أوقع رئيس الحكومة الليبية المؤقتة المهندس عبد الحميد الدبيبة نفسه في العديد من المطبات خلال الفترة الماضية ، وتورط بشكل اندفاعي في مواقف ما كان له أن يقع فيها ، لا سيما وهو يدرك أن نقاط الخلاف الكبرى لا تزال قائمة وخاصة بين شرق وغرب البلاد ، وأن الجراح لم تندمل بعد وكل محاولة لصب الزيت عليها ، يعني قطع الطريق أمام الحل والعودة الى المواجهة التي قد تؤدي هذه المرة الى التقسيم الفعلي للبلاد ، وهو أمر مطروح بقوة لدى الكثيرين ، وهناك من ينظّرون له ، ويعتقدون أنه قادم لا محالة ، طالما أن العقل السياسي الليبي لم يستنبط بعد رؤية برجماتية لتجاوز آلام الماضي ، والاتجاه نحو المصالحة الشاملة التي لا تستثني أحدا ،
كانت البداية عندما انتشر تسجيل فيديو للدبيبة وهو يتناول « ماكياطة » في مقهى شعبي بطرابلس ، ويتحدث الى بعض النازحين من بنغازي بأن سيرجعون الى مدينتهم عندما تعود الى أحضان الوطن ، بما يعني أنها مدينة مختطفة من قبل الجيش الذي يتشكل من عسكريين ينتمون الى كل مناطق ليبيا بما فيها طرابلس نفسها ، بل أن بنغازي والمنطقة الشرقية عموما يحتضنان حاليا أعدادا كبيرا من أبناء غرب البلاد الذين هجرتهم الميلشيات من مدنهم وقراهم سواء بسبب موالاتهم للنظام السابق ، أو بسبب دعمهم للجيش ، وهناك مخيمات للنازحين من الغرب في كل مدن الشرق ، وهم يطمحون الى العودة الى بيوتهم ومزارعهم في مناطقهم بدءا من تاورغاء ووصولا الى ترهونة ، ولكن الجماعات المسلحة المحسوبة على مركز الحكم في طرابلس تمنعهم من ذلك ،
وعندما أعلن الدبيبة عن قراره بعقد الاجتماع الثالث لمجلس الوزراء في بنغازي ، كان عليه أن يضع تحوله الى المدينة في سياق الوضع السائد ، وألا يوافق على خطة الاستقرار المتعمد التي وضعها بعض مساعديه ، بإرسال مسلحين من طرابلس لتأمين زيارته الى بنغازي ، وهم في اغلبهم من عناصر الميلشيات التي تحول قادتها الى أصحاب قرار سياسي بقرار من فائز السراج للاستقواء بهم على منافسه آنذاك فتحي باشاغا ، وأبقى عليهم الدبيبة للحفاظ على توازنات الرعب التي لا تخدم حسابات السلام  
لقد كانت كلمات الدبيبة داخل المقهى كافية لتثير حالة من الاحتقان ضده في المنطقة الشرقية ، ولكن وصول المسلحين الى مطار بنينا لتسلم صالة الاستقبال فيه والترتيب لتأمين موكب الوفد الحكومي ، كشف عن وجود خلل في فهم طبيعة الواقع ، ومن ذلك أن بنغازي استقبلت خلال الأسابيع الماضية أغلب الوزراء لتسلم مسؤوليات وملفات حكومة الثني ، وتم تأمين تحركاتهم دون أي إشكال يذكر ، والدبيبة ذاته زار طبرق وتولت القوى الأمنية والعسكرية تأمين رحلته ونشاطه ، والأمر ذاته بالنسبة لرئيس المجلس الرئاسي ، ثم أن من يتهمون الجيش بالسيطرة على شرق البلاد ، وقائده المشير خليفة حفتر بالديكتاتورية ، يعنون بذلك ، فيما يعنون ، أنه قادر على ضبط الأمن ولاسيما في الخطط الموجهة غير القابلة للاختراق ، وبالتالي فلا خوف على رئيس الحكومة والوزراء من الذهاب الى بنغازي والاجتماع فيها
كان يمكن لملمة الوضع ، ولكن الحكومة المؤقتة صرحت بأن طائرة رئيسها ومساعديه مُنعت من الهبوط في بنغازي ، وهو ما استغلته الأطراف الرافضة للسلام وللحل السياسي للتحريض من جديد ضد الجيش وقيادته وضد توحيد المؤسسات والمصالحة وطي صفحة الماضي ، وكان رد الجيش « نفند ما جاء في وسائل الإعلام المتطرفة والتي تمتهن خطاب الكراهية وبث بذور الفتنة والشقاق بين الليبيين ونؤكد أننا على استعداد تام لاستقبال الوفود رفيعة المستوى وضمان أمنها وسلامتها على أعلى مستوى » مؤكدا ترحيبه بالحكومة ورئيسها للاجتماع في بنغازي واستعداده لتأمين كامل تحركاتها على أن يتم التنسيق مع وزارة الداخلية وأجهزتها المتخصصة
