بات واضحا أن واشنطن تخلت عن كل تحفظاتها السابقة ودخلت من الباب الواسع الى المشهد الليبي لتصبح الفاعل الرئيسي فيه ، وهي اليوم تتحرك بقوة لملء جميع الفراغات باستعراض قدراتها على تجاوز اخفاقات المجتمع الدولي في التصدي للنقاط الحسّاسة وذات التأثير البالغ في الأزمة المتفاقمة منذ عشر سنوات ، كما أنها سحبت جميع الوكالات التي كانت منحتها لأطراف أوروبية للتعامل مع الملف الليبي ، وشمّرت على سواعدها لتخوض بنفسها غمار المواجهة من أجل أن تحصل على حصة الأسد من إدارة الحل والاستفادة من نتائجه المنتظرة  إستراتيجيا واقتصاديا وسياسيا

وفي سابقة أولى من نوعها منذ تأسيسها ، عقدت اللجنة العسكرية الليبية المشتركة «5+5» اجتماعا وسط العاصمة طرابلس  ، برعاية واشنطن وبحضور قائد القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، الجنرال تاونسند في طرابلس والسفير الأمريكي الذي يتولى كذلك مهمة المبعوث الخاص الى ليبيا ريتشارد نورلاند ، وهو ما اعتبرته السفارة الأميركية «خطوة تاريخية في التقريب بين الليبيين، لا سيما في المجال الأمني»، مؤكدة إن «الولايات المتحدة ملتزمة بتسهيل التنفيذ الكامل لاتفاقية جنيف لوقف إطلاق النار، والانسحاب الكامل لجميع القوات الأجنبية والمقاتلين، فضلاً عن التوحيد الكامل للمؤسسات العسكرية الليبية ».

وتعود أهمية الاجتماع الى أن وفدا من القيادة العامة للجيش شارك فيه ، ليكون بذلك ممثلون للرجل القوي في المنطقة الشرقية المشير خليفة حفتر قد دخلوا طرابلس لأول مرة منذ سنوات ، بما يشير الى مستوى التقدم على الصعيد العسكري في بعده العملي الاحترافي المتجذر في روحية المؤسسة الوطنية الليبية ،حيث أن قيادات اللجنة هم من الضباط الذين كانوا ينشطون في الجيش الوطني قبل 2011

كما أن الحدث اختصر الكثير من المسافات في فهم طبيعة الدور الأمريكي المتصاعد في ليبيا ، فواشنطن تعود بقوة الى الدولة الخاضعة لأزمة طاحنة منذ عشرة أعوام ، وتقول بصوت عال أنها مصرّة على تنفيذ كافة بنود الاتفاق العسكري المبرم في الثالث والعشرين من أكتوبر 2020 والاتفاق السياسي المنبثق عن ملتقى الحوار السياسي المنعقد بتونس في نوفمبر الماضي ، وأنها تدعم اللجنة العسكرية المشتركة وتقف الى جانبها في مواجهة الساعين الى الحؤول دون مواصلتها العمل على تحقيق أهدافها المحددة سواء في اجتماع جنيف أو في لقاءات غدامس وسرت وصولا الى اجتماع طرابلس

و أكدت واشنطن إصرارها على تنظيم الانتخابات في موعدها المقرر للرابع والعشرين من ديسمبر القادم ، ومن لديه نية لوضع العراقيل فليتقدم لتنفيذ خطته ،وسيجد أمامه قانون « استقرار ليبيا » الذي أقرّه الكونغرس بأغلبية ساحقة في 28 سبتمبر 2021 والذي ينص على أن يتم فرض عقوبات على الممتلكات وحظر التأشيرات على الأشخاص الذين يساهمون في العنف في ليبيا، وعلى الطلب من الرئيس جو بايدن معاقبة من يقوم بأفعال تهدد السلام والاستقرار في ليبيا، وكل مسؤول أو متواطئ في انتهاكات حقوق الإنسان في ليبيا، أو سرق أصول الدولة الليبية أو مواردها الطبيعية ،

كما ينص على معاقبة من ينشر المرتزقة ويدعم الميليشيات وينتهك حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة وينتهك حقوق الإنسان في ليبيا، كما يدعو الولايات المتحدة إلى القيام بدور أكثر فاعلية في حل النزاع ودعم المساعدة الإنسانية والحكم الديمقراطي والمجتمع المدني والانتخابات المستقبلية؛ وتحسين الإدارة المالية للبنك المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط.

