تحدثت صحيفة المغرب التونسية واسعة الانتشار في تونس عن صعوبات في تسديد رواتب الموظفين التونسيين للشهور القادمة بسبب ازمة مالية حادة تعيشها البلاد وكتب زياد كريشان رئيس تحرير الصحيفة في مقال نشر اليوم ما يلي :

بعد مصارحة رئيس الحكومة المؤقتة المهدي جمعة التونسيين بحقيقة الوضع الاقتصادي والحجم المهول لحاجة تونس للتمويلات لموازنة 2014 لحوالي 13 مليار دينار) تسارعت الأحداث والاتصالات قصد إيجاد الحلول العاجلة

وخاصة التمويلات الناقصة والمقدرة بحدود خمسة مليار دينار... في هذا السياق كانت الرحلة المكوكية للمهدي جمعة إلى دول الخليج... وللأسف لم تكن النتيجة في مستوى انتظارات تونس وخاصة فيما يتعلق بالإسهام في تمويل عجز الميزانية...

عجز غير مسبوق
مسائل الميزانية قد تبدو معقدة بالنسبة للجزء الأكبر من مواطنينا ولكنها في الحقيقة لا تختلف، في جوهرها، عن التصرف في ميزانية عائلة ما...
فالعجز الهام في موازنة الدولة أو العائلة يدفع بهما دفعا إلى عدم الإيفاء بتعهداتهما... بالنسبة للعائلة يتجلى هذا العجز في عدم القدرة على خلاص مصاريف الكراء والإنارة والغاز والأكل والتنقل واللباس والدروس الخصوصية.. أما بالنسبة للدولة فيكون في دفع أجور الموظفين وجرايات المتقاعدين والديون المتخلدة بذمتها ومصاريف صيانة التجهيزات العمومية والاستثمار في التنمية والبنية الأساسية وما يخصص لتغطية مصاريف الدعم إلخ...

في الأسبوع الفارط حصلت بعض التسريبات في جريدة «الشعب» والموقع الالكتروني «ليدرز» تتحدث عن الصعوبات القصوى للحكومة للايفاء بتعهداتها... هذه التخوفات أكدتها لنا مصادر موثوقة وقريبة جدا من مواقع القرار الحكومي: الوضعية الحالية للميزانية تمنع من دفع أجور وجرايات شهر أفريل 2014...

لندقق أكثر المسألة.. الحكومة تسدد ديونها وكذلك مصاريفها الجارية في نهاية كل ثلاثي. وهذه التزامات لافكاك منها وإلا لخسرت تونس مصداقيتها بصفة نهائية... وعندما تسدد تونس هذه الديون والمصاريف فإنه لن يبقى تحت تصرفها السيولة الكافية لخلاص أجور وجرايات شهر أفريل الحالي...

لقد وصلت تونس إلى هذه الحالة وهذا يحصل لها أول مرة في تاريخها الحديث حسبما يؤكده في هذا العدد الخبير الاقتصادي ورئيس اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لحزب نداء تونس محمود بن رمضان...

«دبّر راسك»
عندما تأكدت حكومة المهدي جمعة من جدية هذه الكارثة القادمة طالب رئيس الحكومة بملاقاة رئيس الجمهورية المؤقت ورئيس المجلس التأسيسي، وهذا ما حصل في الأسبوع الفارط، ليحيطهما علما بحجم المخاطر التي تتهدد البلاد... ولكن لا حياة لمن تنادي...

بل اكتفى رئيس الجمهورية ورئيس المجلس التأسيسي بالقول لرئيس الحكومة ما مفاده «دبّر راسك».. مع العلم وأن السيد المهدي جمعة كان مستعدا لإلغاء زيارته لأمريكا لكن أمام عدم اكتراث الرئيسين الآخرين قرر عدم تغيير برنامجه عساه يجد آذانا صاغية في الخارج بعد أن صمّت الآذان في الداخل.

