ضد الفكر اليومي، وضد بداهاته، يناقش المفكر عزيز العظمة في محاضرة بعنوان “هل الإسلاموية قدر العرب“، قضايا نظرية تخص الواقع العربي، فيراه لا يتمتع بأيّ خصوصية دينية أو محلية، بل هو جزء من واقع كوني؛ في ظل هيمنة كونية للرأسمالية كما يقول. لا يوجد واقع خارج هذه الكونية، ودعاة الخصوصية والأصولية والمحلية، هم دعاة سياسيون في ظل عالم واحد، وإن كان التطور فيه متمايزا، فإن هذا التمايز لا يعاد إلى أنساق حضارية متعددة، حيث أنّ هناك نسقا حضاريا واحدا فقط؛ التمايز بسبب طبيعية النظام الرأسمالي ذاته وتطوره غير المتكافئ بين المراكز والأطراف.

يتصدى العظمة لمفهوم القدر، الذي هو مفهوم قديم، حيث كل شيء معدّ سلفا، ويتمثل في مفاهيم “الضرورة والاستمرارية وحتمية التراث”؛ فالماضي يتكرر في الحاضر وفي المستقبل، وكل أمّة أو واقع يكرر ذاته، وكل حداثة أو تغيير ليس إلا ابتعاد عن الأصل والنقاء، وسرعان ما سيعود الماضي إلى الحاضر، ويلغي كل ما أتى بعد الكولونيالية والحداثة؛ يرى العظمة إن هذه التيارات والقائلة بالقدرية هي تيارات أقرب للفكر ما بعد الحداثي، وفي هذا يحصل التقاء بين مفكرين وباحثين غربيين وعرب. ويضيف بأن هذه الأفكار تستمد دعمها من السياسات الثقافية المحافظة العالمية والسياسات المجتمعية الدينية.

للقدر مفهوم مرادف هو الحيوية، ويقصد به أن المجتمعات: “تسير مع بعضها على أساس الميول عبر – التاريخية (مثل التراث أو الروح القومية) ووفقها، التي، رغم التغيرات التاريخية، تتقدم دائما لتشكل شرطا أوليا ملزما، شرطا يفوق التغير التاريخي وتجعله غير فاعل”. وهذا يتضمن أن المجتمعات العربية مجتمعات قاصرة وغير قادرة على التطور! وفي هذا يناقش العظمة ثلاثة باحثين تطرقوا لهذا المفهوم وهم كل من: تشارلز تايلور وخوسيه كازانوفا وطلال الأسد.

تايلور يتحدث عن مفهوم سياسات الوعي: “إنها قالب جماعي قائم على التصور الذاتي للتجمعات البشرية ورعايته في الأصول المعبّر عنها في التراث” أي لا يوجد أي تقدم في الوعي لدى الشعوب، وهي تكرر ماضيها المسوّر؛ فالعرب غير سواهم، وسواهم غيرهم، وبالتالي يجب أن يعودوا إلى ماضيهم فيتطورون!

وكازنوفا، يدعي أن: “العلمانية نتاج الحداثة الغربية.. وهي بناء على ذلك (أساساً وعلى نحو محتم) ما بعد مسيحية وبالنسبة إليه هناك العديد من الحداثات؛ حداثات ما بعد الهندوسية، وما بعد الكونفوشيوسية، وما بعد الإسلامية” وبالتالي لا تصلح العلمانية ولا الحداثة إلا للأوربيين ولأنهم مسيحيون، وكل شعب عليه أن ينحت حداثته الخاصة؛ وهذا يعني أن الامبريالية لم توحد العالم ضمن نسق رأسمالي واحد، ولكنه متمايز في التطور.

سؤال العلمانية لا يطرح بين الغرب والإسلام، بل هو في الواقع الفعلي للشعوب العربية والإسلامية

أما طلال الأسد، فيرى أن عودة الدين في العالم العربي، هي تأكيد على الشرط الأولي للنقاء غير الملوث بواسطة العلمانية والحداثة، باعتبارها لحظة الطموح والوضوح التي تزيل أوهام التغيير. ويدعو الأسد لـ”مجتمع مقاطعات، لمجتمع ملل، لكن من دون هيمنة، تعايش جغرافي للأقليات، مدعوماً بفكرة الدين والتي هي ليست فقط من الإصلاح، وإنما كذلك قرآنية”، طبعاً هذا الرجل يرفض تسمية المسلمين في أوروبا بالمواطنين ويفضل أن تظل تسميتهم إسلاميين؛ وهو يوضح، رفضه الكامل لكل العصر الحديث والحداثة والعلمانية، وطبعاً يرى كل الشرور قادمة من الامتزاج والتشابك؛ إذن برأيه كي يحدث التطور لا بد من العودة إلى الماضي.

هذا الرأي مع الآراء السابقة، يتوافق مع رؤية ما بعد الحداثة، حيث تعددية الثقافات، وعودة الدين، والمحلي هو الأساس، ورفض العقل الكوني، وبذلك تتلاقى العقليات الأصولية في الغرب والشرق.

