يعتبر المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري أول من طرح مفهوم "الكتلة التاريخية" في الوطن العربي والإسلامي. وذلك انطلاقا من عام 1981 إلى غاية عام 1996، في المرة الأولى تم طُرح المفهوم من قبل المفكر المغربي بعد نجاح ثورة الخميني بعامين ونيف، حيث حاول المفكر المغربي أن يقيم أواصر قوية بين المشروعين الإسلامي والعلماني في الوطن العربي والإسلامي بشكل عام والمغرب بشكل خاص، وأعاد طرح المفهوم نفسه في بدايات التسعينات بعد الصراع الدامي الذي جرى في الجارة الشرقية، الجزائر، على السلطة أنتج حربا أهلية في بلاد المليون شهيد.

يقول الجابري محددا دور الكتلة التاريخية في كتابه "وجهة نظر": "فالمطلوب هو قيام كتلة تاريخية تنبني على المصلحة الموضوعية الواحدة التي تحرك في العمق ومن العمق جميع التيارات التي تنجح في جعل أصدائها تتردد بين صفوف الشعب، لا بل بين صفوف الأمة بصور من صور المصلحة الموضوعية التي تعبر عنها شعارات الحرية والأصالة والديمقراطية، والأصالة والشورى والاشتراكية والعدل وحقوق أهل الحل والعقد وحقوق المستضعفين وحقوق الأقليات والأغلبيات، وذلك إن الحق المهضوم في الواقع العربي هو حقوق كل من يقع خارج جماعة المحظوظين المستفيدين من غياب أصحاب الحق عن مراكز القرار والتنفيذ ".

قبل أمس استطاع الفرقاء السياسيون في تونس أن يتوافقوا بأغلبية ساحقة على دستور للبلاد، هو الأول منذ الثورة التي أطاحت بالرئيس السابق زين العابدين بن علي قبل ثلاث سنوات، حيث حظي الدستور الجديد بتأييد 200 من نواب الجمعية الـ 216، ويرجع الفضل في ذلك إلى النخبة السياسية التونسية التي قدمت درسا في الوفاق الوطني من أجل تحقيق الانتقال الديمقراطي الذي تقوده التيارات السياسية المعتدلة "العلمانية" و"الإسلامية" في توافق من أجل وضع قواعد تأسيسية للدولة التونسية الجديدة.هل تحقق حلم المفكر محمد الجابري على واقع تونس في تأسيس "الكتلة التاريخية" التي حلم بها منذ 1981؟ وهل نجاح تونس في توافق نخبتها وخيبة آمال مصر في الانتقال الديمقراطي راجع إلى أن "عقلانية" المغرب العربي التي رافع ودافع عنها المفكر الجابري أزهرت ربيعا "ديمقراطيا" و"عقلانيا" في تونس سيكون ملهما للطيف السياسي "الإسلامي" و"العلماني" في المنطقة المغاربية لتجنيب بلدان المنطقة الفوضى والتيه كما في المشرق؟ وهل استلهم بعض قادة النهضة الذين درسوا في جامعة محمد الخامس بالرباط على يد المفكر المغربي محمد عابد الجابري درس "الكتلة التاريخية".

تدشين حوار حقيقي بين الإسلاميين والعلمانيين

لماذا نجحت تونس في التوافق بين الإسلاميين والعلمانيين في سبيل إنجاح الانتقال الديمقراطي فيما فشل في ذلك المصريون؟يجيب خالد البكاري، الأستاذ الجامعي، كون المقارنة بين التجربتين المصرية والتونسية يستدعي، حسب رأيه، الحديث عن حيادية المؤسسة العسكرية بتونس وهي حيادية موروثة من حقبتي بورقيبة و بنعلي اللذين همشاها لصالح جهازي البوليس والداخلية ومخابراتهما، فيما مصر تجد أن المؤسسة العسكرية هي المتحكمة في القرار السياسي منذ عهد عبد الناصر، ولم تكن مستعدة للتخلي عن هذا الدور.أما الملاحظة الثانية، يضيف البكاري في اتصال مع هسبريس، فهي متعلقة بتراكمات الفعل والتنظيم السياسيين عند التنظيمات الحركية اﻹسلامية. فحركة النهضة التونسية كانت قد قطعت أشواطا في التصالح مع الديمقراطية والقيم الكونية مما سهل تحالفاته مع شريكيه العلمانيين في السلطة، بينما القيادة المتنفذة في حركة اﻹخوان كانت حين استلامها السلطة لم تتخلص بعد من فكر التغلب.

