في هذا الحوار الحصري، الشامل والصريح للوزير المغربي الأسبق للثقافة، الشاعر والروائي محمد الأشعري. تدخل "بوابة إفريقيا الإخبارية" إلى أكثر هواجس المثقف المغاربي وظلمة وحميمية، إلى ذلك المكان المسمى "القلب" الموصوف بـ"الصدق" والصفاء.

يتحدث محمد الأشعري بشكل حصري عن آخر أعماله الروائية التي ستصدر مع الدخول الأدبي قريبا، أول عمل سردي بعد رائعته "القوس والفراشة" الفائزة بالجائزة العالمية للرواية المعروفة بالبوكر العربية. يحدث عن مخاوف الشاعر المغامر في بحر الرواية، عن هاجس الاتحاد المغاربي المغيب والحاضر في آن واحد. والأهم يخوض بصراحة المثقف النقدي والسياسي المحنك عن العلاقة بين الجزائر والمغرب وكيف يمكن للمثقف أن يطرح الحل الملائم لشعبين تفصلهما حدود مغلقة كجدار برلين، من دون أن يفوت الفرصة لإبداء رأيه في الشأن الليبي والمالي وخطرهما على استقرار منطقة المغرب العربي..

 

 

بوابة إفريقيا الإخبارية:  انتهيت مؤخراً من رواية جديدة، أعرف أنك اشتغلت عليها منذ سنوات، هل تخصنا بخبر حصري عنها؟

محمد الأشعري: بدأت العمل على روايتي الجديدة "علبة الأسماء" -التي ستصدر قريباً- في خريف سنة 2010، ووقتها كنت ميالاً إلى العودة إلى أجواء "القوس والفراشة" لأتتبع مسار جيل أخرج رأسه بعد غرق طويل في لجة النضال من أجل الديمقراطية ، ليجد نفسه في مواجهة استبداد مزدوج: استبداد السلطة السياسية واستبداد الشارع الإسلامي، لكنني سرعان ما انتبهت وأنا في أول المشروع إلى أهمية التركيز على فترة مفصلية في هذه التجربة أواسط الثمانينات من القرن الماضي، عندما بدأ المغرب يفقد رمزيا ومادياً أندلسيته المتمثلة في نوع من جذل الحياة وخفتها، تحت وطأة الاختناق الاقتصادي، وعودة التقليدية وهيمنتها على المجتمع، في تزامن مع ظهور العلامات الأولى لانهيار عهد قديم لا يريد التفريط في ذرة واحدة من سطوته وشراسته. هكذا انغمرت في أجواء المدينة القديمة بالرباط، المتأرجحة دوماً بين الواقع والأسطورة، مدينة تشبه كتاباً مغلقاً، نقلب صفحاته لنقرأ تحولاتنا ومصائرنا بين السطور، من خلال مدينة تجيء ومدينة تندثر، وضمن المدينة انغمرت في أجواء علبة أخرى هي سجن لعلو التاريخي الذي كان يعرف في تلك الفترة أيضاً نهاية عهده كقلعة قاهرة، وقد شكلت أسوار السجن وأساطيره بالنسبة لي مجالا حيوياً للعب والتذكر والسخرية من كل تلك الجدران التي لا يتصور مشيدوها أنها ستسقط يوماً لا محالة، وأن أشياء كثيرة ستسقط معها. لكن كما يحدث دائماً أثناء كتابة الرواية، فإن الكتابة لها منطقها وسحرها ومكرها الذي يقودك طوعاً أو كرهاً إلى مجاهل لم تكن لتتوقعها.

 

بوابة إفريقيا الإخبارية:  الانتقال من الشعر إلى السرد والعكس، يعتبر تحدياً حقيقياً وقلما يكلل بالنجاح. محمد الأشعري خاض هذه التجربة بكل سلاسة ونجاح منقطع النظير، هل ثمة من سبب معين؟

 

محمد الأشعري: هناك فكرة مسبقة عن هذا الانتقال، تتصور أن الكاتب عندما ينتقل إلى الكتابة في جنس جديد، فإنه ينقل معه أثقال الجنس القديم وأدواته وأمتعته البلاغية والأسلوبية، والواقع أن الجنس الأدبي الذي نكتب فيه له منطقه الخاص  و"تاريخيته" ، وهو لا يفرق بين من يكتب فيه مواضبا رسمياً أو زائراً أو عابراً أو لاجئاً، وعندما نقرأ رواية ما، فإن ما يهمنا ليس بالأساس مسار الكاتب الإبداعي بل مسار الكتابة في النص الذي نقرأ، من البديهي أن يغتني النص بتجربة الكاتب في مجالات أدبية وفنية أخرى، وبتجربته في القراءة وفي الحياة، ولكن سؤال الرواية هو سؤال الرواية، لا نستعيض عنه بالعناصر الوافدة من تلاقح الأجناس والتجارب، لا يمكن مثلاً أن نلتمس العذر للشاعر بالقول إنه كتب رواية أقرب للشعر منها إلى الرواية، لأن التعاقد الذي يتضمنه الكتاب المنشور مع قارئه المحتمل، هو تعاقد على الجنس الأدبي المعلن في الغلاف بغض النظر عن الأرصدة التي يملكها المؤلف في أجناس أخرى.

