ولدت مجموعة لمشاهب الفنية في مغرب الحياة البسيطة في الكاريان سنترال للحي المحمدي معقل ناس الغيوان. لم تكتف لمشاهب بإطارها المغربي في تلك الفترة التي سميت بسنوات الجمر، بل أنصتت لرياح التغيير القادمة من الغرب، فتشبعت بثقافة "الهيبييزم" وأطلّت بعين متوثبة لحركات التحرر في العالم والمد الإشتراكي في ذلك الوقت.
في انطلاقتها الأولى سنة 1972، جمعت لمشاهب الشريف لمراني والأخوين أحمد ومحمد الباهيري وسعيدة بيروك، مع دفع قوي من المحامي بولمان صديق لمراني ومحمد البختي الذي ساهم في تأسيس أهم الفرق الموسيقية المغربية والذي كان مدير أعمال لمشاهب منذ سنوات التأسيس الأولى. استقدم البختي الأخوين باهيري، وسعيدة بيروك من فرقة طيور الغربة التي أصبح اسمها فيما بعد لجواد. اشتغلت هذه التشكيلة لبعض الوقت وسجلت أغنية الخيالة المعروفة أيضا باسم السايق تالف والراكب خايف.
لم تكن أصوات الرباعي قوية بما فيه الكفاية، الأمر الذي دفع بالشريف لمراني للبحث عن صوت فخم. بعد توجيه من البختي مرة أخرى، وجد لمراني ضالته في محمد بطمة القادم من مجموعة تكادة بعد أن كاد ينضم إلى جيل جلالة. معه عرفت لمشاهب إنطلاقة جديدة على مستوى الكتابة الزجلية والأداء الغنائي. اعتمد بطمة لغة بسيطة من وحي البادية التي نشأت فيها عائلته، كما تشبع بثقافة الحي المحمدي الشوارعية والكاريان سنترال. من الأغاني التي كان تأثير البطمة فيها واضحاً أغنية أمانة.
انسحب الأخوان الباهيري ليؤسسا لجواد بدعم من الراحل بوجميع أسطورة ناس الغيوان، وانضم كل من محمد السوسدي والشاذلي من مجموعة الدقة بعد مرورهما بفرقة أهل الجودة. تزوج محمد بطمة من سعيدة بيرك وحملت بطفلها الأول، مما اضطرها لأن تغادر الفرقة، متيحة الفرصة لمحمد لحمادي القادم من فرقة نواس الحمراء. من الأغاني التي كانت وليدة تلك الفترة المتخمة بالتغييرات أغنية حب الرمان التي ألفها مبارك الشاذلي سنة 1974 واعتبرت لاحقاً بمثابة الانطلاقة الرسمية للمجموعة.
زامن ميلاد الفرقة النجاح الهائل الذي حقتته ناس الغيوان بأغان على ألحان التراث الزجلي المغربي تمردت على نمط الغناء التقليدي الذي يعتمد على المغني الواحد. زاد ذلك من إصرار لمراني على خلق موسيقى مختلفة عن تلك الذي أسست له ناس الغيوان، الأمر الذي ساهمت فيه نشأة مولاي الشريف المراني الجزائرية، إذ غذا الفرقة بطابع لحني مختلف. فهو أصيل وهران، حيث عمل والده في جوقة وأشبعه موسيقات لم توجد في البيئة المغربية مثل الغرناطي الجزائري، وعرفه على آلات مثل المندولين الجزائرية بشكلها الكلاسيكي.
لم تكن المندولين معروفة في ذلك الوقت، وكان استخدامها في لمشاهب بمثابة ثورة على التقاليد المغربية، خاصة وأن ناس الغيوان استعملت آلات موسيقية من وحي التراث مثل السنتير والبندير. لم يكتف الشريف لمراني بذلك فقط بل طور المندولين وأضاف إليها وتراً تاسعاً وغيّر من شكلها المعتاد لكي تتوافق مع الصوت الذي يبحث عنه. بذلك، أسس لمراني لمدرسة جديدة للآلة، تعلمها الكثيرون من بعده واستلهموا منها.
