قلم آخر يرحل فجأة، كاتبة أخرى تغادرنا بسلام روحها جهةَ المطلق، الناشطة الحقوقية والروائية الجنوب أفريقية نادين غورديمر، قلم المهمشين والمضطهدين، ومناهضة العنصرية، ونصيرة الإنسانية والحرية. غورديمر، التي ولدت سنة 1923 ببلدة سبرينغز بجوهانسبورغ، أصبحت أهم كتاب أفريقيا والعالم بمؤلفاتها الجريئة ذات النزعة الحقوقية والتحررية، لتحصل على جائزة نوبل سنة 1991، وتكون اسما راسخا في ذاكرة الإنسانية والأدب العالمي.

نادين غورديمر تلك الطفلة يهودية الأصل المنعزلة عن أقرانها بالمدرسة الكاثوليكية، بدأت في سن مبكرة كتابة القصة، فنشرت، وهي لم تتجاوز الخامسة عشرة، أول قصة لها بعنوان “السعي إلى تواجد الذهب” في مجلة “شيلدرنز سانداي”. لكن الكتابة بالنسبة إليها لم تبق حبيسة فترة الطفولة، فواصلت تجربتها ونشر قصصها القصيرة، في مجلة “نيويورك” وغيرها من المجلات البارزة حينها، معمقة تجربة كتابة ستكون الأبرز في أفريقيا والعالم.

 

مسيرة ثرية

توجت غورديمر خطواتها الأولى بإصدارها لمجموعة قصصية بعنوان “صوت الحية الخافت” سنة 1952، لتصدر، سنة بعدها، روايتها الأولى “الأيام الكاذبة”. وما يميز هذين العملين أنهما كانا خاليين من الانفعالات العاطفية المفرطة، التي تشوب أعمال الكتاب الأولى، إذ برهنت فيهما الكاتبة على وعي حاد وجرأة مطلقة، طرحت من خلالهما قضايا التفكك الاجتماعي والميز العنصري في جنوب أفريقيا، على ما يحويه من عنف مستبطن وانتهاك لحقوق السود، وإن هذه السمات الفنية والقضايا التي تعالجها ستظل بصمة مميزة لأعمال الكاتبة على مدى تجربتها.

اشتغلت غورديمر بالتدريس فتنقلت بين أشهر الجامعات والكليات بالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، في ستينات وسبعينات القرن الماضي. وقد عمقت قراءاتها المختلفة وعيها بسياسة الميز العنصري وما تحمله من حيف وظلم ضدّ السود. لذلك احتلت موضوعات النفي والاغتراب والميز العنصري والنضال الاجتماعي العديد من أعمالها، فاحتضنت هذه الأبعاد القيمية كل شخصياتها السردية تقريبا، هذه الشخصيات التي تحركها الكاتبة في كون سردي مندفع بين الجرأة والقوة، والشفافية والرهافة، ماجعل من كتاباتها تعدّ الأكثر فخامة وملحمية. لكن تبقى الميزة الأبرز لشخصيات غورديمر سعيها إلى تحقيق ذواتها ووجودها وحقها في حياة ملؤها العدل، رغم الاضطهاد، وإصرارها على المقاومة السلمية.

على مدى أربعين سنة من حياتها أصدرت الكاتبة 13 رواية، علّ أهمها “شعب يوليو” و”ابنة بيرجر” و”لعبة الطبيعة”، و10 مجموعات قصصية، هذا إضافة إلى مئات المقالات المنشورة هنا وهناك، والمحاضرات التي ألقتها في عدة منابر. وخولت لها مسيرتها الزاخرة بأن تتحصل على أهم الجوائز والتكريمات في العالم، نذكر منها جائزة دابليو أيتش سميث الأدبية سنة 1961، تلتها جائزة بريميو مالابارت الإيطالية، وجائزة نيلي زاكس الألمانية، لتحصل على أكبر جائزة أدبية عالمية وهي نوبل، سنة 1991، ثم نالت وسام فيلق الشرف ووسام الفنون والآداب بفرنسا، إضافة إلى جائزة البوكر للرواية الأنكليزية.