مع ذلك، أحس بنوع من الافتعال في هذا الاهتمام بالانتقال من جنس أدبي إلى جنس آخر، لأنني أتصور الكتابة حقلا مفتوحاً يجري فيه تلاقح مستمر بين مختلف التعبيرات الفنية والأدبية. وتأسيساً على ذلك، هناك تصادم مستمر بين الشعر والتشكيل والسينما والرواية والقصة، بطريقة تجعلنا أحياناً نعثر على أجمل الشعر بعيداً عن القصيدة، في صفحات رواية أو في رؤية فلسفية، أو في لوحة أو في لقطة سينمائية، لذلك فما يهمني في هذا الانتقال بين الأجناس الأدبية ليس هو التنوع أو التعدد في حد ذاته، بل الحرية التي تسمح لي بالبحث المستمر عن إمكانات (أو استحالات ) جديدة في الكتابة، وفي ما يخصني شخصياً فإن هاجسي الأساسي في هذا البحث يظل شعرياً.

 

بوابة إفريقيا الإخبارية:  تعد واحدا من أكثر القامات الشعرية والسردية تتبعا لجديد الكتابة في العالم العربي والمغاربي خاصة. هناك سؤال يتحاشى الكثيرون طرحه: لماذا غاب الهم المغاربي في كتابات أدباء المغرب العربي، بمعنى لماذا لم يشكل الاتحاد المغربي هاجسا إبداعيا لهؤلاء؟

محمد الأشعري: لا أظن أن الهم المغاربي غائب بهذا الإطلاق ، فقضايا التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية لما بعد الاستقلال موجودة في الرواية المغاربية ، وقضايا اللغة والهوية والذاكرة أيضاً موجودة، بشكل يجعل الخصائص المشتركة لهذه الرواية تميزها بشكل واضح عن الرواية المشرقية، ولكن المجال الجغرافي شيء آخر، نحن نعيش في دول يجمعها كيان افتراضي لا وجود له على أرض الواقع، فالمغرب العربي موجود فقط في الخيال السياسي وفي أحلام الجيل الأول من الوطنيين، أما في الواقع فهو مجموعة من الدول تعيش خلافات مستعصية، ولا يستطيع الناس أن يتنقلوا عبر حدودها المغلقة، ومن الصعب في هذه الحالة أن نطلب من الرواية أن تكون مغاربية  بالمعنى الجغرافي للكلمة، انظر إلى أوروبا ، بالرغم من كل التقدم السياسي الذي حصل في بناء الاتحاد الأوروبي، فإن لألمانيا روايتها، ولفرنسا روايتها، ولكل دولة أخرى رواية تنبع من حميمية المؤلف وليس يالضرورة من حميمية الدولة، علماً بأن الافتعال في هذا المجال سيكون وبالا على الفكرة وعلى الأدب في نفس الوقت، فالرواية بما هي بناء تخلق جغرافيتها الخاصة، وبما أن الأمكنة في هذا البناء هي عنصر أساسي في الكتابة فإن الإمساك بروح الأمكنة يقتضي علاقة عميقة مع تفاصيلها ومع تحولاتها الظاهرة والخفية، وعموماً  ما يهمني  في الرواية  هو العمل الفردي الذي يقوم به الكاتب فيخلق به وشائج إنسانية بلا حدود ، ومن المؤكد أن التجربة الخاصة للكاتب والحميمية التي تربطه مع أمكنته وشخصياته وآلامه هي التي تعطي للنص هوية أوسع من الكيان السياسي

 

بوابة إفريقيا الإخبارية:  كيف يساهم في رأيك المثقف المغربي والجزائري بشكل فعال في وأد مخلفات السياسة التي فرضت واقعا غريبا بين  دولتين متجاورتين وملتحمتين في التاريخ والجغرافيا والآفاق مثل المغرب والجزائر، واقع غطى السياسي فيه عن حقيقة هذا التواصل الرائع بين الشعبين والنخبتين في البلدين؟