بعكس هذه الآراء، فإن العظمة يرى أن هذه الأصوليات، هي نتاج الحداثة، وهي نتاج “الشروط الحاضرة” ويضيف أن طفرة الإسلاموية في العالم العربي، تحت ظل أشكال كلّ من التقوى، والأصولية السياسية” هي بسبب الشروط المذكورة.

ثم يؤكد، أن سؤال العلمانية لا يطرح بين الغرب والإسلام، بل هو في الواقع الفعلي للشعوب العربية والإسلامية. وحسب رأيه أن العلمانية تمددت على قرن ونصف القرن، وأصبحت جزءا من هذا الواقع، فهي تدرس من خلال التعليم الوضعي ومن خلال القانون المدني وشكل الدولة والجامعات والتخصصات العلمية الطبيعية والجغرافية والتاريخية ومن خلال الأيديولوجيات الدستورية والقومية والليبرالية والاشتراكية؛ بل إن الوجود الرسمي للدين كان يتم من خلال الدولة “العلمانية” وكل ذلك تم بالتوافق مع الإصلاح الإسلامي في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر.

قراءة القرآن على نحو كلي، وبغض النظر عن التراثات المتراكمة، أتاح المجال ليصبح نموذجا قادرا على الإحياء

ولكن العظمة يتحدث عن تطور مواز، وخاص بالأصولية؛ فقد تشكلت عبر “منظمات تقوية مدنية”. وكذلك عبر تشكيلات شبه عسكرية كما لدى الإخوان في مصر، وقد عملت المنظمات المدنية، على تكثيف الرموز الدينية والمشاعر وإعادة تشكيلها وتوجيهها في قنوات محددة جيدا ووفق اتجاه سياسي واجتماعي محدد، وهو ما أسفر عن شبكات دوائر تنظيمية وأيديولوجية واتساق دلالي ذاتي استفاد منه الإسلام السياسي والجهاديات لاحقا.

ضعف العلمنة، سمح بالتطور الموازي، فاستفادت الأصولية من الهامش، وبمرور العقود غدت تطرح الدين كبرنامج للتحول الكلي للمجتمعات.

ويضيف أن قراءة القرآن على نحو كلي، وبغض النظر عن التراثات المتراكمة، أتاح المجال ليصبح نموذجا قادرا على الإحياء. مع تقدم الأصولية، “غدا ممكنا جعل القرآن يحمل كل أنواع المعنى، بما في ذلك التشخص الكامل والقالب الكلي للحياة وللعلاقات الاجتماعية، والأخلاق القانونية، وكذلك بالنسبة إلى البعض، العلوم الطبيعية”.

ويرى أنه مع ظهور الإسلام السياسي أصبح هو مصدر النظرية السياسية، وأن قراءة القرآن باعتباره منبعا للنظرية السياسية وللبرنامج السياسي هي ظاهرة قد قامت في منتصف القرن العشرين.

ويشير العظمة إلى عامل آخر لبروز الأصولية، حيث شروط التفكك الاجتماعي والتراجع في النظم التعليمية والركود في مهمة تحديث الدولة العربية وانجرافها نحو التخلف الاجتماعي، وفي ظل تزايد الفجوات بين الأغنياء والفقراء، والنهب المدمر للاقتصاديات النيوليبرالية، والحكم الفاسد الذي أنتجوه. هذه الأوضاع مهدت الطريق “للقومية الثقافية والهوياتية التي استخدمت الدين صرخة لكي تحشد بها الجماهير.

في الجزء الأخير من محاضرته يقوم بمراجعة سريعة لدور الإخوان في مصر والنهضة في تونس؛ فيرى أن النهضة فازت بـ 1.5 مليون صوت من أصل 3.5 مليون أدلوا بأصواتهم ممن يحق لهم التصويت، والذي بلغ مجموعهم 7.5 مليون. وجاءت الأغلبية من التونسيين المغتربين! وفي مصر حاول الإخوان أخونة الدولة والدستور بسرعة قياسية، وأن الأسلمة الدستورية هي نتاج حزب سياسي، هو الإخوان المسلمون، وهم جماعة جائعة للسلطة وتتمرس من خلال إحساس قوي بالأهلية والاستحقاق، استحقاق بسبب العلاقة الخاصة بالرب، وبسبب الافتراض الشعبي أن الإسلام والشريعة الإسلامية القديمة تتوافق، في قالب نموذج حيوي، مع طبيعة الناس.

ويختتم محاضرته، التي ترجمها الباحث حمود حمود، ونشرت عن مركز البوصلة، مؤكدا: أن ما نراه من صور إسلاموية ليست عودة مقدرة، بل هي نتاج الانحدار الاجتماعي، وليس فيها أي شيء أصيل، وهم يناهضون العلمنة، ويدمرون التعليم والثقافة الحديثة ويعيدون تحديد الثقافة الوطنية وفقا للقوالب الدينية الجديدة؛ ويسعون للسيطرة على كل مؤسسات الدولة والشرطة والجيش والقضاء. ويجيب على عنوان هذه المادة، وهو عنوان محاضرته، إن الاسلاموية ليست قدرا، إنها حقائق سياسية وهندسة اجتماعية وهي تشتد فتكا بالحداثة.

 

*نقلا عن العرب اللندنية