نزح أكثر من حزب سياسي تونسي نحو منطقة «الوسط» مبتعدا عن الانجذاب التاريخي الى اليمين المتطرف أو اليسار الراديكالي. وتخلت معظم الأحزاب التي كانت ترزح تحت ضغط الأيديولوجيات  تدريجيا عن عباءة الانتماءات السياسية استعدادا لمعركة الحكم المقبلة. ولا تكاد تمر فترة من الفترة دون ان نسمع عن تفصي أحدا لأحزاب السياسية من ماضيه «المتطرف» يمينا أو يسارا. ولنا في اختصار بعض الاحزاب السياسية لأسمائها ونزع عبارة «اليساري أو الشيوعي» أكثر من دليل على معركة «الوسطية» والاعتدال التي يبدو ان المدخل الحقيقي الى الناخبين التونسيين خلال الحقبة المقبلة. ولعل معظم تلك الأحزاب قد نفضت أياديها من الايديولوجيا الفضفاضة في اتجاه شعار «هذا ما يريده الناخب التونسي»، فبعد أكثر من ثلاث سنوات من التجارب السياسية المختلفة، آمنت معظم الأحزاب بضرورة التخلي عن الشعارات وحاولت طمس معالم التشدد من تاريخها النضالي.
   فحركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية على سبيل المثال لم تعد تذكر مواجهاتها مع النظام السابق ولجوءها الى «أساليب العنف والقوة» في معركتها للوصول الى الحكم. وتسعى في كل مناسبة وعبر تصريحات قياداتها السياسية وعلى رأسهم الشيخ راشد الغنوشي رئيس الحركة الى إظهار اقترابها الى حد الانصهار ضمن فريق الوسطيين.
     كما أن أحزابا سياسية أخرى على غرار الحزب الاشتراكي اليساري الذي يتزعمه محمد الكيلاني تخلى من خلال مؤسساته السياسية عن تسمية «اليساري» ويرى مراقبون تحدثت إليهم «الصحافة اليوم» ان قيادات هذا الحزب قد تفهمت أخيرا حجم التحدي الذي ينتظرها مع الناخب التونسي الذي تربى في تربة مختلفة تماما عن تربة اليسار السياسي التي تبقى اختيارا نخبويا تمثله طبقة اجتماعية محدودة. أما إذا نزلت الأحزاب السياسية الى عمق تونس فإنها مطالبة بمخاطبة التونسيين بلهجة مغايرة بعيدا عن لغة النضال السياسي.
       وفي نفس الاتجاه تخلى حزب العمال الشيوعي التونسي الذي تأسس  يوم 3 جانفي من سنة 1986 عن عبارة«الشيوعي» وبات يحمل اسم «حزب العمال التونسي»  ويقوده حمة الهمامي. وهذا الحزب بقي ينشط في إطار السرية ولم يظهر للعلن إلا بعد ثورة 2011 واصطدم بسرعة بالواقع السياسي المختلف وتخلى عن جزء كبير من شعاراته الأيديولوجية، ومنع في انتخابات أكتوبر2011 من عقد بعض اجتماعاته في بعض الأحياء والمناطق الشعبية المعروفة بموالاتها للتيارات الإسلامية.  ولم يعد التونسيون يسمعون نفس شعارات القرن الماضي على غرار محاربة الامبريالية واستعمال الكفاح المسلح لإزاحة الطبقة البورجوازية من الحكم.
       وأمر التخلي عن التشدد والتطرف مس كذلك التيارات الإسلامية، فحزب التحرير الذي يعتبر الدخول لعالم السياسة «سقوطا أخلاقيا»، باتت قياداته تتحدث عن المشاركة في الانتخابات وضرورة الالتزام بنتائجها. كما أن التيارات السلفية في رحلة بحثها عن الاعتدال، دعت الى التفرقة بين السلفيين الجهاديين الذين يبيحون اللجوء الى السلاح في تغيير المجتمع، والسلفيين العلميين الذين ينادون الى إصلاح المجتمع بالحجة والكلمة الطيبة.
اتجاه واحد..