محمد الأشعري: المثقفون لهم دور أساسي في تحضير الرأي العام لقرارات جريئة تهم المستقبل، والبداية هي إذكاء نقاش عمومي حول قضايانا الأساسية وحول خلافاتنا، نقاش لا يعيد إنتاج  الخطاب السياسي بقناعاته العمياء ولا الجدل الإعلامي المستعمل للاستعداء، وللمتاجرة بالباب المسدود، والمقصود بالنقاش العمومي هو البحث عن مخرج معقول وغير مهين لأي طرف من الأطراف، ولكن بإدراك واع بأن المناخ الذي أشعل فتيل هذا الخلاف قد انتهى، ولا يمكن أن نجد الحل  بالرجوع إلى تلك المرحلة، فاليوم لا يمكن لأي عاقل أن ينادي بإنشاء كيانات سياسية جديدة في منطقتنا بدعوى الحق المقدس في تقرير المصير، ولا يمكن لأي عاقل أن ينادي بتذويب كامل لشخصية إقليمية ثقافية ولغوية ومجالية  وتاريخية في وحدة وطنية مغلقة، وإذن، فلا مناص من البحث عن حل واقعي غير تعجيزي ضمن رؤية سياسية تتوجه نحو المستقبل وتفتح أمام الأجيال الجديدة باب الأمل في كيان أوسع وأكثر قوة من الكيانات الوطنية الضيقة، وإضافة إلى ذلك فإن وجود بؤرة توتر في منطقة تعرف ما تعرفه اليوم من توترات مقيمة وعابرة هي مقامرة بأمن المنطقة واستقرارها، والحال أن المغرب الكبير أو بالأحرى شمال  إفريقيا لا يمكن أن ينهض كمجال حيوي إلا إذا استقر ضمن رؤية سياسية واقتصادية تجعل منه منتجاً للتقدم ومحاورا ذا قوة ومصداقية لأروبا. نعم يمكن للمثقفين أن يعيدوا الرأي العام إلى نقاش حقيقي حول الخلاف الجزائري المغربي وحول قضايا الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، حول حقوق النساء والمساواة بين النساء والرجال، حول قضايا الثقافة واللغة والإبداع الفني والأدبي. صمت المثقفين يسمح لكثير من السياسيين بالاستمرار في نوع من الصمم الذي يفصلهم عن العالم، إنهم لا يرون مثلاً أن الحدود المغلقة بين البلدين تشبه إلى حد بعيد جدارا لا يمت إلى العصر بصلة، ولا يرون أن كل يوم إضافي في هذا الخلاف المفتعل هو إهدار مجنون لمقدرات بلدين بهما مئات اللآلاف من الخريجين العاطلين وآلاف الشباب يرمون أنفسهم إلى البحر بحثاً عن فرص العيش الكريم... إذا استطاع المثقفون في البلدين أن يكونوا جبهة ضد هذا العمى السياسي من المؤكد أنهم سيحركون هذه البركة الآسنة.

 

بوابة إفريقيا الإخبارية:  كمثقف أولا وكرجل يملك رؤيا سياسية ومستقبلية واضحة، ما مستقبل منطقتنا المغاربية مع حصار الموت الذي يفرضه علينا الوضع الليبي وهشاشة الواقع الأمني في دول مجاورة سيما دولة المالي الصديقة؟

محمد الأشعري: كمواطن أولاً أشعر بالقلق الذي يشعر به كل المواطنين إزاء وضع غير مستقر وقابل  للتعقد بطريقة دراماتيكية، في كل من ليبيا ومالي مخاطر تفتيت للوحدة الوطنية وإنشاء كيانات قبلية أو عشائرية تعيد المنطقة قروناً إلى الوراء، ومخاطر تصدير العنف والفوضى إلى كل ربوع المجال الإقليمي، ومخاطر تشكيل مزرعة خصبة للإرهاب والتطرف، لا أحد يمكنه أن يبتكر حلولاً سحرية لأوضاع بهذه الخطورة ولكن يبدو لي أن المراهنة فقط على التدخل الدولي أو على اليد القوية للمستعمر القديم لن تخرج المنطقة من الدوامة التي سقطت فيها ، لذلك أتصور أن إيقاف بقعة الزيت في حدودها الحالية يقتضي بناء محور قوي في المنطقة يتمتع بالاستقرار السياسي وبالمقدرة الاقتصادية، وهذا المحور توجد عناصره الأساسية في دول المغرب العربي ( تونس- الجزائر المغرب- موريتانيا) التي عليها أن تدرك دورها الإقليمي إزاء الأوضاع الحالية، ومسؤوليتها في ضمان الأمن والاستقرار لشعوبها.

 

بوابة إفريقيا الإخبارية:  ألا تعتقد أن الاكتفاء بالكتابة من دون الانخراط في صنع القرار السياسي في بلداننا، هو نوع من الحياد السلبي للمثقف المغاربي؟.

