يؤمن شعب الدوجون في جمهورية مالي بأن هناك "حبة" يحيط بها لحاء صلب ويطلق عليها باللغة المحلية "الفون- يو"، قد اختزلت العالم بأسره في داخلها، وتقول أساطيرهم إن العالم الحقيقي نشأ وانطلق من حبة واحدة من نبات "الفونيو المعجزة"، وفق فلسفتهم.
ولاقت تلك الفلسفة أصداء قوية لدى خبير الاغذية السنغالي الشهير، بيير ثيام، صاحب مؤسسة "يوليلي فودز" في إقليم غرب أفريقيا وهي مؤسسة دولية مقرها نيويورك ومسجلة في بورصة وول ستريت ، وأبدى ثيام رغبته في أن تتصدر "بذرة العالم"، حسبما يطلق عليها شعب الدوجون الماليون، الحبوب الأكثر قبولاً وانتشاراً في أرجاء العالم.
ولأن الخبير السنغالي ثيام، يقيم في نيويورك حالياً، فقد شرع عبر مؤسسته "يوليلي فودز" في جلب حبوب الفونيو إلى الولايات المتحدة، معتبراً أن لديه مهمة كبرى لبناء سلسلة عرض عالمية لها تنطلق من السنغال التي يشيد فيها أول مطاحن كبيرة لحبوب الفونيو تعمل على نطاق تجاري واسع، ويأمل أن تبدأ عملها بحلول عام 2020.
وبينما ينظر مزارعو الفونيو إليها باعتبارها "حبوب معجزة"، فإن الخبير ثيام السنغالي يعرب عن إيمانه العميق بأن تصدير تلك الحبة يمكن أن يساعد في تغيير حياة مزارعي بلدان غرب أفريقيا بأسرهم قائلاً، في تصريحات نقلها الصحفي كيمي ليجادو على موقع "كوراتز" الإلكتروني: "إذا نجحت مهمة يوليلي، فإن بعضاً من أفقر مزارعي العالم سيصبحون مصدرين لتلك السلعة، وبوسعها أن تغير أحوالهم من أناس يتلقون مساعدات إلى بشر عاديين يملكون مصيرهم وينتجون محاصيل يمكن بيعها إلى بقية العالم."
وحول أوجه الإعجاز في تلك النبتة المجهولة يقول الخبير السنغالي إنها تحمل العديد من المزايا فضلاً عن محتواها وأهميتها الثقافية لشعب غرب أفريقيا، فهي واحدة من أقدم أنواع الحبوب في القارة الأفريقية، وورد ذكرها في وثائق لرحالة عرب قدموا إلى غرب أفريقيا في القرن الرابع عشر الميلادي. وفي أجزاء من السنغال، لايزال هناك بعض المناطق المزروعة بحبوب "الفونيو" التي ينظر إليها على أنها تساعد في "طرد الأرواح الشريرة".
ولا تقتصر فوائد حبوب الفونيو على "مطاردة الشياطين"، حسبما تشير المأثورات الشعبية في منطقة غرب أفريقيا، بل هناك حقيقة أكدتها الدراسات العلمية بخلو حبوب الفونيو من "الجيلوتين"، وهو بروتين يوجد بنسبة كبيرة في حبوب القمح، ويسبب وجود هذا العنصر مشاكل صحية كبيرة لبعض الأشخاص الذين يعانون من حساسية ضد هذا البروتين.
كما أن حبوب الفونيو غنية بالأحماض الأمينية التي يفتقر إليها الكثير من الحبوب الرئيسية الأخرى مثل الأرز والقمح.. ومن حيث القوام والشكل، فإن الفونيو تشبه حبوب الكينوا القادمة من القارة الأميركية، وتستخدم تقليدياً في منطقة غرب أفريقيا ضمن السلطات ويتم طهيها مثل الأرز، كما يستخدم في العصائد، ويمكن طحنها وتحويلها إلى طحين لتدخل في العديد من الاستخدامات.
وتمتد زراعة نبات الفونيو في أرجاء منطقة الساحل من السنغال إلى غينيا وتشاد والأقاليم الشمالية من نيجيريا، وتوجو، وبنين. وهناك أصناف من حبوب الفونيو، ولاسيما "الفونيو الأبيض" الذي تصدره مؤسسة "يوليلي"، تتمتع بمقاومة عالية للجفاف، وتحظى زراعته بقبول واسع في المناطق المعرضة لموجات متكررة من الجفاف والمجاعات.
ورغم كل هذه الإيجابيات التي تحملها حبوب الفونيو، فإن كثيرين من البشر لم يلتفتوا إلى أهميتها حتى في البلدان التي تعد من الزراعات الأصيلة فيها. ففي غينيا على سبيل المثال، يتم استهلاك الفونيو بمعدلات أقل من الحبوب الأخرى كالأرز الأبيض مثلاً، حسبما تشير دراسة أصدرها المركز الفرنسي للبحوث الزراعية من أجل التنمية الدولية.
