رأى عضو الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور عمر النعاس، أن مشروع الدستور هو المبادرة الواضحة والمتكاملة لبناء دولة الدستور والقانون، وترسيخ مرحلة استقرار حقيقي وفق مؤسسات تشريعية وتنفيذية نابعة من صلب الدستور ونتيجة لانتخابات ديمقراطية حرّة مباشرة وتأكيداً لمبدأ التداول السلمي على السلطة، وكل ذلك وفق نصوص دستورية واضحة. 

وقال النعاس في ورقة تحليلية بشأن (أوراق دستورية.. مبادرة رئيس مجلس النواب عقيلة صالح) والتي خص بوابة إفريقيا الإخبارية بنسخة منها، "مع كل التقدير والاحترام لكل المبادرات التي تهدف إلى وقف نزيف الدم بين الليبيين، وحقن الدماء، والتي ترسّخ لمبدأ قيام دولة الدستور والقانون والمؤسسات.

(الورقة الأولى) -  مبدأ التعيين مرفوض تاريخياً 

رغم أن جلّ ما تضمنته مبادرة السيد/ المستشار هي رؤى ذات مدلول سياسي تدور كلها في إطار مرحلة انتقالية جديدة طويلة، منها (تشكيل مجلس رئاسي جديد وحكومة جديدة.. مع استمرار مجلس النواب كسلطة تشريعية..).  إلا أنني سأقوم بالتعليق على الفقرة (الثالثة) المتعلقة بالشأن الدستوري، وهي:

الفقرة الثالثة ونصها: "بعد تشكيل المجلس الرئاسي يتم تشكيل لجنة من الخبراء والمثقفين لوضع وصياغة دستور للبلاد بالتوافق يتم بعده تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية تنبثق عن الدستور المعتمد الذي سيحدد شكل الدولة ونظامها السياسي".

توضيح الفقرة 3:  النص يعني أن المجلس الرئاسي المقترح سيقوم بتشكيل لجنة لوضع وصياغة دستور للبلاد بالتوافق... أي أن اللجنة ستكون معينة تعييناً من المجلس الرئاسي المشكل من (3 أقاليم)، وهذه اللجنة ستضع الدستور بتوافق الأعضاء المعينين من الأقاليم الثلاثة... ولم يتضمن النص أي شيء عن حق الشعب الليبي في تقرير مصيره من خلال الاستفتاء على مخرجات هذه اللجنة. 

التعليق على الفقرة 3 (التعيين مرفوض تاريخياً من برقة):  

سأعود للوراء قليلا عندما نص الإعلان الدستوري على أن يقوم المؤتمر الوطني بتعيين هيئة صياغة الدستور من (60 عضوا) على غرار لجنة الستين التي شكلت لإعداد دستور الاستقلال عام 1951 (20 عضو من كل إقليم)، قام الحراك الشعبي وخاصة في (برقة) مطالباً برفض مبدأ التعيين من المؤتمر الوطني، وتم إجراء التعديل الدستوري الثالث يوم 2012/7/5 والذي نص على انتخاب الهيئة التأسيسية. وقد تم الطعن في التعديل الدستوري الثالث أمام الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا والتي قضت بعدم دستورية التعديل.  ولكن نتيجة للحراك الشعبي المستمر في (برقة)، قام المؤتمر الوطني بإجراء التعديل الدستوري الخامس والذي نص على انتخاب الهيئة التأسيسية. وقد تم انتخاب الهيئة التأسيسية بالتساوي بين الأقاليم الثلاثة على غرار الجمعية الوطنية والتي كان عددها (60 عضوا)، وسأضع النقاط التوضيحية الآتية:

1/ إن مبدأ التعيين أصلا كان مرفوضاً من ( إقليم برقة سنة 2012)، ولهذا تم التوجه نحو مبدأ انتخاب الهيئة التأسيسية.  السؤال: لماذا التوجه الآن نحو التعيين بعد 8 سنوات من رفضه؟ 

2/ في صناعة الدساتير، إن تشكيل لجنة معينة من السلطة الحاكمة المؤقتة يتطلب أن تصدر هذه اللجنة المعيّنة مشروع دستور وليس دستوراً، ثم يتوجّب طرح المشروع على الشعب للاستفتاء علية (بالقبول أو الرفض) وخير مثال على ذلك: ما تم في مصر سنة 2012 حيث قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتعيين الجمعية الوطنية لصياغة مشروع الدستور وتم استفتاء الشعب عليه،  وايضا سنة 2014 ، قام الرئيس المؤقت بتعيين لجنة العشرة ثم لجنة الخمسين وبعد ذلك تم طرح مشروع الدستور للاستفتاء.