لأكثر من طرف سياسي
    وتشير كل الدلائل الى تغييرات جذرية طرأت الى حد الآن وستطرأ لاحقا على الخارطة السياسية خلال الفترة المقبلة. إذ أن أمر الاعتدال والوسطية مس كذلك الأحزاب الدستورية وريثة عهدي الرئيسين التونسيين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، فبعد أن كان الحزب الاشتراكي الدستوري في نظام بورقيبة والتجمع الدستوري المنحل في نظام بن علي، في حرب لا تضع أوزارها مع التيارات الإسلامية والاتجاهات اليسارية ومحاولة ضرب طرف منهما بتقوية الطرف الآخر وربطها تحالفات ظرفية مع القيادات اليسارية لإضعاف الإسلاميين، وإعلانها الحرب على طرف سياسي بعد الآخر ومواجهة شراهتها في الوصول الى الحكم، فإنها اليوم باتت تتحدث عن إمكانية ربط تحالفات سياسية مع أعداء الأمس من إسلاميين وعلمانيين وأحزاب يسارية.
    وبرزت للعيان محاولات الاستقطاب الثنائي بين حركة النهضة(مرجعية إسلامية) وحركة نداء تونس(مرجعية ليبرالية دستورية) وصار يثير مخاوف الاحزاب السياسية الأخرى  على خلفية إمكانية تقاسم الحكم بعد الانتخابات المقبلة  التي باتت مطروحة بقوة  على مستوى نقاشات الساحة السياسية التونسية.
     وتطرح عدة أسئلة حول هذا النزوح الجماعي الى الوسط فهل أن وراء هذا الاختيار دواعي انتخابية بالأساس أم أن الأمر فرضته التغييرات السياسية والاجتماعية التي عرفتها تونس بعد الثورة. في هذا الصدد يمكن القول ان عدة احزاب سياسية باتت على بينة من التوجه السياسي لحركة النهضة التي خففت من وتيرة تشددها وتمسكها بعدة ثوابت على غرار «الشريعة كمصدر وحيد  للتشريع» وتخليها عن الحكم لصالح تونس كما سوقت للأمر بين قواعدها الغاضبة.  وهذا الطرح الجديد سيسحب البساط من تحت أقدام عدة أحزاب روجت للوسطية والاعتدال وهاجمت حركة النهضة واتهمتها بالتطرف والانغلاق.
     وتجري في الوقت الحاضر مشاورات حثيثة بين مكونات عدة تحالفات سياسية حول محاصرة التيارات الإسلامية وإبعادها عن منطقة الوسط التي قد تكون طريقا سريعة للوصول الى الحكم. بل أن عديد المراقبين للمشهد السياسي يرون أن «معركة الوسط» ستكون البوابة الحقيقية للحكم في تونس في المستقبل القريب.
     وتسوّق اليوم كل الأحزاب الى أن الوسطية تعني الالتزام بمبادئ «المدنية والديمقراطية والحداثة» وكل من لا يقبل بهذه المبادئ لن يكون له مكان لدى القاعدة الانتخابية التونسية.
     ونتيجة لهذه الضغوط المسلطة على القيادات السياسية، فقد ولدت خلال الفترة الماضية عدة أحزاب سياسية وتحالفات حزبية أعلنت عن انتمائها المسبق لأحزاب الوسط. فالحزب الجمهوري الذي يتزعمه أحمد نجيب الشابي عرف النور اثر اندماج عدد من التيارات الوسطية وهو مكون من  «الحزب الديمقراطي التقدمي » و«حزب آفاق تونس» و«حزب الإرادة»، و«حزب الكرامة»، و«حركة بلادي»، و«حزب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية»، والعديد من الأقليات السياسية والمستقلين. ولكن بعض مكوناته لم تصمد طويلا وسرعان ما غادرته بعض الأحزاب على غرار حزب «آفاق تونس» لاكتشافها بعده عن منطقة الوسط. كما أن حزب التحالف الديمقراطي الذي يتزعمه اليوم محمد الحامدي تفرع من الحزب الديمقراطي التقدمي وقد بنى استراتيجيته الجديدة على الوسطية حتى أنه خوفا من اتهامه بالتشدد، لم يتمكن من حسم أمر اختيار رئيس الحكومة عند احتدام المنافسة بين الحكومة والمعارضة نهاية السنة الماضية ووافق على مرشحين في نفس الوقت.