تمتد إضافة لمشاهب إلى المشهد الموسيقي المغربي أيضاً عبر الحضور النسوي، المتمثل في ضمها لسعيدة بيروك القادمة من فرقة طيور الغربة، لتخلّص الأغنية المغربية من التخمة الذكورية التي طغت على مشهدها خلال تلك الفترة. يعود الفضل ههنا إلى الأخوان باهيري اللذان غادرا الفرقة مبكرا، إذ كان لهما اكتشاف صوت سعيدة بيروك، وضمت فرقتهم لجواد فيما بعد صوتا نسائيا آخر هو حليمة الملاخ القادمة من فرقة أهل الجودة، وسكينة صفدي أيضا، كما أسسا سنة 1986 فرقة نسائية أطلقا عليها اسم بنات الغيوان.
على مستوى الكتابة، ألّفت أزجالها وأغانيها دون الاعتماد المباشر على التراث كما فعل ناس الغيوان وجيل جلالة. في هذا الصدد، يقول الشريف لمراني: "لن أبالغ إذا قلت إننا نحن، لمشاهب، الوحيدون من دون جميع المجموعات الذين اعتمدنا على مجهودنا الذاتي و لم نلجأ إلى التراث سواء من ناحية الكلام أو على مستوى الألحان."
لم يكن غريباً أن تتأثر لمشاهب بالهيبيز وأصوات موسيقى العالم وأن تسعى لخلق موسيقى جديدة ومختلفة، فتلك الفترة عرفت أيضا تجارب جريئة في تأثرها بالمنجز اللحني الغربي مثل جيمس براون المغرب أو فضول الذي بقي منسيا ولم ينل حصته من النجاح. عبده العماري أيضا كان من العلامات الشاهدة على مغرب منفتح على أصوات موسيقى العالم، فقدم شيئا مختلفا عن السائد ذلك الوقت عبر مزج ألوان من الجاز والموسيقى الإلكترونية مع لون شرقي واضح. خلافا لفضول وعبده العماري، تفردت لمشاهب في أنها عرفت كيف تكون بين التراث الغنائي المغربي والموسيقى الغربية، فلم تسقط في فخ الإنسلاخ والتقليد الأعمى ولم تكرر نفسها من خلال التعامل مع التراث دون نفس تجديدي، بل نجحت في خلق موسيقى عصرية، وتقاسمت نفس الهموم مع ناس الغيوان في الإشارة إلى مغرب مضطرب وعالم ممزق بالحروب.
غنت لمشاهب لانتمائها الإفريقي مثلها فعلت ناس الغيوان ف إفريقيا الدم السايل. كانت القارة تعيش في ذلك الوقت على وقع صرخات التمرد التي أعلنها توماس سنكارا، ضد الاستعمار الذي أغرق إفريقيا في نزاعات دموية طويلة
كما غنت لمشاهب للقضية الفلسطينية وأكدت على بعدها القومي. كتب أغنية فلسطين ولحنها محمد بطمة واستغرق العمل عليها أكثر من سنة لتؤديها الفرقة سنة 1987 خلال مؤتمر الأممية الإشتراكية في موسكو. كتب بطمة أيضاً أغنية صبرا وشاتيلا التي أدتها ناس الغيوان، وكان ذلك اعتراف بفن البطمة، خاصة وأن ناس الغيوان وجدت في العربي شقيق محمد زجالها الأول بعد رحيل المعلم بوجميع الذي كتب أفضل كلماتها. "أشهد على أن أخي محمد أزجل مني" قال العربي عن البطمة، الذي استطاع أن يستخدم التراث الزجلي المغربي ببصمة شعرية خاصة به، ألفها من لغة شعبية بسيطة وتحديث للمواضيع. لُقّب بوحش الشعراء خلال زيارة له إلى الاتحاد السوفياتي عندما ارتجل قصيدة قوية أمام جمع من السوفيات والمغاربة.
تكلمت لمشاهب عن نفس الهموم، و لكنها عبرت عنها بشكل مختلف عن نظيراتها ناس الغيوان وجيل جلالة. فمثلما كان لناس الغيوان أغنية الصينية، ولجيل جلالة أغنية الكلام المرصع، فإن أغنية خليلي تعد قمة نضج لمشاهب، لحنا وزجلا وأداء.