وأوضح نائب رئيس المجلس الرئاسي الأسبق لحكومة الوفاق، أحمد معيتيق، أن “ الكونغرس الأمريكي أكد دعمه لتحقيق الاستقرار في ليبيا بإقراره قانون الاستقرار” .، وأضاف: “جاءت حيثيات القرار لتأكد على إنجاح الاستحقاق الانتخابي في نهاية ديسمبر 2021 وتوحيد المؤسسات وإتمام المصالحة الوطنية” ،مشيرا الى أن “هذا القرار يمكن السلطات الأمريكية من ملاحقة الجهات المعرقلة لتحقيق الاستقرار”.

وقد أثبتت اللجنة العسكرية المشتركة التي يجتمع أعضاؤها العشرة تحت غطاء العسكرية الليبية العريقة بروح الفريق الواحد ، والتي استطاعت خلال الأشهر الماضية تحقيق خطوات مهمة على صعيد تنفيذ الاتفاق العسكري ، أنها قادرة على أن تكون في مستوى التحديات ، وهو ما جعل منها الجهة الأكثر جلبا لثقة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ولإحترام الولايات المتحدة التي طالما أشادت بدورها ، رغم ما يتعرض إليه أعضاؤها المحسوبون على المنطقة الغربية والمكلفون من قبل المجلس الرئاسي السابق ، من ضغوط عدة يمارسها عليهم المسؤولون السياسيون والعسكريون وأمراء الحرب غير المرتاحين لحلحلة الأزمة وتوحيد المؤسسات

ويرى رئيس ‏مؤسسة سلفيوم للدراسات والأبحاث‏ الليبية، جمال شلوف، إنه كلما اجتمع الضباط العسكريون الليبيون المحترفون، كان هناك اتفاق وتفاهم، بدءا من اتفاق القاهرة لتوحيد المؤسسة العسكرية مارس 2018، ووصولا إلى اتفاق جنيف لإعلان وقف إطلاق النار، أكتوبر 2020، وليس انتهاء اليوم باجتماع "5+5" في طرابلس لـ"تحديد جدول زمني لخروج القوات الاجنبية والمرتزقة من ليبيا".

ولا يخفي شلوف امتعاضه من عقد الاجتماع اليوم في قاعدة معيتيقة في العاصمة طرابلس "التي تسيطر عليها الميليشيات"، وبتأمين من قوات « أفريكوم » عكس الاجتماعات السابقة التي عقدت في مقر اللجنة الرئيسي في مدينة سرت، والتي كانت تؤمن عبر أفراد الجيش الوطني الليبي، لكن الأهم من ذلك هو النتائج المعلنة ولا سيما في ما يتصل بتحديد جدول زمني لإجلاء المقاتلين الأجانب عن البلاد ، كما أن خلال اجتماع طرابلس شهد تأكيدا من الجانب الأمريكي على أن بلاده ستضغط لتحقيق ذلك ، بل وأكد أن الجدول سيتم احترامه تحت مظلة الشرعية الدولية ووفق قرارات مجلس الأمن ومخرجات مؤتمري برلين 1 و2

لكن محللين ليبيين ، يرون أن الولايات المتحدة استطاعت كسر حاجز نفسي مهم ، برعايتها لأول إجماع للجنة العسكرية المشتركة وسط طرابلس ، وهو ما يمهّد لاجتماعات أخرى في مدن غرب البلاد الذي لا يزال تحت سيطرة ميلشيات مسلحة ، ويشير بوضوح الى أن واشنطن لا ترى بديلا عن الحوار بين الفرقاء ، وعن توحيد المؤسسة العسكرية ، كما أن موقفها من قيادة الجيش إيجابي ولا سيما في العلاقة بالحرب على الإرهاب ، وتأمين منابع الثروة ، رغم مؤاخذاتها عليه حول العلاقة بالروس والتي لا تختلف كثيرا عن مؤاخذاتها على سلطات طرابلس بالإصرار على الاإبقاء على القوات التركية ومرتزقتها

وقال عضو اللجنة العسكرية المشتركة “5+5″ عن قيادة الجيش، الفريق فرج الصوصاع أن اجتماع اللجنة في العاصمة طرابلس مع المسؤولين الأمريكيين كان إيجابياً.

وأضاف في تصريحات صحفية أن الاجتماع تطرق، بشكل مباشر، إلى سحب القوات الأجنبية والمرتزقة كافة، من الأراضي الليبية، والتأكيد على موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، نهاية العام ،مشيرا الى أن المبعوث الأمريكي أكد ضغط واشنطن لإخراج المرتزقة، مثمناً، في الوقت ذاته، دور القوات المسلحة في مكافحة الإرهاب والعصابات الإجرامية جنوبي البلاد.