ويسجل البكاري، وهو مثقف مغربي محسوب على اليسار، أن ضعف القوى المدنية العلمانية بمصر مقارنة بتونس مضافا إلى ذلك حيادية الجيش التونسي مقابل النزعة التحكمية لعسكر مصر من جهة ونضج حركة النهضة مقابل تصلب حركة اﻹخوان المسلمين المصرية من جهة قد ساهما في نجاح النموذج التونسي وعبوره لمحطات صعبة بأمان لحد اﻵن في مقابل عودة الاستبداد و السلطوية والتحكم بمصر.واعتبر البكاري أن ما وقع بتونس اليوم ستكون له تداعيات على المنطقة قد تكون مباشرة في مناطق وقد يتأخر تأثيرها في مناطق أخرى. حيث أن تأثيرها سيمس جوانب أساسية منها: عودة الروح الثورية للمنطقة بعد اﻹحباطات جراء ما يحصل في سوريا و ليبيا ومصر، ثم عودة اﻹيمان بالمقاومة المدنية السلمية اللاعنفية، وأخيرا إمكان تدشين حوار حقيقي بين اﻹسلاميين والعلمانيين يفضي ﻹمكانية العمل المشترك على قاعدة تعاقدات واضحة.

الكتلة التاريخية في تونس

اعتبر عبد النبي الحري، في اتصال مع هسبريس، أن النخبة السياسية التونسية قدمت درسا في الوفاق الوطني من أجل تحقيق الانتقال الديمقراطي، حيث أدرك قادة حزب النهضة الإسلامي، يضيف أستاذ الفلسفة، أن الشعب اختار النهضة كأغلبية برلمانية في المجلس التأسيسي، لا للحكم أو السلطة، ولكن لبناء قواعد سليمة للانتقال نحو الديمقراطية، وقيادة كثلة وطنية تضم معظم التيارات السياسية والاجتماعية، وأخذ جل أفكارها وتصوراتها حول دولة تونسية حديثة بعين الاعتبار، من دون إقصاء أي طرف، بمن فيهم أولئك المحسوبين على النظام القديم؛ طالما أن مهمة "الكتلة التاريخية" ليست هي توزيع صكوك الوطنية والثورية على قوى بعينها وسحبها من أخرى، بدعوى انتمائها للثورة المضادة، وإنما مهمتها هي استيعاب كافة التوجهات والتحركات والقوى بما يخدم قضية الانتقال الديمقراطي المنشود.

وذهب الباحث في تحليل الخطاب إلى أن التجربة التونسية "قدمت مجموعة من الدروس بالنسبة للفاعل السياسي الربيعي، وفي مقدمته الفاعل الإسلامي، وهي أنه كلما ابتعد عن عقلية الهيمنة والإقصاء، والاغترار بالأغلبية العددية، كلما كان قادرا على استيعاب كل الضربات التي يمكن أن توجهها له القوى المناوئة للربيع الديمقراطي، المحلية والإقليمية والدولية، والتي حاولت بمختلف الوسائل، الظاهرة والخفية، إجهاض مختلف تجاربه الديمقراطية الهشة، وقد تأتى لها ذلك في مصر".

وأشار الحري إلى أن تجربة الإسلاميين التوانسة لقنت درسا للإسلاميين، هو أن نجاحهم، "مرتبط بمدى وضعهم مسافة بينهم وبين المطالب ذات البعد الهوياتي الضيق، واتخاذهم مسافة واضحة مع التيارات "السلفية"، التي أتثبتت التجربة أنها لا تؤمن إلا بمنطق الغلبة والقوة، لا فرق عندهم بين قوة انتخابية أو قوة انقلابية، مادام ذلك سيمكن لهم من التحرك في دائرة الحكم والسلطة، أما الديمقراطية وحكم الشعب وما يقتضي ذلك من روح توافقية وعمل من أجل "كثلة تاريخية" خليقة بتحقيق الانتقال الديمقراطي، كما حلم بذلك الجابري، ولا غرابة في ذلك ما دام عدد من قادة حزب النهضة الإسلامي كانوا طلبة لمحمد عابد الجابري بجامعة محمد الخامس بالرباط".

أما محمد عيادي، الصحافي المغربي في جريدة "العرب" القطرية، يعتبر ما وقع في تونس "إنجازا تاريخيا" يرجع إلى عدة عوامل من أهمها أن حركة النهضة التي حصلت على الأغلبية واحتلت المرتبة الأولى في انتخابات المجلس التأسيسي فهمت وانتبهت إلى أنه لا يمكن الاعتماد على "منطق الغلبة والشرعية الانتخابية فقط في بناء تونس ما بعد الثورة والخروج بسلام أو بأقل الأضرار من المرحلة الانتقالية"، وأنه لابد من "منهج تشاركي توافقي مع القوى الأخرى وخاصة القوى العلمانية المعتدلة وهو ما ترجم في حكومة الترويكا".أما العامل الثاني، يضيف عيادي في اتصال مع هسبريس، هو أن القوى العلمانية التونسية كانت لها هي الأخرى قناعة الشراكة وصمدت على خيارها رغم الانتقادات والتهجمات من طرف العلمانيين المتشددين والتيار الشيوعي، وكذلك الأمر بالنسبة لحركة النهضة التي لم تستلم لضغوط واستفزازات الإسلاميين المتشددين. كما أن الترويكا أبدت مرونة في التعامل مع بقايا حزب بن علي وتمظهراته الجديدة وباقي التيارات السياسية والنقابية وتحلت بالنفس الاستيعابي والطويل في التعامل مع مسلسل الحوار الوطني.