3/ القول بوضع دستور توافقي: إن التوافق يكون مطلوبا من أعضاء اللجنة وهم من برقة وطرابلس وفزان، والسؤال: ما هو معيار التوافق بين أعضاء هذه اللجنة للخروج بوثيقة دستورية توافقية؟

الخلاصة: إن تعيين لجنة لصياغة مشروع الدستور يستوجب استفتاء الشعب على مخرجات هذه اللجنة ، وهذا هو أحد الأساليب الديمقراطية الذي يعرف بأسلوب (الاستفتاء الدستوري). إن تعيين لجنة لوضع دستور دون استفتاء الشعب هو مخالفة صريحة للأساليب الديمقراطية الحديثة لوضع الدساتير. والسؤال: متى سيتم الاتفاق على مجلس رئاسي؟ ومتى سيتم الاتفاق على تعيين لجنة لوضع الدستور؟ ومتى ستتوافق اللجنة على مشروع؟ لماذا إطالة المرحلة الانتقالية سنوات أخرى من أجل مشروع دستور، في حين أن الهيئة التأسيسية المنتخبة من الشعب الليبي أقرّت مشروع الدستور يوم 2017/7/29 (منذ حوالي 3 سنوات) وهو جاهز للاستفتاء عليه؟

(الورقة الثانية) - تعارض المبادرة مع أسس الديمقراطية:

إنني أرى أن هذه المبادرة تتعارض مع مبادئ الديمقراطية التي ترسّخ لمبدأ سيادة الشعب وحقه في تقرير مصيره وفق الألية التي يختارها. واستناداً إلى الإعلان الدستوري الذي يحكم المرحلة الانتقالية وينظّم مؤسسات الدولة، وإشارة إلى وجوب احترام السلطات العامة للإعلان الدستوري وتعديلاته، فإنني أرى أن هذه المبادرة جاءت مخالفة لثلاثة مبادئ أساسية موضحة كالآتي:

1/ المبادرة جاءت مخالفة لإرادة الشعب الليبي (مصدر السلطات):

رسم الشعب مساره التأسيسي وفق آلية ديمقراطية بمشاركة شعبية حقيقية، وتتجلّى مظاهر مشاركة الشعب الليبي في صناعة دستوره من خلال ثلاث مراحل أساسية وهي: (المرحلة الأولى: انتخاب الشعب للهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور. المرحلة الثانية/ المشاركة العامة، وتعني مشاركة الشعب من خلال إجراء الملتقيات والندوات بين أعضاء الهيئة التأسيسية ومختلف شرائح وقطاعات وفئات الشعب، بمقرّ الهيئة وفي مختلف مدن وقرى البلاد وخارجها، والتي خلص عنها آلاف المذكرات والمقترحات المستلمة والموثّقة بأرشيف الهيئة التأسيسية. المرحلة الثالثة/ وهي مشاركة الشعب الليبي الفعلية بقول كلمته الفاصلة في مشروع الدستور من خلال الاستفتاء العام).  هذه المراحل الثلاثة ترسّخ لمبدأ أن الشعب الليبي يصنع دستوره فعليا وهو الذي يقرّر مصيره دون مصادره لحقه.

