في تاريخ الحركات الجهادية دعوة ودعاية واستقطاب. وفي تاريخها أيضا عنف انتشرت دماؤه في العالم كتعبيرة عن جنون بشري لا يرتاح إلا بقطع الرقاب وبث الرعب في نفوس المختلفين معه. هي مجموعات تتلذذ بالقتل وتعتبره هواية مغرية لا ينافسها فيه أحد. الواقع أن التاريخ يقدّم لنا أمثلة عن هذه الجماعات والسنوات الأخيرة خاصة في المنطقة العربيّة قدّمت لنا الصورة الواضحة عن هذا الخطر الذي اخترق دولا بأملها وتسبب في انهيار جزء من بناها التحتية. لكن المخفي في أنشطة هذه التيارات هي قوى دعمها ومراكز تدريبها حيث أظهرت التحولات التي شهدتها بعض الدول في العشرية الأخيرة أن بعض المناطق كانت مراكز للتجنيد والتدريب من بينها ليبيا التي كانت المجال الأرحب للاستقطاب والتسفير نحو أكثر من منطقة.
بالعودة إلى سنوات "الربيع العربي" العشر الأخيرة، يمكن استرجاع النشاط الجديد للحالة الجهادية. من تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى سوريا والعراق بدأت تصعد إلى الواجهة عناوين جديدة وأكثر توحّشا استغلّت الفراغ الأمني وتراخي الدول أو انهيارها لتوسّع من نشاطها ومجالات استيعابها للألاف من الشباب العربي الذي ساهمت أوضاعه الاجتماعية وفراغه الفكري في سهولة جره نحو هذه التيارات العنيفة باعتبارها تلعب على الجانب الغرائزي والعاطفي مما يجعل الأمر أسهل بالنسبة إليه.
في ليبيا وسوريا، الحالة خاصة، البلَدان الأكثر تضررات من موجة "الربيع العربي"، كانا أيضا الأكثر استقطابا ونشاطا للجماعات المتطرّفة. التشكيلات فيهما تفرّعت في تسمياتها واختلفت حد التقاتل في بعض الفترات لكنها كانت تشترك في هدف واحد وواضح وهو ضرب الدولتين في مفاصلهما حيث مُورست فيهما أبشع الجرائم وتأسست إمارات قائمة بـأمير مؤمنين موحد تمركز في العراق وبولاة يشرفون على تسيير الأمور في ولاياتهم.
أنشطة تلك المجموعات كانت عن طريق عمليات التدريب التي بدأت أولا في ليبيا التي انطلقت فيها عمليات التجنيد من دول الجوار المغاربي حيث نجحت التنظيمات في تكوين زعامات من ليبيا وتونس كانت لها أدوار كبيرة في نشر الفكر العنيف في صفوف الآلاف من الشباب المأخوذ وقتها بشعارات الدولة الاسلامية الحالمة بتوحيد المسلمين وبقيادتهم بحد السيف تحت أمير جالس في الموصل يأمر بقطع الرقاب تحت حجج الكفر والردّة وغيرها من أفكار الرافضة لكل اختلاف.
بداية النشاط الجهادي في ليبيا كانت مع انفلات الأوضاع في فبراير 2011. في تلك الفترة أعاد الوضع الإقليمي ذلك النشاط عبر خلايا ليبية وتونسية حاولت استغلال الأوضاع لتكوين خلايا تتمركز في ليبيا من أجل ضمان موقع لها في الخارطة الجديدة. الظروف وقتها مازالت لا تسمح بظهور فكرة الخلافة التي تبلورت لاحقا وتكون ليبيا أحد فروعها. تزامن إسقاط العقيد القذافي مع وضع منفلت أيضا في سوريا. المعركة كانت على أشدها بين الجيش السوري و"معارضيه" المنشقين من الجيش والمدعومين بقوة من تركيا وقوى إقليمية أخرى. التسويق وقتها كان يوحي بتفكك تدريجي للنظام لكن مع تقدّم المعارك بدأت تتوضح الصورة بأن من سمّوا معارضة ما هم في الحقيقة إلا مجندون جهاديون يحملون أفكارا عنيفة تستهدف كل مقومات الدولة السورية من جيش ومؤسسات. في ذلك الوقت كانت هناك عملية شحن قويّة من وسائل إعلام ضد النظام السوري بشكل أقرب إلى الدعاية لتلك الجماعات.
مع تطور المعارك في سوريا كانت الأخبار إلى مراكز تدريب للإرهابيين في ليبيا. جزء من أولئك الإرهابيين بقي ينشط في ليبيا خاصة مع بداية ظهور شعارات جديدة ترفع لواء الإسلام وتكفر كل من لا يؤمن بتلك الشعارات بحجة الردة والعلمانية وغيرها من التهم التي تجعل من صاحبها في الغالب تحت مقصلة "قضائهم الشرعي". أما الجزء الآخر فقد تم إرساله إلى سوريا في عملية تجنيد كبيرة ساهمت فيها حتى بعد الدول وقد تواصلت عمليات التسفير لأشهر طويلة لتتحول بعد ذلك نحو مدينة الموصل العراقية التي أصبحت في مراحل لاحقة إلى مركز القيادة وعبرها أعلنت دولة الخلافة وأعلن أبو بكر البغدادي خليفة لها يعيّن ولاّته ويصدر لهم فتاويه وأوامره في المناطق الموجودين فيها.