محمد الأشعري: مع إيماني العميق بأن الكتابة أكثر رحابة من الفعل السياسي وأقدر على تجسيد مفهوم الحرية والإبداع، إلا أنني أومن بدور المثقف واعتبره صوتاً لضمير الأمة، مؤتمناً إلى حد ما على استمرار جذوة النضال من أجل ترسيخ قيم الحرية والعدالة في المجتمع. دور الكتابة هو إنتاج قيم جمالية وإنسانية تصالح الإنسان مع نفسه ومع الآخرين، لكن دور المثقف يمتد إلى الجوانب العملية التي تمس بناء الدولة والمجتمع، لذلك فإن حضوره في قلب العمل السياسي مسألة في غاية الحيوية لما يتضمنه من حضور مستمر للنقد والتساؤل والبحث عن الحقيقة وهي أشياء إذا غابت عن العمل السياسي أصبح مجرد احتراف مصلحي ربما أدى غلوه إلى تقويض أسس الديموقراطية.

 

بوابة إفريقيا الإخبارية:  كلمة أخيرة

محمد الأشعري: قبل بضع سنوات، قامت والدة صديق لي تسكن في المنطقة الحدودية مع الجزائر، وهي في مرحلة متقدمة من العمر بالتسلل ليلا إلى قرية  توجد في التراب الدولة الشقيقة من أجل زيارة ابنتها، وشاءت الأقدار أن تغادر إلى دار البقاء أثناء هذه الزيارة. فجأة وجدت هذه العائلة التي لا توجد في مخها حدود بين المغرب والجزائر، نفسها أمام أسئلة لا يستطيع حلها سوى خيال صديقنا كافكا، كيف ندفن سيدة بلا أوراق، أو كيف نتسلل بها ليلا إلى التراب المغربي، وإذا لم نستطع كيف نقيم في بيتها جنازة بلا جثمان، أو كيف نحضر جنازة في الجانب الآخر من الجدار وكيف وكيف وكيف؟؟؟ أسئلة أضعها على "الحدود" بين الكتابة والسياسة بين الممكن والمستحيل.

---- 

محمد الأشعري في سطور:

 

سياسي وشاعر وروائي مغربي، اشتغل بالصحافة والمجال السياسي الذي قاده إلى مسؤوليات نيابية وحكومية، منها تولي منصب وزير الثقافة. نشر ديوانه الشعري الأول سنة 1978، له عشرة دواوين ومجموعة قصصية ورواية واحدة، "القوس والفراشة"، الحاصلة على جائزة البوكر العربية.

 

تلقى دراسته الابتدائية والثانوية بزرهون ومكناس ثم بكلية الحقوق بالرباط وتخرج فيها عام 1975. يدير مجلة آفاق ويشتغل صحفياً بجريدة الاتحاد الاشتراكي بالمغرب. تحمل مسؤولية اتحاد كتاب المغرب منذ 1989.

 

عينه الحسن الثاني وزيرا للشؤون الثقافية في مارس 1998 قبل أن يعينه الملك محمد السادس وزيرا للثقافة والاتصال.

 

في أواخر سنة 2012، وبعد انتخاب إدريس لشكر كاتبا أول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، صرح محمد الأشعري أنه "غسل يديه على الاتحاد الاشتراكي" وأن الحزب لم يعد موجودا، ولا يمكن لي أخلاقيا ولا سياسيا أن استمر فيه، وحمل الأشعري مسؤولية أزمة الحزب إلى الكاتب الأول السابق عبد الواحد الراضي. وصرح الأشعري أن مشاركته في حكومة جطو كان خطأً، وبرر مشاركته فيها بأنه لم يكن يملك القرار ليعارض أن يصبح وزيرا، ولم تكن لديه الشجاعة الكافية حتى يرفض وزارة الثقافة.

 

من دواوينه:[3] صهيل الخيل الجريحة 1978.، عينات بسعة الحلم 1981.، يومية النار والسفر 1983.، سيرة المطر 1988.، مائيات، 1994.

 

أما في الرواية والقصة: يوم صعب/مجموعة قصصية/ 1992. القوس والفراشة، رواية، 2010التي تقاسمت ورواية "طوق الحمام" للسعودية رجاء عالم جائزة البوكر العربية للرواية لعام 2011. وهذه هي المرة الأولى منذ إطلاق البوكر عام 2008 التي تفوز فيها كاتبة بالجائزة، والمرة الأولى التي يفوز بها أحد كتاب المغرب، كما أنها أول مرة يتقاسم فيها الجائزة التي تبلغ قيمتها 50 ألف دولار، والمفارقة أن الروايتين صادرتان عن دار واحدة هي المركز الثقافي العربي