ويوجه عالم البيئة في كلية ييل للغابات وعلوم البيئة، ستيفين وودز، بأصابع الاتهام إلى عناصر تاريخية، مشيراً إلى أن المستعمرات القديمة لم تلق زراعة الفونيو أي تشجيع من جانب الفرنسيين أو البريطانيين الذين أحجموا عن استخدامه. لكن على العكس من ذلك فقد لاقت محاصيل مثل الفول السوداني والقطن، اقبالاً كبيراً من جانب أوروبا لذا فقد تم بناء مؤسسات وشركات لرعاية زراعتها وتجارتها.
بيد أن خبير الاغذية السنغالي بيير ثيام حقق بعض النجاح في لفت الانتباه؛ فها هي "بلومبيرج" تصف الفونيو بأنها "حبوب سوبر"، وأبرمت مؤسسة "يوليلي فودز" اتفاقات توزيع مع شركات "هول فوودز"، و"أمازون"، و"ثريف ماركت" المتخصصة في توزيع الأغذية العضوية عبر الإنترنت.
ورغم الخطوات الموفقة التي تحققت حتى الآن، فإن حبوب الفونيو عليها أن تتغلب على بعض التحديات التي تتعلق بقلة المحصول مقارنة بغيره من الحبوب الأخرى، حسبما يشير العالم البيئي وودز، وقشرته الصلبة التي تستغرق وقتاً في الطهي، وخلو الحبوب من الجيلوتين، وهو أمر إيجابي لكنه يحمل في طياته تحديات أن يتحول إلى محصول باهظ السعر في الأسواق الفاخرة فقط مثلما حدث مع حبوب الكينوا الأميركية.
وللتغلب على إشكالية ضعف الإنتاجية لمحصول الفونيو، تشاركت "يوليلي فوودز" مع كلية الزراعة وعلوم الحياة في جامعة كورنيل لاختبار طرق جديدة لزيادة محصول الفونيو في السنغال ومالي وغينيا. وقامت الشركة بتجريب وسائل استزراع قليلة الماء باستخدام شتلات أصغر، مع توحيد مسافة وضع الشتلات يدوياً في التربة باستخدام آلات معينة.
وحسب تلك الوسيلة، التي تتسم بأنها كثيفة العمالة، ساهمت في بعض الحالات في زيادة محاصيل الأرز وغيره من المحاصيل كالقمح وقصب السكر بنسبة تراوحت بين 20 وأكثر من 50 في المائة، كما أنها قلصت من استخدام البذور بنسبة 80- 90 في المائة، ونتج عنها وفر في المياه بنسبة زادت على 50 في المائة. ويقول الخبير السنغالى ثيام إن التجارب التي أجريت أظهرت تضاعف إنتاج محصول "الفونيو".
وهناك تحد آخر يتعلق بالقشرة الصلبة التي تجعل من تجهيز الفونيو لكي تصبح حبوباً صالحة للطهو والتشغيل أمراً صعباً نظراً لما تستغرقه عملية تقشيره وغربلته ساعات طويلة من العمل اليدوي. لكن المخترع السنغالي، سانوسي دياكيتي، قام باختراع أول ماكينة لتقشير حبوب الفونيو قبل 25 عاماً. وقد ساهمت تلك الماكينة في الإسراع من العملية، لكن قدرات الآلة لا زالت أقل من المستوى المطلوب للإنتاج على نطاق تجاري واسع. وفي الوقت الراهن تعكف مؤسسة "يوليلي فوودز" على إعداد ماكينات خاصة لتبييض وتقشير الفونيو، أملاً في الإسراع من تلك العملية.
أما التحدي الأخير، فسيحدث في حالة نجاح "يوليلي فوودز" في مسعاها، فإن المخاوف تثار بأن محصول "الفونيو"، الخالي من الجيلوتين والمحبب لدى الغرب، سيتحول إلى معروض حصري في الأسواق الفاخرة ليصبح سلعة غالية الثمن مثلما حدث مع حبوب الكينوا الأميركية التي عرفت طريقها فقط إلى الأسواق الكبرى.
وبرغم التحديات التي تواجه حبوب "الفونيو"، فإن أهميتها لا يمكن إنكارها،ويعلق الخبير البيئي وودز على تلك التطورات قائلاً، "إن حقيقة بقاء حبوب الفونيو صامدة لنحو 5 آلاف عام وسط تغييرات ثقافية واقتصادية وبيئية، تشي بالكثير من المعاني التي تنطوي عليها تلك النبتة، ليس لما تحمله من أهمية بالنسبة للمزارعين لتنويع مواردهم فحسب، بل بوصفها جزءاً مهماً أيضاً من التراث السنغالي."