مع بداية الحرب الروسية على أوكرانيا التي شغلت العالم هذه الأيام، كان المتابعون أمام مشهدين إعلاميين؛ مشهد استعراضي للقوة والحدّة في رسالة للعالم أنا "العظمة" الروسية عائدة ولا اعتبار للآخرين أمام خياراتها، ومشهد آخر للمظلومية والاستعطاف، في رسالة للعالم أن منطق الاضطهاد عاد وإهانة "المعسكر" الغربي أصبحت أمرا واقعا. وفي المشهدين هناك صناعة، كل طرف يحاول توظيفها لصالحه باعتبارها جزءا من الحرب، بل ليكون الإعلام محددا ضمن السياسة العامة للبلدين اللذين فرضا شروطا وحددا الخطوط التي يجب أن تتبعها المؤسسات في كل بلد.

استحضار معركة الإعلام في الحرب الروسية الأوكرانية، قد يكون بعيدا قليلا عن الموضوع الأساس الذي نطرحه، لكن في الأخير هو تعبيرة مهمة عن قيمة الإعلام في سياسات الدول الحديثة، حتى البعيدة عن الحروب لكنها قريبة في سياسة التقييد، بل ورائدة في التضييق الإعلامي، والمغرب العربي ليس بعيدا عن تلك الحالات، بسبب التحديات الكبيرة التي تواجه إعلامييه، والتأخر الكبير الذي تعيشه وسائل إعلامه.

والمتابع لما يعيشه المشهد الإعلامي المغاربي في سنواته الأخيرة، سيكتشف فروقات كبيرة بالتأكيد، لكنه سيصل إلى نتيجة ثابتة أن الوضع معقّد إلى أبعد الحدود في كل الدول إما لأسباب سياسية تتعلق بنظم الحكم، أو لأسباب أمنية عبر تهديدات الإرهاب، أو لأسباب مالية في علاقة بأصحاب المال الذين يسيرون الخطوط التحريرية على أهوائهم بل ودون أن يأخذ الصحفي أو الإعلام ما يستحقه نظير أعماله.

وفي آخر تطورات حالة الإعلام في المغرب العربي، ما أقدمت عليه قوات الأمن التونسية عندما قامت بإيقاف أحد المراسلين الإذاعيين في محافظة القيروان وسط البلاد، على ذمة التحقيق بعد نشره خبرا عن مجموعة إرهابية في محافظة القيروان وسط البلاد، ما خلف دود فعل محلية رافضة للأمر وتحذيرات من أهم مكسب ربحته تونس بعد 2011، وهو حرية الإعلام.

التحذيرات جاءت من النقابة الوطنية للصحفيين، التي اعتبرت عملية الإيقاف انتهاكا لحق الصحفي "في سرية المصادر الذي يعتبر جوهر العمل الصحفي إذ بدونه لن يتمكن الصحفي من الحصول على المعلومات المهمة ذات الصلة بالشأن العام نظرا لعدم قدرته على حماية مصادره". مشيرة إلى أنها مستعدّة لدعم كل"التحركات الممكنة دفاعا عن حرية التعبير والصحافة كأهم مكسب لثورة التونسيين، والعمل ... على مواجهة كل من يريد التضييق والالتفاف عليها تحت أي مبررات كانت".

ونبهت النقابة أن هذه التضييقات تتعارض مع الخطاب الرسمي، الذي يؤكد ضمانه لحرية التعبير والإعلام، التي أصبحت مهددة بشكل جدّي، وفرضت بيانات متكررة تطالب السلطة باتخاذ تدابير حمائية. فالرئيس التونسي قيس سعيّد وفي كل خطاب يلقيه بعد 25 يوليو 2021، يؤكّد أن الحريات مضمونة وأن كل ما يروج هو إشاعات من أطراف معارضة لسياسته، وهذا ما تنفيه النقابة التي كانت مستهدفة هي بدورها على كامل سنوات ما بعد 2011.

