تعيش جمهورية بيرو على وقع أزمة سياسية ودستورية حادة، تهدد مسيرة الديمقراطية الناشئة بها، وتدفع بالبلاد إلى حالة من الفراغ السياسي والدستوري، لم تتعرض له منذ أكثر من 27 عاماً.
ويتسم المشهد السياسي في بيرو حالياً بحالة من الارتباك والضبابية، بعد أن قدمت نائبة رئيس بيرو مرسيدس اراوس استقالتها أمس الأربعاء، بعد يوم من أدائها اليمين الدستورية أمام نواب البرلمان لتولي رئاسة البلاد مؤقتا.
وكتبت أراوس تغريدة قالت فيها إنها لا تستطيع أداء مهام الرئيس المؤقت التي أوكلها لها البرلمان، بعد أن طلبت منظمة الدول الأمريكية من المحكمة الدستورية في بيرو النظر في قانونية قرار حل البرلمان.
وكان رئيس بيرو مارتن بيسكارا قد أصدر قرارا بحل البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة في الثلاثين من سبتمبر 2019، في خطوة تشهدها البيرو لأول مرة منذ عام 1992، والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة في 26 يناير 2020. وبيسكارا المهندس البالغ من العمر 56 عاماً كان نائباً للرئيس السابق بيدرو بابلو كوتشينسكي وقد انتخب في 2018 رئيساً للبلاد بعدما أجبر سلفه على الاستقالة إثر شبهات بالفساد.
لكن البرلمان رد بالتصويت بغالبية 86 صوتاً من أصل 130 على تعليق ممارسة بيسكارا لصلاحياته لمدة عام بدعوى "العجز الأخلاقي" وأوكلوا صلاحياته إلى نائبة الرئيس مرسيدس أراوز ، وهي خبيرة اقتصادية تبلغ 58 عاماً، وأدت أراوز على الفور اليمين الدستورية أمام رئيس البرلمان بيدرو أولايخيا.
استند الرئيس بيسكارا في دعوته لحل البرلمان إلى إعاقة الأخير محاولاته للحد من انتشار الفساد، يأتي ذلك فيما لاتزال بيرو تتعامل مع تداعيات فضيحة شركة الإنشاءات البرازيلية متعددة الجنسيات "أودبريشت"، التي أثرت على الحياة السياسية في البرازيل وخارجها. وسبق أن أقرت أودبريشت، وهي واحدة من أكبر شركات البناء في أمريكا اللاتينية، بدفع رشاوى قيمتها 788 مليون دولار في 12 دولة منها 10 دول في أمريكا اللاتينية.
تعتبر بيرو جمهورية رئاسية ديمقراطية تمثيلية، ينتخب فيها الرئيس لمدة خمس سنوات ويحتل الرئيس مكانا مميزا جدا في نظامها السياسي، وفي الوقت نفسه يرأس الحكومة والدولة، ، ولها برلمان يتكون من مجلس يضم 120 عضواً منتخبا لمدة خمس سنوات ويتكون البرلمان من غرفة واحدة ويسمى الكونجرس.
تكمن الأسباب الجوهرية لهذه الأزمة السياسية التي تعيشها بيرو في مواجهة الفساد المالي، وإجراء إصلاحات قضائية ووضع حد لتغلغل المعارضة وفسادها لتجنيب بيرو مخاطر الأزمات الاقتصادية.
ولا شك أن الصراع بين السلطتين التنفيذية ممثلة في الرئيس والتشريعية ممثلة في البرلمان، يؤدي إلى دفع الديمقراطية الناشئة في بيرو إلى شفا أزمة دستورية مهددة بتعليق عملية صنع القوانين واحتمال إثارة اضطرابات في أحد أكثر اقتصادات أمريكا اللاتينية استقرارا.
وتعهد الرئيس بيسكارا بالدفاع عن بيرو في مواجهة ما وصفه بمافيا الفساد التي سيطرت على الكونجرس وتركز حاليا على المحكمة الدستورية وعلى أي حكم محتمل في أي نزاع قضائي بين الحكومة والكونجرس، حيث قال بيسكارا إنه مستعد لإغلاق الكونجرس إذا تطلب الأمر لوقف هذا التصويت على تعيين ما يصل إلى ستة قضاة من بين أعضاء المحكمة الدستورية السبعة.