ويسجل الإعلامي المغربي، المقيم في الدوحة، أن مؤسسة الجيش بقيت محافظة على الحياد ولم تتدخل وتتورط في الصراع السياسي، ناهيك عن مستوى الوعي السياسي للشعب التونسي الذي حال دون حصول ثورة مضادة أو على الأصح أفشل بوادرها الأولى، ولم يستجب لإعلام أحادي موجه - وإن كان أقل بكثير مما حصل بمصر- ولتيارات اختارت المنهج الصدامي والمقاربة الإيديولوجية المتصلبة وأبقاها معزولة.وخلص عيادي في اتصال مع هسبريس، أن تونس "قدمت نموذجا في كيفية تجاوز المراحل الانتقالية يقوم بالأساس على منطق الشراكة والتوافق بين التيارات الأساسية في المجتمع أو عبر ما سماه المفكر محمد عابد الجابري رحمه الله بالكتلة التاريخية".

الفضل يعود إلى حزب النهضة الذي قدم التنازلات

من جهته، اعتبر أنس بنضريف، الصحافي المغربي المقيم في هولندا، أن ما جرى في تونس يعد باكورة التقاء الديموقراطيين من الجانب الإسلامي والجانب العلماني. ويعود الفضل، حسب رأي بنضريف، إلى حزب النهضة الذي "قدم تنازلات أفقدته الحكومة من أجل مصلحة تونس". حيث أن النهضة فهمت أن الديمقراطية في المرحلة التأسيسية "تتطلب وفاقا وطنيا وليس أغلبية عددية فقط".ويرجع بنضريف السبب إلى كون أغلب قادة النهضة وعلى رأسهم الغنوشي عاشوا فترة في بريطانيا وتأثروا بنظام الحكم الذي وان كان علمانيا في ظاهره إلا انه يعطي مساحة للدين في الفضاء العام، لأن النهضة لم يكن لديها مشكل مع العلمانية ولكن كان لديها مشكل مع النموذج الفرنسي الذي يقصي الدين من الفضاء العام.

ويعزو بنضريف فشل الثورة في مصر ونجاحها في تونس كون "الإخوان" سقطوا في فخ خصومهم السياسيين والإعلان الدستوري الذي أتى به الرئيس المعزول عزل الحركة وأفقدها أنصارها من الديمقراطيين، ناهيك عن تحالف "الإخوان" مع السلفيين أسرع بسقوطهم لولاء هؤلاء لدول الخليج المرتابة من التغيير السياسي، على عكس النهضة التي دخلت في صراع مع السلفيين واختارت العلمانيين المعتدلين من أجل التحالف".وأشار بنضريف في اتصال مع هسبريس، إلى أن "التونسيين وإن نجحوا داخليا فلا زال أمامهم تحد كبير وهو التدخلات الأجنبية من دول كالسعودية والإمارات والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا التي ربما أبعدتها الأزمة الاقتصادية عن منطقة تعتبرها حديقتها الخلفية.

حسن بويخف، رئيس تحرير جريدة التجديد، لسان حركة التوحيد والإصلاح، يسجل، في تصريح لهسبريس، أن التجربة التونسية تميزت بثلاث ميزات أساسية افتقدتها التجربة المصرية بشكل فضيع، الأولى، تسلح الفرقاء السياسيين التونسيين، بقدر عال من الوعي السياسي المعتمد على التفاوض والتوافق والتنازل لمصلحة الوطن، وخاصة حزب النهضة الحاكم (سواء في وضع بنود الدستور أو من خلال التنازل عن الحكم).وأما الميزة الثانية، هي دخول المجتمع المدني كصمام أمان للعملية السياسية، وخاصة "الاتحاد العام التونسي للشغل"، الذي احتضن ودبر الحوار الوطني في وضع وتنفيذ خارطة الطريق.أما الميزة الثالثة، حسب رأي بويخف، فتتمثل في حسن تدبير الزمان السياسي بتخليصه من الاستعجال المؤجج للصراع.وخلص الصحفي المغربي بالقول: "إن تونس قدمت درسا حيويا في أهمية التفاوض على أساس التوافق في بناء الدولة بعد الثورة وفي اقتسام السلطة، و مصر قدمت الدليل على أن الشرعية الانتخابية وحدها لا تكفي في مثل ذلك".