أما ليبيا، فقدرها في سنواتها الأخيرة أن تعيش ما يشبه الانفلات ضمن نظام "القطبين" وما تحدده الانقسامات الحاصلة على المستوى السياسي. فالعارف بالشأن الليبي يدرك أن وسائل الإعلام في غالبها تتجه نحو أحد مسارين عندما يكون الانقسام ثنائيا وهذا كان واضحا بين 2014 و2020، ثم هدأت الأمور نسبيا بعد وقف إطلاق النار والذهاب إلى حكومة وحدة وطنية، اعتقادا أن البلاد تسير بمنطق جامع نحو انتخابات عامة تنهي سنوات الصراع، لكن يبدو أن كابوس الانقسام السياسي عاد إلى الواجهة وعاد معه الانقسام الإعلامي، حيث بدأت بعض وسائل الإعلام الليبية في الاصطفاف إلى جانب إما حكومة الدبيبة وهنا تبرز خصوصا منصة "حكومتنا" التي يعرف الليبيون أنها ناطقا رسميا باسم حكومة الوحدة، أو إلى جانب حكومة باشاغا الجديدة، التي بدورها لها أصواتها الإعلامية التي تدافع عنها وتمرر لها رسائلها.

كما أن هناك إشكالا قديما ومستمرا في ليبيا، هو وجود بعض المنصات التي تفتح أبوابها للأصوات المتطرفة، التي لم تعتبر من التغيرات الكبرى التي تعيشها المنطقة وما زالت إلى اليوم تستغل وجودها خارج الأراضي الليبية لتكفير الليبيين وبث الفتنة بينهم ضمن خطة إقليمية لمزيد "تثوير" المجتمع.

في المغرب حالة خاصة نسبيا، البلد الذي اختار الاستقرار السياسي عبر التوافقات المرحلية منذ أكثر من عشريتين، كان إعلامه مسايرا لذلك الواقع ومن الصعب أن تمثل بعض الأقلام أو الأصوات مهما كانت مواقفها السياسية منتقدة، إشكالا كبيرا للسلطة. لكن هناك نوعا من التوجيه غير المعلن في علاقة بأزمة الصحراء أو العلاقة مع الجزائر التي تكون للسلطة دائما الرقابة عليها، باعتبارها بالنسبة إلى الرباط مسألة أمن قومي ولا مجال فيها لحرية التعبير.

كما أن التحولات السياسية الكبرى التي عاشتها المنطقة المغاربية لم تكن ذات تأثير كبير في بلد مثل المغرب بالنظر إلى الاعتبارات التي ذكرت سابقا. وحتى التغيير الحكومي بعد سقوط الإسلاميين لم يفرز تطورا لافتا في مستوى التعاطي الإعلامي مع بعض القضايا وبقيت الصورة مشابهة إلا فيما يخص انتشار نوع من الإعلام الجديد المركز على الاستهلاك والذي تسعى النقابة المغربية التنبيه إليه بسبب التأثيرات التي يمكن أن يحدثها في مستوى البناء المجتمع وسلوكيات الأجيال الجديدة.

في الجزائر، الصورة الخارجية تقدّم لنا كما هائلا من وسائل الإعلامية مرئيّها ومسموعها ومكتوبها، لكن لا يبدو أن لذلك تأثيرا على صورة البلاد في مستوى حرية الإعلام، أو في مستوى تقديم مادة إعلامية، تليق بحجم بلد يبدو أنه يحتاج إلى عملية إصلاح كاملة يتم تسخير الإمكانيات فيها نحو تطوير المهنة وتشجيع أصحابها.

أما موريتانيا فمن المنطقي أن يكون التوازن السياسي النسبي فيه وعدم دخول إعلامه في معارك داخلية وخارجية بشكل الواضح، سببين في عدم تقييمه إلى في مستوى الإمكانيات التي تبدو ضعيفة وليست في مستوى ما بلغته دول بنفس إمكانيات الشوط، لكن كانت لها إرادة الإصلاح.

خلاصة القول أن الإعلام المغاربي مازال بعيدا عن قيمة الإعلام في معناه الاحترافي. أغلب دول المغرب العربي لا تملك إمكانيات إصلاح كبرى وواقعية، وساسة الدول ونظمها عادة ما يتحكمون في الخطوط التحريرية بشكل أشبه بالتوجيهي أكثر منها إنجاز مادة صحفية، وهذه الإشكاليات تحتاج إلى مؤسسات مؤثرة وأصوات شجاعة قادرة على فرض التغيير عبر حلول وتحركات ناجعة.