كان العام الماضي 2018 قد شهد سجالات سياسية حادة بين الرئيس بيسكارا ، والكونجرس الذي تهيمن عليه المعارضة، بسبب مطالبة الرئيس بإجراء استفتاء بشأن إصلاحات قضائية وسياسية تهدف إلى اجتثاث الفساد في البلاد.
ودعا بيسكارا إلى الاستفتاء ليس فقط لتسريع الإصلاحات القضائية ولكن أيضا لقياس الدعم لحظر التمويل الخاص للحملات السياسية ووضع حد لإعادة انتخاب أعضاء البرلمان وإنشاء غرفة ثانية للكونجرس.
ووفقاً لمراقبين، فإن اقتراح بيسكارا هو أحد محاولاته للنأي بنفسه عن طبقة سياسية ينظر إليها على نطاق واسع على أنها فاسدة، في أعقاب استقالة الرئيس السابق في مارس 2018 وفضيحة محسوبية هزت النظام القضائي في بيرو.
ومن هنا تأتي الأزمة السياسية والدستورية الحالية على خلفية سنوات من المشاحنات السياسية حول طريقة تعيين القضاة في المحكمة الدستورية وهي أعلى هيئة قضائية في بيرو، التي تنظر حالياً طلباً لإطلاق سراح زعيمة المعارضة كيكو فوجيموري، ابنة الرئيس الأسبق ألبيرتو فوجيموري الذي حكم بيرو خلال الفترة بين 1990 و2000، والمتهم بانتهاكات لحقوق الإنسان والمسجون منذ 2005.
وتخضع كيكو فوجيموري لتحقيقات قضائية منذ 11 شهراً في إطار تحقيق بقضية فساد ضخمة مرتبطة بمجموعة "أوديبريخت" البرازيلية والتي تمس سمعة الطبقة السياسية في أمريكا اللاتينية.
ويملك أنصار فوجيموري الغالبية في البرلمان لكن تأييدهم يتناقص بشكل سريع ولذلك يرفضون إجراء انتخابات مبكرة، كما ينص تعديل اعتمد عام 2018 بعد استفتاء على أنه لا يحق لأي نائب في البيرو الترشح لولاية ثانية، وفي المقابل يتمتع الرئيس بيسكارا بشعبية كبيرة بسبب وقوفه بوجه المعارضة رغم أنه لا يتمتع بتأييد أي حزب سياسي.
وقد أطلقت بيرو ملاحقات قضائية بتهم فساد بحق أربعة رؤساء سابقين، ففي 17 أبريل الماضي انتحر الرئيس الأسبق آلان جارسيا (1985 ـ 1990 و2006 ـ 2011) بإطلاق النار على رأسه عندما جاءت الشرطة للقبض عليه في منزله.
ووجه القضاء إلى الرئيس الأسبق أولانتا هومالا (2011 ـ 2016) وزوجته نادين هيريديا اتهامات غسيل أموال، في حين يخضع حالياً الرئيس السابق بيدرو بابلو كوتشينسكي - الذي أجبر على الاستقالة في 2018 بعدما قضى عامين فقط في السلطة - لتحقيق بشبهة غسيل أموال في إطار فضيحة فساد واسعة.
أما الرئيس السابق الرابع ضمن هذه القائمة هو أليخاندرو توليدو (2001 ـ 2006) وتم اعتقاله بمقر إقامته في الولايات المتحدة، تمهيداً لتسليمه إلى سلطات الحكم في بيرو.
يُشار إلى أن بيرو هي جمهورية ديمقراطية تمثيلية مقسمة إلى 25 منطقة، تتنوع جغرافياً من السهول القاحلة عند ساحل المحيط الهادئ إلى قمم جبال الأنديز والغابات الاستوائية في حوض الأمازون، ذات مؤشر مرتفعة من التنمية البشرية ويصل مستوى الفقر إلى 34 ٪. تتضمن أنشطتها الاقتصادية الرئيسية الزراعة وصيد الأسماك والتعدين والصناعات، وتضم اجتماعياً مزيجاً عرقياً من الهنود الأمريكيين والأوروبيين والأفارقة والآسيويين.