وأعلن الصوصاع، أن المشير خليفة حفتر، أمر قبل تسليم مهامه، قائدا عاما للجيش، بسحب قوات عسكرية من مدينة سرت، كبادرة حسن نية لتعزيز الثقة والمضيّ قدما باتجاه حلحلة الإشكالات الأمنية كافة،

ورحبت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا باجتماع اللجنة العسكرية المشتركة 5 + 5 ، يوم الثلاثاء للمرة الأولى في العاصمة طرابلس ،وأكدت البعثة الأممية في تغريدة، عبر حسابها الرسمي على تويتر، أن “هذا الاجتماع يعد رسالة أخرى قوية من قبل اللجنة ومؤشراً على متانة الجهود المبذولة”.

ويشير المراقبون الى وجود تقدّم إيجابي على الصعيد الميداني ، فيما بيّنت المتحدثة باسم المجلس الرئاسي، نجوى وهيبة، أن ذلك قد تتبعه تحركات على الأرض، بشأن خروج ‏القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، معتبرة إن “الوجود العسكري ‏الأجنبي سواء كان عبر مقاتلين أجانب أو مرتزقة، أو أيا كان تصنيفهم ‏أمر مرفوض ويجب أن ينتهي عاجلا أو آجلا”.‏

ولا يستثني الاتفاق العسكري والجهود الأممية والموقف الأمريكي القوات التركية الموجودة في غرب ليبيا التي بات خروجها شرطا أساسيا لتوحيد المؤسسة العسكرية وتحقيق المصالحة الوطنية ، وقالت المتحدة باسم المجلس الرئاسي إن “الحديث يجري عن تقييدات قانونية، وليس أي ‏دوافع أخرى، بناء على مخرجات جنيف التي تمنع السلطات ‏الحالية من تجميد اتفاقيات طويلة الأمد أبرمتها السلطات من ‏قبل، فهذا أمر قانوني ولكن الإرادة السياسية تبحث خروج كل ‏القوات إذا وجدت آلية متوافق عليها، وهذه المشكلة ليست ‏مشكلة ليبية ولكن خطرها إقليمي”.‏

وأكدت أوساط ليبية في العاصمة طرابلس  أن الموقف الأمريكي حاصر تطلعات رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة لتمديد مهامه ، كما فرض عليه القبول بالجدول الزمني لإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة ، وأن كل محاولات تحويل إتجاه مواقف واشنطن باءت بالفشل ، فالمقاتلون الأجانب الذين تدعو واشنطن الى إخراجهم لا يستثنى منهم الأتراك كما يريد لوبي أنقرة في طرابلس ، وإنما «الولايات المتحدة ستستمر بالعمل على دعم التنفيذ الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار، بما في ذلك انسحاب جميع القوات الأجنبية والمقاتلين، وفقاً لرغبات الجمهور الليبي» كما ورد في بلاغ الأفريكوم

كما أوضحت السفارة الأميركية لدى ليبيا، أن رئيس الحكومة الليبية التقى بصفته وزيرا للدفاع، قائد القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، الجنرال تاونسند في طرابلس ، وأن اللقاء تطرق إلى مناقشة التطورات الأمنية في ليبيا، و«كيف ستكون الانتخابات المقررة في 24 ديسمبر خطوة مهمة نحو استقرار ليبيا على المدى الطويل، في ظل حكومة وطنية منتخبة، واستقرار إقليمي من دون تدخل أجنبي».

وقد وجد الدبيبة أنه من الضروري مسايرة ضغوط واشنطن من خلال إشارته الى أن السلطات الأمريكية سوف تلاحق جميع الجهات التي تعرقل “استقرار ليبيا” ، وقال على حسابه الرسمي بموقع « تويتر » إن « الكونغرس الأمريكي أكد دعمه لتحقيق الاستقرار في ليبيا بإقراره قانون الاستقرار الذي يمكن السلطات الأمريكية من ملاحقة الجهات المعرقلة لتحقيق الاستقرار في ليبيا”.

وينظر الشارع الليبي الى الموقف الأمريكي المستجد بأنه يشير الى إمساك واشنطن بخيوط اللعبة في ليبيا بعد أن كانت شبه مكتفية بمنح وكالة للاتحاد الأوروبي وبخاصة للطرفين الإيطالي والألماني ،وهو ما فرضتها عليها التحولات في المنطقة ككل ، ولاسيما في ظل الصراع المعلن عن مراكز النفوذ في منطقة الساحل والصحراء بعد ثبوت رغبة روسيا في تحقيق مواقع تقدم عجز الأوروبيون عن عرقلتها