يمكن تقسيم الأغنية إلى مقطعين. في المقطع الأول، يتكلم محمد بطمة على خليلته سعيدة بيروك التي أحبها وصارت زوجته فيما بعد. يحكي أوجاعه من هجرها له: "خليلي، علاش تعاديني، تهجرني وتخليلي رسامي خالية"، مشيرا إلى تلك "الرسام" شو يعني التي خطتها صحبتها وصارت خالية من معناها بعد أن هجرته. الشكل اللحني لهذا المقطع يؤصل لهوية لمشاهب الموسيقية من خلال تفرد لمسة الشريف لمراني الذي يتخم الجملة اللحنية بالعزف على المندولين ولا يسمح بترك مساحات صوتية خالية. عند المرور إلى المقطع الثاني، يرتفع الإيقاع وتشتد وتيرته لخلق انتقال لحني يعكس تقسيم النص المكتوب.
المقطع الثاني مختلف تماماً، إذ يقول في مطلعه: "فكرك جبال عالية تعليماتك راسخة" ليفتح باب التأويل على مصراعيه. ههنا، تختلف المصادر في تحديد هوية المغنى به والمقصود، ولكنها تتفق أغلبها على أن محور الكلمات هو ماوتسي تونغ! فالنص كتب زمن التوهج الأيديولوجي والرايات الحمراء التي علتها المطرقة والمنجل، كما أن الطلاب كانوا يهتفون باسم ماوتسي تونغ كلما أدت لمشاهب لهذه الأغنية. يتكلم طارق بطمة عن أبيه فيقول: "كنت أشعر بأنه كان ثوريا في أفكاره، كما كان مؤمنا بالأفكار الماركسية إلى درجة كبيرة، بحكم ميله الكبير إلى قراءة الكتب الماركسية، إلى جانب اهتمامه بمختلف الكتابات، كما أنه كان مهووسا بالفكر القومي، إلا أن العديد من الرموز خدعوه، كما خدعوا الملايين من العرب."
لربما كتب محمد بطمة عن خليلته سعيدة بيروك يعاتبها لهجرها له و"خليله الفكري" ماوتسي تونغ الذي أثر على وعيه السياسي، استلهاما من التقليد الشعري العربي الذي دأب على استحضار "الخليلين" عند الاستهلال، مثلما تفعل الخنساء في قصائدها وكمل فعل أمرؤ القيس في مطلعه الشهير "قفا نبكِ …". هنا قد نعمد إلى إضافة هالة أسطورية حول الموضوع حين نعرف أن ابنة محمد بطمة اسمها خنساء.
غنت لمشاهب لتراث الصحراء عندما أدت أغنية إقبيل الدحميس بنتي "قد أقبل الغروب يا بنيتي". الدحميس هو الغروب باللهجة الحسانية، والأم هاهنا تتكلم إلى ابنتها و تأمرها بالعود إلى المنزل خوفا من حلول الظلام، وهي أغنية باللهجة الحسانية من التراث الصحراوي بموريتانيا، عرفت لأول مرة من خلال أداء حورية منت النانة وأخواتها مع والدتهم الفنانة الراحلة الدبية منت أسويده بوه، وهي فرقة موريتانية ظهرت خلال السبعينيات. الأغنية وليدة منطقة البيظان التي تمتد على مناطق من الصحراء الغربية وموريتانيا ومالي، وتشير إلى المتكلمين بالحسانية. اختيار لمشاهب لهذه الأغنية يعد ثورياً في طريقة تعامله مع التراث وخاصة الصحراوي منه، نظرا للإشكاليات التاريخية التي علقت بالذاكرة الصحراوية، مغنى وقافية، هوية وانتماء.
يمكن للمستمعين أن يحللوا كما يشاؤا وأن يعبثوا برمزيات الأغاني وأن يعيدوا تشكيلها كعرائس الطين. حصل ذلك مع أغنية داويني سنة 1947، حيث التبس الأمر على الجميع حول ما إذا كانت لمشاهب قد غنت النص مع كلمة "وا حيدوه"، أم "أحيدوس" قال محمد البختي إن "أغاني لمشاهب كلها كانت ذات مضمون سياسي محض. فنحن لم نقتبس لا من تراث ولا من عبدالرحمان المجذوب ولا يْديك لا يْخَليك"، كما يشير إلى أن لمشاهب سجلت الأغنية في فرنسا بتضمين واضح لكلمة "وا حيدوه" واضطرت فيما بعد إلى استبدالها. لكن مبارك الشاذلي رد في وقت لاحق على البختي – وفعل مثله كسرا صلاح الدين مدير المجموعة – في مقال نشر بجريدة المساء سنة 2009: "يجب أن نعلم أن الفترة التاريخية التي أطلقت فيها الأغنية كانت مشحونة بالاضطرابات، وهل من المعقول – في نظرك – أن تقول المجموعة: "أحيدوه"؟ هذا غير مقبول، وهنا وجب توضيح نقطة أساسية هي أن مجموعة لمشاهب لم يتم اعتقالها على هذه الأغنية أو على أي أغنية أخرى كما يردد البعض، باستثناء ضغوطات واستنطاقات من لدى السلطات في بعض الأوقات".