2/ المبادرة جاءت مخالفة للإعلان الدستوري وتعديلاته:

إن الإعلان الدستوري وتعديلاته يحكم المرحلة الانتقالية والمؤسسات القائمة، وتتعارض المبادرة مع النص الدستوري وخاصة التعديل الدستوري العاشر لسنة 2018 الذي أصدره مجلس النواب، والذي ينص على آلية الاستفتاء على مشروع الدستور، وحدد ثلاثة مناطق انتخابية على أن يتم إقرار مشروع الدستور بأغلبية ثلثي المقترعين مع وجوب حصول (50% + 1 ) في كل منطقة انتخابية. ولإلغاء التعديل الدستوري العاشر يتطلب الأمر عقد جلسة لمجلس النواب بالنصاب القانوني ووجوب موافقة (ثلثي أعضاء المجلس).

3/ جاءت المبادرة مخالفة لإرادة السلطة التشريعية (مجلس النواب):

حيث أن هذه المبادرة تتعارض مع القانون رقم (6) لسنة 2018 المعدّل بالقانون رقم (1) لسنة 2019 الذي أصدره مجلس النواب بشأن الاستفتاء على مشروع الدستور الدائم للبلاد، ولإلغاء قانون الاستفتاء يتطلب أن يصدر مجلس النواب  قانونا جديدا وفق آلية إصدار القوانين والتي تتطلب موافقة (120 عضوا) على الأقل. 

خلاصة تعليقي على المبادرة:

إن هذه المبادرة ترسّخ لمرحلة انتقالية جديدة ، تتمثل في مجلس رئاسي جديد، وحكومة جديدة وكل ذلك يتطلب توافق الأقاليم الثلاثة، مع البقاء واستمرار مجلس النواب. والهدف من هذه المرحلة الانتقالية الجديدة هو البحث عن مشروع دستور لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية..!!

وطالما أن الهدف هو البحث عن مشروع دستور، أقول: ( مشروع الدستور جاهز منذ حوالي 3 سنوات)!!

(الورقة الثالثة) - مبادرة (مشروع الدستور)  مبادرة (مصدرها الشعب الليبي):

1/ أود أن أؤكد أن الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور المنتخبة من الشعب الليبي انتخابا حراً مباشراً كانت قد أنجزت مهمتها، وأقرّت واعتمدت مشروع الدستور الدائم للبلاد يوم2017/7/29  بمقرّ الهيئة بمدينة البيضاء وبموافقة (43 عضوا) من كل المناطق والدوائر الانتخابية بالبلاد، (برقة 11، طرابلس 15، فزان 17). وأن نسبة الموافقة على إقرار مشروع الدستور من خلال التصويت المباشر تجاوزت تلك المنصوص عليها في الإعلان الدستوري حيث جاوزت ( ثلاثة أرباع - 75% ) وأن النسبة المطلوبة دستورياً (الثلثين - 66%). 

إن الهيئة التأسيسية انجزت عملها وسلّمت الأمانة للشعب الليبي للاستفتاء عليه بـ(نعم أو لا ).

2/ إن مشروع الدستور الذي أقرته الهيئة التأسيسية يتكون من (197 مادة)، ولكل مواطن حق إبداء الرأي في كل مادة من مواده الـ(197) ، وله حق النقد المسبّب، ومع احترامي الكامل لكل الآراء، إلاّ أن مشروع الدستور الذي أنجزته الهيئة التأسيسية المنتخبة من الشعب والمتكوّن من (197 مادة) أصبح ملكية خالصة للشعب الليبي، ومن يملك حق تقييم عمل الهيئة التأسيسية هو الشعب الليبي صاحب السلطة التأسيسية الأصلية، وهو صاحب هذا الحق من خلال الاستفتاء بـ(نعم أو لا)، فالشعب وحده يملك حق رفض المشروع أو قبوله، وأرجو تمكين الشعب الليبي من ممارسة حقه الدستوري الأصيل لتقرير مصيره بنفسه وقول كلمته ووضع بصمته.