نفس هذه المصادر المطلعة تفيد بأنه بالإمكان إيجاد «حيل فقهية» لخلاص الأجور والجرايات بالنسبة لشهر أفريل وأن خلاص نفس هذه المبالغ لا يمثل إشكالا كبيرا بالنسبة لشهري ماي وجوان ولكن بالنسبة لشهر جويلية ومع حلول موعد سداد الديون والمصاريف الجارية للدولة ستكون الوضعية شبه مستحيلة...

بعبارة أوضح إما أن تتحصل حكومة المهدي جمعة على الأقل على 4 أو 5 مليارات دينار كقروض إضافية أو محاولة اقتصاد هذا المبلغ أو أقل منه بقليل حتى تتمكن الدولة من سداد أجور الموظفين وجرايات التقاعد إلى موفى هذه السنة...

والواضح أن الحلول الداخلية أفضل بكثير من الحلول الخارجية لأن الثانية تزيد في إغراق البلاد في المديونية وتحد من إمكانيات تصرف الحكومات القادمة...

• الترويكا ومسؤولية الانهيار
لا شك أن هنالك من هو مسؤول عن هذا الوضع الكارثي ولا شك كذلك بأن حكومتي النهضة تتحملان المسؤولية الأكبر وإن كان الانزلاق في توازنات الميزانية قد بدأ منذ الأسابيع الأولى للثورة ومع حكومة محمد الغنوشي ثم تواصل مع حكومة الباجي قائد السبسي لكن الكارثة العظمى جاءت مع حكومة حمادي الجبالي ومع ميزانيته التكميلية وتطبيقه المتحزب لقانون العفو التشريعي العام والذي أثقل بدرجة لا مثيل لها التوازنات الأساسية للمالية العمومية... قد يعتقد بعضهم أنّ السبب الأصلي هو في التصور الغنائمي لحكومتي النهضة.. هذا صحيح ولا شك ولكن السبب الأكبر يعود إلى غياب ثقافة الدولة وإلى الجهل المدقع بأبجديات التسيير المالي.

خلال السنتين الأخيرتين تشبه تونس المركبة الفضائية التي أعطيت قيادتها لطاقم لا علم له مطلقا بما تعنيه أزرارها فراح يضغط تارة على هذا وتارة على ذاك في حالة المنتشي والمتوهم انه يتحكم في هذه المركبة إلى أن انهارت به...

وفي الحقيقة لولا هذا الانهيار الذي اتضحت معالمه لكل ذي نظر منذ جويلية 2013 عندما تبينت أجهزة الدولة ذاتها أنه ينقصها خمسة مليار دينار لاستكمال موازنة 2013 وخاصة لولا إدراك علي العريض أن دفع أجور الموظفين أصبح في خطر منذ شهر نوفمبر 2013 لما غادر القصبة بعد أن كان من أشد المتمسكين بالكرسي بتعلة شرعية حكمه...

سوف نترك للمؤرخين التحديد الدقيق لمسؤولية كل طرف، لكن ما يهمنا اليوم هو إنقاذ البلاد من الانهيار لأنه لو كُتب لنا وعجزت الدولة عن دفع أجور الموظفين وجرايات المتقاعدين فيمكننا أن نقول وداعا لتونس ولمسارها الانتقالي... فلا أحد يمكنه ان يتصور ماذا سيحدث في الساعات الأولى التي يدرك فيها حوالي أربعة ملايين عائلة أنه لا مورد لها هذا الشهر... الثابت أن البلاد ستنهار على الجميع حكاما ومحكومين وشغالين وأرباب عمل والعاطلين عن العمل، الفاقدين لكل أمل...

كيف نجنّب بلادنا هذه الكارثة العظمى؟
أولا أن نتجنب حالة الخوف والفزع التي يمكن أن تعم في البلاد نظرا لكثرة الإشاعات ولغياب الوضوح الضروري... لا بد أن يقتنع التونسيون أن هذه الوضعية صعبة للغاية وأن قادتهم السياسيين والاجتماعيين قادرون، باتحادهم، على تجاوزها...