في أغنية داويني ينفجر الخطاب السياسي لفرقة لمشاهب مباشراً ودون أقنعة: "ولعفو يا بابا وش الحق يزول، القلوب الكذابة نسونا في المعقول". سواء كانت "واحيدوه" أم "أحيدوس"، فإن الجماهير التي التبس عليها الأمر تلمست الحاجة للبوح بما لم تقدر عليه ربما في ذلك الوقت، لهذا وطّنت كلمة "واحيدوه" نص الأغنية من رغم من دفاع بعض أعضاء لمشاهب والمحيطين بها بأن الأصل هو "أحيدوس"، وهتفت بالأغنية كما تملكتها سواء في الحفلات الطلابية التي كانت تؤثثها لمشاهب أو في محافل أخرى:
تم إهمال الحديث عن موسيقى داويني لصالح الضجة التي أحدثتها ووقعها السياسي، فاختزل شكل الأغنية تقريبا كل الألوان الموسيقية التي تشبعت بها لمشاهب، إذ كان هنالك انتقال من استهلال طويل تظهر فيها تأثيرات البلوز الصحراوي والموسيقى الهندية التي صاحبت الموال لكي تتخلص منه إلى جملة موسيقية مشاهبية بامتياز تظهر فيها تأثيرات المندولين الذي طوره لمراني. يتداول أعضاء الفرقة فيما بعد على الغناء، و تترجم الموسيقى النص المشحون سياسيا عبر المرور إلى إيقاعات إفريقية سريعة تحاكي عزف لمراني الذي يرفع اللحن إلى وتيرة أعلى عند مستوى "وأحيدوس وأحيدوس" في شكل يذكرنا بحلقات التجلي الصوفية عند فن العيطة المغربية. التأثر بالموسيقى الهندية جاء من صاحب الكلمات، محمد السوسدي، أو "إبن الهندية" كما كان يلقب، الذي كان دوماً يردد الأغاني الهندية في صغره.
كان من الصعب أن لا يكتفي مشروع موسيقي ما بما وفرته له السبعينيات من أصوات وإمكانات متاحة للنهل من تراث غني و طويره، حتى يذهب بعيدا ويبحث عن مساحات إستشراف مستقبلية تتجاوز أصوات تلك الحقبة بكل إغراءاتها. مثلت لمشاهب حالة قلق موسيقي واجهت عصرا ملغوما بالتغييرات وثري بالأصوات، وحفزت ذهن المستمع المغربي بمغامراتها المستمرة بالألحان التي أسس لها الشريف لمراني، زرياب التحديث الموسيقي الذي عاشه المغرب. الحفر في طيات الثقافة الشعبية وقلق التحديث والبحث عن الاختلاف، من تلك العجينة ولدت موسيقى لمشاهب التي كتبت بيوغرافيا الجوع وانتصرت للقضية الجمالية: لحن مستقبلي يتكلم بأصوات التراث و تنتقل مواضيعه من الخبز الحافي وهواجس الحي الفقير في الكاريان سنترال بالحي المحمدي، إلى الحالات الوجودية التي تكلمت عن التغريب والعزلة والغياب.
إنها لمشاهب، الباحثة عن الصوت المفقود ورمان البدايات الذي نضج قبل أوانه في الجمر المغربي. لمشاهب التي لم تعبر من الطريق المفتوح تحت الضوء، بل فتحت مسلكا في غابات الصوت المغربي ورسمت الطريق لأصوات قادمة لم تظهر بعد: "بين الكديات كان الميعاد يستنى الليل"