3/ هناك العديد من المواد التي في رأيي يتفق عليها جلّ إن لم يكن كل الليبيين والليبيات، ومنها مبادئ عامة تتمثّل في ضمان وحدة البلاد وعدم التفريط في أي جزء منها (1)، والهوية الليبية الجامعة واللغة العربية لغة الدولة وضمانات دستورية لكل اللغات الليبية الأخرى(2)، والاسلام دين الدولة (6)، والتعدّدية السياسية والتداول السلمي على السلطة والفصل بين السلطان والتوازن والرقابة بينها (8)، وضمان حماية المال العالم وعدم خضوع الجرائم ذات العلاقة للتقادم (20)، وضمان الحقوق والحريات العامة؛ كالحق في الحياة (31)، الكرامة الانسانية (34)، الحق في الصحة (48)، الحق في التعليم (52، 53، 54) وحق السكن(30) والتنقل والإقامة (44) وحق التعبير والنشر (37)، حرية الصحافة والإعلام (38)، ودعم حقوق المرأة (49)، وحقوق الطفل (59)، وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (60)، وحقوق المتقاعدين وكبار السن والأرامل والأيتام (50)....وحقوق الليبيين بالخارج (45)، والمشاركة السياسية (39، 40)، ومنظمات المجتمع المدني (41، 42)، وحق التقاضي (61)، وضمان أصل البراءة واحترام حقوق الانسان وكرامته (62، 63) ، وإنشاء المحكمة الدستورية لضمان تقييد السطات العامة (135-142) ، واستحداث الهيئات المستقلة لضمان الشفافية والمحاسبة والمتابعة ومكافحة الفساد (145- 163)، باب الجيش والشرطة (177- 180). أيضا هناك مواد لتنظيم الحكم المحلي وفق اللامركزية الموسعة (143)، واستقلالية الوحدات الإدارية كالمحافظات والبلديات مالياً وإدارياً وإدارة شؤونها من خلال سلطات ومجالس منتخبة محلياً (145، 146)، وترسيخ مبدأي التدبير الحرّ والتفريع، وضمان التمويل للوحدات الإدارية من الخزانة العامة وأيضا تمويل ذاتي ومحلي بنص دستوري (147، 148)، وتوزيع كل المؤسسات والشركات والهيئات في مختلف مدن وقرى البلاد لضمان التنمية المستدامة وتحقيق العدالة الاجتماعية (22، 154، 196)، توطين مشاريع تنموية بديلة للثروات غير المتجددة بمناطق الانتاج لضمان الاستمرارية والتنمية والتعويض (171)، ، كما تم وضع آلية واضحة لإجراء أي تعديلات دستورية يتم الحاجة إليها مستقبلا (195).

الخلاصة: في رأيي؛ يكون مشروع الدستور هو المبادرة الواضحة والمتكاملة لبناء دولة الدستور والقانون، وترسيخ مرحلة استقرار حقيقي وفق مؤسسات تشريعية وتنفيذية نابعة من صلب الدستور ونتيجة لانتخابات ديمقراطية حرّة مباشرة وتأكيداً لمبدأ التداول السلمي على السلطة، وكل ذلك وفق نصوص دستورية واضحة.

إن الاستفتاء على مشروع الدستور هو الأصل، وهو حق دستوري للشعب يجب عدم حرمانه منه. كلمة الشعب الفاصلة هي الحكم والفصل للقبول بمشروع الدستور أو رفضه. 

وفي حال عدم امكانية إجراء الاستفتاء حاليا، يمكن تفعيل مشروع الدستور كدستور نافذ لمدة خمس سنوات وتجرى الانتخابات التشريعية والرئاسية والمحلية وفق أحكامه، ويتم إجراء الاستفتاء مستقبلاً في ظلّ استقرار الدولة ووجود مؤسسات دستورية. وهذه المبادرة طرحتها مرات عديدة على مدى سنوات، وهي تؤسس لمرحلة انتقالية محكومة بالدستور الذي يحكم كل السلطات ويحدّد اختصاصاتها وآلية محاسبتها. 

إن مشروع الدستور جاهز للعمل به كدستور مؤقت لمدة خمس سنوات وإجراء الانتخابات العامة التشريعية والرئاسية والمحلية وفق النصوص الواردة في باب نظام الحكم وباب الأحكام العامة.

يعلم الله أني لا ريد بهذه المبادرة إلا مصلحة ليبيا والحفاظ على أرواح الليبيين والليبيات وضمان الحياة الحرّة الكريمة لأبناء الشعب داخل ليبيا وخارجها.