لنتفق على الأولويات وعلى الحلول العاجلة الإنقاذية وهذا لن يكون إلا بتضحيات جسام من كل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين بداية من أرباب العمل فالمهن الحرة فكبار الموظفين والشغالين أصحاب الرواتب المرتفعة نسبيا...

الحلّ واضح وهو يكمن في توفير حوالي خمسة مليار دينار إما كمداخيل إضافية أو كاقتصاد في نفقات مبرمجة ولإعطاء صورة أدق نقول بأن كل تونسي (من الذي ولد هذه اللحظة إلى أكبر مسنّ ومن المعدم إلى الفقير إلى الغني) مطالب بخمسة مائة دينار...

أما لو أدركنا بأن ثمانية أعشار من التونسيين غير قادرين على دفع هذا المبلغ أو حتى دونه بكثير فهذا يعني بالنسبة للبقية حوالي 2500 د للشخص الواحد !! وهذا كله فقط لكي لا تنخرم الموازنات العامة للدولة...

المسألة، كما ترون، جدية إلى أقصى درجة والبلاد مدعوة إلى قرارات فورية ومؤلمة في نفس الوقت وإلا لانهارت سفينة تونس التائهة...

ما هي المسؤولية الملقاة على الحكومة المؤقتة؟ هي بكل وضوح مواصلة قيام المرفق العام بمهامه أي خلاص الأجور والجرايات وتعهد المنشآت العمومية بالصيانة أي ما يسميه الاقتصاديون بميزانية التصرف... في المقابل عليها أن تراجع كل الاستثمارات العمومية فتؤجل منها ما ليس بحيوي وكذلك التفكير الجدي في رفع تدريجي للدعم على الفئات المحظوظة وإيجاد أنجع السبل وأيسرها لكي لا يتضرر ضعاف الدخل من رفع الدعم هذا...

أرباب العمل مدعوون قبل غيرهم لإعطاء المثال في التضحية الوطنية سواء كان ذلك عبر مساهمة ملموسة في الاكتتاب الوطني أو في القبول بضرائب إضافية استثنائية بعنوان سنتي 2014 و2015...

أصحاب المهن الحرة مدعوون هم بدورهم إلى الإسهام القوي في هذا الجهد الوطني وكذلك أصحاب الرواتب المرتفعة (أي أكثر من ألف دينار شهريا) في القطاعين الخاص والعام مقابل كل هذا لا بد أن يلتزم الاتحاد العام التونسي للشغل بإقناع كل منظوريه بضرورة تأجيل كل مطالبهم على شرعيتها سنة أو سنتين وبالاكتفاء بمراجعة الأجور المتدنية فقط (أي ما دون 600 دينار شهريا مثلا).

لقد كنّا دعونا حتى قبل تشكيل حكومة السيد المهدي جمعة إلى قرار ذي بعد رمزي قوي وهو التخفيض بـ %20 من أجور أعضاء الحكومة ومراجعة الامتيازات العينية لكبار موظفي الدولة...
هذا القرار ضروري اليوم أكثر من أي وقت مضى لييسر حزمة القرارات التي اقترحنا بعضها..

أيا كان الحال والأمر فتونس مدعوة إلى إيجاد الحلول الإنقاذية والوفاقية العاجلة لتجنب الكارثة دون ارتهان المستقبل بالاقتراض الخارجي المشط.
وهي مدعوة أيضا إلى الإعلان، وبسرعة، عن حزمة القرارات التي تكون قد حظيت مسبقا بوفاق وبدعم من أهم الأطراف السياسية والاجتماعية...
ينبغي أن يدرك الجميع أن المطلوب اليوم ليس إنقاذ حكومة المهدي جمعة أو تصفية الحساب مع الترويكا... المطلوب اليوم هو إنقاذ تونس فسفينتها تغرق... تغرق...