دستور تونس الجديد: مصباح في مشكاة لكنس الاستبداد والفساد

ذهب أحمد بوعشرين، قيادي في حزب الأمة، في تحليله إلى أن العلاقة مع الاستبداد علاقة مدافعة حتى يزول والعلاقة مع القوى المجتمعية الحية هي علاقة توافق وحوار، وأن مرحلة ما بعد القطع مع الاستبداد يلزمها توليفة مثلى بين التوافق واللجوء إلى صناديق الاقتراع من أجل تعاقد دستوري متين يؤسس لقواعد التباري الديمقراطي والتداول الفعلي على السلطة.

وأضاف بوعشرين، في اتصال مع هسبريس، أن "أبلغ سلاح ضد المتربصين بمنجزات ربيع الثورات (في تونس ومصر خصوصا)هو سلاح التوافق بين قوى المجتمع ونبذ كل ما قد يشق المجتمع أفقيا في اتجاه معركة البناء الذي يكون فيها التوازن حاصلا بين التعاقد الأفقي وأداته الحوار والتوافق، وبين التعاقد العمودي وأداته دستور ديمقراطي شكلا ومضمونا وانتخابات حرة نزيهة وديمقراطية".

واعتبر المتحدث أن تونس كانت رائدة في تدشين مرحلة ربيع الثورات حيث هدم بنى الاستبداد هي الآن تدشن لنا مرحلة ربيع البناء الديمقراطي السليم الذي تعود فيه الشرعية للإرادة المجتمعية العامة وترسى فيه قواعد متينة لتداول فعلي وسلمي وحقيقي للسلطة "إن نموذج تونس ينتصر للموازنة التي ترجح تحرير الإرادة الشعبية على حساب أية أولويات أخرى وهي موازنة راشدة في تقديري إذ أن هذا التحرير مقدم على كل الدعاوى الإكراهية التي قد تلبس ثوبا علمانيا أو ثوبا "سلفيا" يقول أحمد بوعشرين الأنصاري.

أما خالد العسري، القيادي في جماعة العدل والإحسان، فقد ذهب إلى كون الحدث التونسي المعلن عن التوافق التاريخي حول الوثيقة الدستورية التي طال الجدل حول فصولها ليس بـ"الحدث السهل"، لأن "الثورات الناجحة هي التي يمكنها أن تخرج بوثيقة دستورية تحوز موافقة الغالبية العظمى من الشعب، وأهمية الوثيقة التونسية تتعلق بسياق ولادة، وآلية تدبير".

ويرى الباحث في العلوم السياسية ولادة دستور الجمهورية التونسية في سياق "مرتبط بالمتغيرات الدرامية التي يعرفها مسار دول ثورات الربيع العربي، وهي أحداث جسام غايتها النهائية استبدال الشعوب العربية شعار. "الشعب يريد حرية، وكرامة وعدالة اجتماعية" بشعار "الشعب يريد الاستقرار فقط"، وهو الشعار الأثير لدى أنظمة الاستبداد التي طالما رددت "نحن أو الفوضى" الذي قايضوا به تاريخيا – وما يزالون - بين مفهوم الشرعية ومفهوم الاستقرار".أما آليات تدبير المرحلة الانتقالية في تونس، يضيف العسري في اتصال مع هسبريس، فهي حبلى بالدروس، لأن النخب السياسية في تونس، حسب رأي المتحدث، كانت أكثر حكمة، لعلمها أن أيما فشل في تحقيق التوافق بينها ينتج عنه تصدير الانقسام إلى الشارع، وهو ما يثمر نتائج كارثية. لذلك كانت التسويات في اتجاهات ثلاث:

اتجاه فكراني/ إيديولوجي: من خلال صياغة الدستور بنفس "الديمقراطية التشاركية" التي تبتغي التوافق حتى مع التيارات التي لم تسعفها صناديق الاقتراع، ولذلك كان الترحيب به متقاسما بين من في السلطة ومن في المعارضة.اتجاه شراكة التدبير الحكومي: وهو ما كان عنوانه البارز تقاسم رئاسة الدولة والحكومة والمجلس التأسيسي بين ثلاث تيارات متباينة.اتجاه التدبير الإجرائي للمسلسل السياسي: ويعنى به أساسا مسار الانتخابات، وقد أبانت حركة النهضة حرصها على المصلحة الوطنية من خلال تنازلها عن رئاسة الحكومة لشخصية مستقلة كانت محط اتفاق.

(*)نقلا عن جريدة "هسبريس" المغربية