كانت ليبيا إذن في فترة 2011-2012 مركزا رئيسيا لتدريب الإرهابيين وهي البوابة التي تستقطب الشباب من دول الطوق العربي والإفريقي، ومن خلالها يتم إرسال المقاتلين إلى سوريا والعراق وقد كان لهم دور كبير في إضعاف مقدرات الدولتين اللتين احتُلت منهما مساحات واسعة وأصبحت مناطق بأكملها تحت سيطرتهم بتوجيهات من قادة محليين عارفين بطبيعة وجغرافية المنطقة. تلك السيطرة تزامنت مع الإعلان الرسمي عن تنظيم داعش الذي انتشرت عناصره بأكثر من بلد من بينه ليبيا التي سيطر على مجالات واسعة منها.
في تقرير نشرته صحيفة العرب اللندنيّة تمت إلى الإشارة إلى أنه بعد ظهور "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا تحولت طرابلس التي كانت تحت سيطرة سلطة مدعومة من جماعة الإخوان وجماعات متطرفة أخرى، إلى قاعدة خلفية لاستقطاب المتشددين دينيا وتجنيدهم، ومنها بدأت عمليات تسفير هؤلاء وعددهم بالآلاف إلى بؤر التوتر وكانت تركيا مركز العبور الأساسي للساحتين السورية والعراقية على مرأى ومسمع من السلطات التركية وبتسهيل منها". بمعنى أن تحركات أولئك الإرهابيين كانت تتم أمام أعين الأتراك رغم محاولاتهم المتكررة نفي ذلك.
وعلى الرغم من نجاح الجيش السوري وحلفائه في دحر خطر تلك المجموعات تدريجيا إلا أن بعض المناطق بقيت مجالا لتحركات عناصرها، كما أن الكثيرين من مقاتلي داعش دخلوا إلى تركيا وبقوا تحت رقابة السلطات التركية التي ثبت خلال السنوات العشر الماضية أنها تحتفظ معهم بعلاقة تجعلها تتحكم في تحركاتهم وهذا ما ظهر في الفترة الأخيرة حين دخل الأتراك بشكل واضح في عملية إسناد حكومة الوفاق في معركتها ضد الجيش الليبي في طرابلس حيث أشارت تقارير كثيرة إلى أن تركيا جهزت المئات من الجهاديين السوريين لنقلهم إلى ليبيا بل إن البعض منهم قد أرسل فعلا إلى ليبيا حيث أظهرت بعض الأشرطة المصورة توجه العشرات منهم إلى طرابلس.
وذكر موقع اليوم السابع المصري نقلا عن المرصد السوري لحقوق الإنسان أن "عدد المقاتلين الذين وصلوا إلى العاصمة الليبية طرابلس إلى نهاية ديسمبر بلغ 300 شخص، في حين أن عدد المجندين الذي وصلوا المعسكرات التركية لتلقي التدريب بلغ ما بين 900 و1000 مجند". كما أن الصور والفيديوهات التي تم تداولها تظهر سفر العشرات من المجنّدين من جنسيات مختلفة نحو طرابلس.
وأشار المرصد السوري في السياق ذاته إلى أن تركيا وعدت أولئك الإرهابيين برواتب "تتراوح ما بين 2000 و2500 دولار للشخص الواحد بعقود مدتها 3 أو 6 أشهر مقابل التوجه إلى طرابلس في ليبيا، وكلما طالت المدة كلما زاد الراتب الذي يتلقاه المقاتل"، وهذه التطورات بالقدر الذي يبيّن خطورة الأوضاع التي يمكن أن يتسببها التصرّف التركي، بقدر ما هي رد على حكومة الوفاق التي تتهم الجيش الليبي بالاعتماد على مرتزقة أجانب في حرب طرابلس.
الحديث عن الإرهاب في ليبيا، هو حديث عن ظاهرة انتشرت من لحظة حرب 2011. ربما هي ليست الاستثناء في ذلك، لكنها بالتأكيد من الدول الأكثر تضررا منه. فخلال سنوات الأزمة كانت الخارطة الليبية مجالا مريحا لتحرك التنظيمات الإرهابية مستغلة الأرضية الخصبة التي تركها الفراغ الأمني. الإشكال أن تلك المجموعات المتشددة وجدت في دول إقليمية مثل تركيا سندا يخفف عنها ضغط القوى التي تحاربها ما جعل بعض المراقبين ينبهون إلى أن السياسات التركية قد تقضي على الجهود التي بذلت في القضاء على داعش وتعيده إلى الواجهة من جديد عبر البوابة الليبية.