     ويجري حديث كثير داخل حركة نداء تونس التي يتزعمها الباجي قائد السبسي عن الخليط السياسي الذي يكونها فهي تجمع في صلبها تيارات فكرية مختلفة على غرار اليسار واليمين في نفس الفضاء وتقول قياداتها إنها مثال جيد على التعايش السياسي وعلى اختيار الوسطية لاتخاذ المواقف السياسية بعيدا عن الخلفيات السياسية.
     وكسبت تيارات داخل حركة النهضة على سبيل المثال تعاطف الكثير من الفئات الاجتماعية التونسية لنزوعها الى منطقة الوسط بل ان البعض من خصومها اثنوا عليها خلال ردهات الحوار الوطني وتخليها الطوعي عن الحكم رغم حصولها على أغلبية  الأصوات في انتخابات 2011. وأسكتت الحركة الأصوات التي كانت تعرف بالتشدد داخلها وطبقت ضدها نظاما ديمقراطيا صارما يمر عبر مجلس الشورى المعروف بمواقفه المعتدلة.
المنطقة الآمنة
        وتشكك أطراف سياسية أخرى في منطقة الوسط من أصلها وترى أن الأمر لا يعدو أن يكون تكتيكا سياسيا للعبور الى سدة الحكم ومن ثم السيطرة على دواليب الدولة وإدارتها بيد من حديد قد تعيد البلاد الى سنوات الظلم والدكتاتورية. وتخوف من إمكانيات الردة السياسية لدى الكثير من الاحزاب السياسية التي غيرت مواقفها في نطاق حسابات مرحلية لا غير.
    ومهما يكن من أمر، فان الواقع السياسي التونسي بات متحركا أكثر من اللزوم ولا يرى الكثير من المراقبين للأحداث ممن تحدثت لهم «الشرق الأوسط» أن تلك الأحزاب ستلتزم بالوسطية بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمع إجراؤها قبل نهاية السنة الحالية، بل أن الكثير منها سيعيد قراءة حسابات الربح والخسارة بعد تلك الانتخابات كما فعلت بعض الأحزاب اثر نتائج انتخابات 2011.
    وتضم قائمة الأحزاب السياسية «الوسطية» أكبر الأحزاب السياسية الفاعلة في المشهد التونسي، وإذا لاحظنا أن حركة النهضة وحركة نداء تونس المنافسان الرئيسيان على الحكم حسب احدث استطلاعات الرأي، نتأكد أن منطقة الوسط ستغري المزيد من الاحزاب خلال الفترة المقبلة. فحزب التكتل الديمقراطي من اجل العمل والحريات الذي يتزعمه مصطفى بن جعفر الرئيس الحالي للمجلس الوطني التأسيسي مصنف ضمن الاحزاب الوسطية ونفس الشيء بالنسبة للتحالف الديمقراطي(محمد الحامدي أمينه العام) والحزب الجمهوري بقيادة مية الجريبي، والحزب الاشتراكي(محمد الكيلاني)وحزب العمل الوطني الديمقراطي(عبد الرزاق الكيلاني) وحزب المسار الديمقراطي الاجتماعي(احمد إبراهيم) وحزب الأمان(الأزهر بالي) وحزب آفاق تونس(ياسين إبراهيم).
   وكل هذه الأحزاب الى جانب حركة النهضة وحركة نداء تونس تصنف نفسها ضمن الاحزاب الوسطية ولا تأبه كثيرا لاتهامها بالازدواجية في الخطاب أو التواري ضمن منطقة الوسط خلال هذه الفترة كموضة سياسية قد تكون الممر الرئيسي للوصول الى الحكم.
 وتذهب معظم التحاليل السياسية الى أن منطقة الوسط والالتزام بمبادئها ستكون الفيصل بين الاحزاب السياسية خلال الانتخابات المقبلة وان المستقبل يلعب لصالح تلك الاحزاب  ولصالح القيادات الحزبية التي تقود أحزابها الى تلك المنطقة التي يعتقد أنها «آمنة».

*نقلا عن جريدة "الصحافة" التونسية