وتتناول قصصها القصيرة، على غرار رواياتها ومقالاتها، آثار الدمار التي خلفها الميز العنصري، والدعوة إلى النضال بقوة لتحقيق العدل الاجتماعي والقيم الإنسانية المثلى، بعيدا عن العنف والتطرف والميز. فكانت مزيجا بين توتر العزلة الفردية وضرورة الفعل لتحقيق ما تصبو إليه الشعوب المضطهدة، والتعايش السلمي في كنف المساواة والعدل، بعيدا عن النظام السياسي والاجتماعي المشحون بالعنصرية، خاصة ضد السود.

كانت أعمال غورديمر متجددة على الدوام، رغم وحدة قضيتها، فهي تؤمن أن الكاتب عليه أن يكون ناقدا صارما بالضرورة، لذلك لم تجترّ هذه الكاتبة تجربتها، بل سعت إلى توسيعها، كل ذلك استنادا إلى القراءة التي تعتبرها منقذتها.

 

نصيرة السود

ركزت الكاتبة في أعمالها على قضية الهوية محاولة من خلال الكلمة أن تشكل نسيجا اجتماعيا متماسكا، يقوم على المواطنة والانتماء الإنساني. كانت على ثقة باختلاف الحضارات، إلى حدّ التصادم أحيانا، لذلك آمنت في تجربتها بأهمية التلاقح بين الحضارات، ولعلّ ذلك كان جليا في مزجها بين البيض والسود في جل ما كتبت، فتجعلهم يتزاوجون، ويعملون ويفكرون ويقرؤون مع بعض البعض، يبنون عالما مندفعا إلى الأمام في فضاء مجتمع متماسك.

يصح أن نقول أن غورديمر هي صوت السود الأبيض، الذي ناضل بالكلمة من أجل الحرية والعدالة، ولأجل مجتمع جنوب أفريقي وإنساني أرقى، قوامه المساواة والعدل، فكانت تحاول باستمرار أن تجد أرضا مشتركة لا تمييز فيها بين إنسان وآخر، لا على أساس لون أو دين أو عرق، حيث الناس سواسية في الحق والواجب. ولم تتوقف الكاتبة عند الأعمال الأدبية والكتابية، بل ناضلت بنشاطها السياسي والحقوقي الدؤوب.

 

غورديمر والعرب

شاركت فعليا في العمل السياسي والهيئة القومية للفنون والثقافة في بلدها، وصدرت قضيتها إلى كافة بلدان العالم، فارتحلت من بلد إلى آخر داعية إلى توحيد الرأي العام العالمي لمناهضة انتهاكات حقوق الإنسان، ولمقاومة الأوبئة التي تهدد البشرية. وقد أقنعت عشرين كاتبا بأن يشاركوا في كتاب “احكي حكاية”، ووظفت عائداته لصالح مرضى الإيدز. كان لغورديمر إلى جانب إضافتها الأدبية إضافة إنسانية كبرى، ما حوّلها إلى رمز عالمي نادر.تأثرت غورديمر بالأدب العربي، وخاصة بروايات نجيب محفوظ، الذي تحتل كتبه المترجمة إلى الأنكليزية جزءا هاما من مكتبتها. وقد زارت مصر أكثر من مرة في إطار تظاهرات ثقافية مختلفة، وتمكنت خلالها من لقاء محفوظ، فكان أن قدمت بنفسها الترجمة الأنكليزية لكتاب أصداء السيرة الذاتية، الذي يرصد سيرة هذا الكاتب العربي.

ومن المعروف أيضا عن الكاتبة، يهودية الأصل، أنها كانت تنادي بالتسامح والتعايش بين اليهود والفلسطينيين، وكانت ضد العنف والحرب، داعية إلى السلم بينهما، ورافضة لكل أشكال القمع والظلم، والفصل على أساس الدين.

فغورديمير التي وصفتها مؤسسة مانديلا بـ”سيدة الأدب الأفريقي” هي إنسانية إلى أبعد الحدود، تنطلق من واقع بلدها الأفريقي وقضاياه، لتنتصر لقضايا الإنسان أينما كان، وستبقى أعمالها إلى الأبد محاربة للتمييز أيا كان مرده، ونصيرة للإنسان أيا كان انتماؤه.

 

 

*نقلا عن العرب اللندنية