اعتقدنا أن الموضوع انتهى عند هذا الحد ، ولكن الدبيبة زاد من صب الزيت على النار عندما قال إنه تعرض للمنع من النزول في مطار القرضابية بسرت من قبل المرتزقة الأجانب ، رغم أننا ندرك جيدا أنه نزل بالمطار في الثامن من مارس الماضي بتنسيق تام مع اللجنة العسكرية المشتركة وذلك لحضور جلسة البرلمان لمنع الثقة لحكومته ، وأنه لم يتحدث عن تلك الواقعة في حال حدوثها فعلا إلا بعد 50 يوما ، ما يشير إلا أنها تندرج ضمن المزيد من توتير الأجواء ، وضمن محاولة تبرير موقف ميلشيات مدينته مصراته باستمرارها في رفض الاستجابة لقرار اللجنة العسكرية وللمطالب الأممية والدولية بفتح الطريق الساحلية ، وهو ما تم إبلاغه للسفير الأمريكي والمبعوث الأممي بأن لا فتح للطريق طالما أن المرتزقة الروس في سرت ، في حين أن الجيش لم يمتنع عن فتح الطريق رغم أن آن الاف المرتزقة والقوات التركية موجودون في غرب البلاد ، وفي مصراتة ذاتها
أن المفاوضات وجدت لتكون لحلحلة القضايا المصيرية بين الخصوم ، والخلافات لا تحل دائما عبر الوساطات ، والسيد الدبيبة باعتباره رئيسا لحكومة الوحدة الوطنية ووزيرا للدفاع ، وكما اجتمع بأمراء الحرب في طرابلس ومصراتة ، كان يمكن أن يتخلى عن مرجعيته الجهوية ومواقفه الشخصية وأن يذهب الى بنغازي ويجتمع بقيادة الجيش ، وأن يتعامل مع جميع الأطراف على قدم السواء ، فليس المهم أن يعترف بأن تلك القوات هي جيش وطني فعلا ، ولا أن يحب حفتر ، ولكن المهم أن يعترف بأن تلك القوات بقيادة حفتر هي التي تبسط نفوذها على شرق وغرب وجزء كبير من وسط البلاد ، وأي حل للأزمة يفترض التعامل مع هذا الواقع ، تماما كما فعلت اللجنة العسكرية المشتركة التي بدأت إجتماعات بالتنافر قبل أن تصل الى مرحلة التكامل في تحديد الأولويات وترتيب الأوضاع الميدانية
 المهندس عبد الحميد الدبيبة هو بالأساس رجل أعمال محظوظ وناجح ، والسياسة كانت هوايته خلال السنوات الماضية ، وقد أوصل تداخلها مع المال الى منصب كبير في ظل توازنات جهوية ومناطقية مستوحاة من وضع البلاد قبل 70 عاما ، عندما تأسست وفق نظام فيدرالي ناتج عن مخلفات الحرب العالمية الثانية وأقرته الأمم المتحدة ، وتم إلغاؤه في تعديلات الدستور عام 1963 ، لتتحول ليبيا الى دولة واحدة موحدة ، ثم جاء العام 2011 بعواصفه ، التي كان من إفرازاتها الدعوة الى عودة الفيديرالية ، ورغم أن صوت الوطنيين كان أقوى من هذه النزعة التقسيمية المدعومة من أطراف خارجية ، إلا أن اللعبة تم تمريرها ، وظهرت في شكل مبادرة أطلقها رئيس مجلس النواب عقيلة صالح  لحل الأزمة القائمة خلال السنوات العشر الماضية ، وتبنتها الأمم المتحدة وعملت بعثتها على تحويلها الى واقع على الأرض من خلال مخرجات الحوار السياسي المتعلقة بانتخاب المجلس الرئاسي والحكومة وتوزيع الحقائب الوزارية وحوار بوزنيقة لتوزيع المناصب الكبرى في المؤسسات السيادية وفق ترتيبات ستمنع أبناء هذه الأقليم أو ذلك من الأمل في الوصول الى وظائف في الدولة لأنها موقوفة على أبناء إقليم أخر ،
كان على رئيس الحكومة الحالية المولودة من رحم الدماء والدمار  أن يعمل على قطع الطريق أمام محاولات التقسيم ، وأن يحصّن نفسه بالعقلاء ممن تهمهم مصلحة ليبيا قبل المصالح الحزبية والجهوية والشخصية ، وأن يصنع مبادرات الحل بدل أن يتورط في زلات لسان ومواقف تدفع نحو استمرار الأزمة ، وأن يتجاوز وسوسات من يحاولون إقناعه بأن عودة الصراع ستمكنه من إطالة عمر حكومته لسنوات كما حدث مع السراج الذي انقلب على التفاهمات والاتفاقيات فوصل بالبلاد الى الحرب الملتبهة وما أفرزته لاحقا من حرب بادرة يحاول البعض إعادته الى الصراع الميداني المحتدم ، كما قال الدبيبة ذاته