» والتقسيم على أرض الواقع بين كرد وسنة وشيعة، وليحقق الاحتلال أحد الأهداف التي جاء من أجلها إلى المنطقة عبر بنادق الجهاديين التي تدثرت بشعار المقاومة.
في ليبيا حصل السيناريو نفسه، إذ عملت ذات الأنظمة التوسعية الغربية بنشاط كبير على استصدار قرار من مجلس الأمن، لتدخل حلف شمال الأطلسي في البلاد، بدعوى «إنقاذ الشعب الليبي من الطاغية القذافي» لتمكن حلفاءها الجهاديين من السلطة والتمدد والتمهيد لتقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم بين برقة وطرابلس وفزان. ثم ما لبثت أن بدأت تصطادهم الواحد تلو الأخر، فبدأت بسليم الرقيعي (أبو أنس الليبي) ثم ثنت بأبي ختالة، المتهم بقتل السفير الليبي في بنغازي، وقائمة المطلوبين من «ثوار الحرية والكرامة» مازالت مفتوحة على سفيان بن قمو وغيره.
ويؤكد ذلك ما تم تسريبه في ماي 2015 من الرسائل الإلكترونية لوزير الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، إذ تشير إحدى الرسائل إلى مساع تقوم بها المخابرات الفرنسية والبريطانية (التي دعمت الجماعات المتشددة في الشرق الليبي بداية من 17 فيفري 2011) لتقسيم ليبيا وإقامة كيان سياسي مستقل شرقاً. فقد ورد حرفيا في رسالة بتاريخ الثامن من مارس 2012 أن «موظفين من المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسية والمخابرات السرية البريطانية «SIS--MI-6» عملوا في الفترة بين منتصف جانفي 2012 إلى مارس 2012 على توطيد العلاقات مع قيادات قبلية واجتماعية في شرق ليبيا، في محاولة لتشجيعهم على إقامة منطقة شبه مستقلة إداريًا في إقليم برقة بتوجيه من الرئيس الفرنسي ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، ونقلت الرسالة عن مصادر مطلعة أن المخابرات البريطانية والفرنسية كانتا تنويان «التحرك نحو إقليم مستقل إداريًا تحت حكم فيدرالي».