تمثل أفريقيا بالنسبة لفرنسا تحدّياً وفرصةً في الوقت ذاته: تحدّياً لأن فرنسا لم تعد اللاعب الوحيد في القارة الأفريقية، وفرصة لكي تستعيد باريس دورها الطليعي كعاصمة دولية مهيبة وواسعة النفوذ. وكما يلاحظ الباحثان الفرنسيان، بول ميلي وفنسنت داراك، في كتابهما «هل هو أسلوب جديد للانخراط؟ السياسة الفرنسية في أفريقيا من ساركوزي إلى أولاند»، فقد أبرزت الأحداث في مالي خلال السنة الأخيرة، أنّ باريس لا تزال طرفاً رئيسياً في أفريقيا جنوب الصحراء، وأن هذه الأخيرة تمثل سوقاً مهمة لفرنسا ومصدراً للمواد الأولية. لذلك فقد سعى أولاند إلى تجاوُز حدود التدخل العسكري في مالي، من أجل تطوير منظور سياسي شامل نحو القارة. ورغم تصريحه في 2012 بأن الدول الملتزمة بنظام الحكم الديمقراطي ستستفيد من زيادة الدعم الفرنسي، فإنه في الواقع تبنى مقاربة مرنة في التعامل مع كل نظام على حدة.
ويقدم المؤلفان رؤية مقارنة حول السياسة الأفريقية لفرنسا «من ساركوزي إلى أولاند: مقاربة تطورية نحو أفريقيا»، ويذكر أن هذه السياسة شهدت في عقد التسعينيات تغييراً ملموساً قام على تفادي التورط في نزاعات أهلية وعرقية مريرة. ورغم ذلك فقد فشلت الوساطة الفرنسية في كوت ديفوار واضطُرت للتخلي عن دور الوساطة لصالح مبادرات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. وطرح ساركوزي في 2008، أربعة محددات لتغيير سياسة بلاده تجاه أفريقيا، تقوم على: الحوار مع الدول الأفريقية لتكييف اتفاقيات التعاون السابقة، وإعادة صياغة العلاقات الثنائية على مبدأ الشفافية، واستخدام الوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا لمساعدتها على بناء نظام ذاتي للأمن الجماعي، وجعل أوروبا الشريك الرئيسي لأفريقيا في تحقيق الأمن والسلام. وخلال عهد ساركوزي انتهجت فرنسا سياسة تقوم على خفض الهجرة غير الشرعية للأفارقة إلى أوروبا، كما انعكست تقلبات السياسات الخارجية على العلاقات الفرنسية الأفريقية، حيث تراوحت الخيارات بين الاستمرار في اتباع سياسة «فرانس آفريك»، القائمة على وصاية المستعمِر السابق وتدخّله السافر في شؤون الدول الأفريقية، وبين السعي لرعاية المصالح الفرنسية في أفريقيا مع الاهتمام بالتلازم بين مسار التنمية من جهة والشفافية والديمقراطية والحكم الرشيد من جهة أخرى.
أمّا أولاند فواجهته منذ توليه منصبه في مايو 2012، الحاجة إلى إيلاء أفريقيا اهتماماً جاداً؛ وذلك على ضوء الأزمة في مالي، والتي تبيّن أنها تشكل تهديداً رئيسياً للمصالح الفرنسية، ولوحدة دولة مالي كما رسمت حدودها فرنسا في القرن الماضي، مما يهدد حالة الاستقرار الهش في منطقة غرب أفريقيا برمتها. وقد انهمكت إدارة أولاند في جهود هادئة لإعادة صياغة الانخراط الفرنسي في أفريقيا، كما قررت العمل في إطار شراكة وثيقة مع الاتحاد الأفريقي. وهكذا يعتبر الكتاب أن التدخل في مالي كان له أثر مباشر في إعادة تشكيل السياقين الثقافي والسياسي للانخراط الفرنسي في أفريقيا، حيث غلّبت فرنسا اعتماد سياسة براجماتية حين اختارت الاستمرار في تقديم المساعدات لمالي رغم الانقلاب العسكري فيها عام 2012. أما في المجال الأمني فقامت بعمل ملحوظ حتى الآن، مع تغطية إعلامية كبيرة لعملية التدخل العسكري في مالي.
وكما يرى الكتاب، فقد نجح ذلك التدخل في تغيير الرأي العام الأفريقي وتصوراته للدور الذي يمكن أن تلعبه فرنسا في مثل هذه الأزمات. ومع ذلك فإن صانعي القرار في فرنسا مدركون تماماً أن بقاء هذا المزاج الإيجابي سيتوقف على مدى حصافة المساعي التي تبذلها باريس لتحقيق أجندتها الأوسع في المنطقة.
ثم ينتقل الكتاب لمناقشة «الموقف من القوى الأجنبية الجديدة المتوغلة في أفريقيا»، خاصة الصين والهند والبرازيل وتركيا، ويرى أن وصولها يمثل تحدّياً كبيراً للأهداف والمصالح القومية الفرنسية في القارة. فأفريقيا تمثل سوقاً تستقبل البضائع الفرنسية، وهي مصدر مهمّ للمواد الأولية والطاقية كالنفط والمعادن، خاصة اليورانيوم الذي يتوقف عليه إنتاج ربع الطاقة الكهربائية في فرنسا.
ولمواجهة هذا التحدي، عمدت فرنسا إلى محاولة ربط قنوات اتصال مع تلك القوى للتحاور بشأن القضايا المتصلة بالقارة الأفريقية، وسعت إلى إقناع الشريك الصيني بقبول معايير المساعدات التنموية التي تقدمها الدول الغربية؛ ومن ثمّ الوصول إلى درجة من الانسجام والتكامل. وبينما عملت حكومة ساركوزي على تعزيز المصالح الاقتصادية الفرنسية في أفريقيا بدعم جهود الشركات الفرنسية الكبرى، فإن حكومة أولاند لم تتراجع نحو حصر المساعدات في الدول ذات الأولوية، بالنظر إلى المصالح التجارية الفرنسية.
وأخيراً يعتبر الكتاب أن تجربة مالي تؤكد حقيقة أن دعم الدول الأفريقية ليس مجرد عمل مطلوب لدواعٍ أخلاقية وإنسانية، وإنما هو أيضاً إسهام ذكي وعقلاني لمصلحة أمن كل من فرنسا وأفريقيا، على حدّ سواء.
محمد ولد المنى
صحيفة الاتحاد الإماراتية
الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية
تاريخ النشر: 2013