لسنا بصدد تعريف الدولة لغة وإصطلاحاً، فقد إنشغل في هيكليتها ونشأتها وتأسيسها جلّ الفلاسفة والباحثين منذ عصور مضت ولا زال البحث متواصلاً في ظل تطورات أنظمة الحكم وإبداع البشر الذي لا يقف عند حد بعينه، فكما يقال الحركة ولود والسكون عاقر. لقد بدأنا نرتقب تغيرات كبيرة في ملامح خارطة دولية مما يحتم انعكاسات لمفاهيم وأنظمة وحدود ومفهومات قد تم ترسيخها في القرن المنصرم مرتبطة بمنظومة ويستفاليا، وقوميات تم تحديدها وفق خارطة سايس بيكو ومن ثم الارتباط الدولي في منظومة الأمم المتحدة وما يدور في فلكها، لنأتي اليوم الي فضاءات أوسع وأكثر تعقيداً لتدور تحت مسميات أخري كــ"الشرق الأوسط الكبير" رافضة الدولة بتوجهاتها القومية متجهة الي تأسيس الدولة العرقية او الدينية او الإثنية، وأصبحت الأركان الثلاثة للدولة (الشعب والأرض والسلطة) او بإضافة التكوين الرابع (السيادة او الإستقلال)،  تتجه بأشكال مستحدثة وفق أطر ضيقة لتقسيمات قادمة وشاملة.

وبالرغم من أن العامل القومي والديني والمعتقدي كان سبباً لتوحيد واندماج الكثير من الكيانات بشكل فيدرالي خوفا من تفكك الدولة وحرصاً علي الكيان، غير أن التجربة في يوغسلافيا سابقاً وبعض دول الإتحاد السوفيتي اثبت عكس ذلك، كما أصبح البحث اليوم خارج الأطر التكوينية الأخرى (الديانة) للدولة، نظراً لتلاشي وانخفاض منسوب الوازع الديني، ومن ثم أصبحت الأولوية هي البحث عن الغنيمة والثروة والتوسع، اما مفهوم السيادة والإستقلال، فقد تم تدويله – إن وجد في الأصل- فلم يعد أساساً حقيقياً للكثير من الدول بسبب التبعية والسلوكية.

وفي كل حال، فالدولة لا تزال مطابقة تكوينياً لتعريف إبن خلدون كما أشار في مقدمته "حاجة الإنسان الي الاجتماع الإنساني، وهو ما يقتضي هيكل تنظيمي يتجسد بالعمران والدولة.

هل نحتاج لدستور؟  ومن يحمي الدستور ومن يحمينا؟

تسابقت الدول المستقلة نسبياً او تلك تحت التدويل حديثاً والتي يتصف جلها بأنه وليد مظلات مجتمع دولي دأب علي إستباق كل شيء، فمن إستعمار، لتدويل من أجل وضع أسس تجسد مطامحه ومصالحه وثقافته، ومن هذا التوجه، أصبحت  المراهقة الديمقراطية تقترن الي حد كبير في أغلب أحوالها بالمطالبة بدستور سام كشعار دون روح، ومطلب دون مضمون، حيث يسعي هؤلاء علي إستيراد  نماذج جاهزةللإمتياز التجاري  كتلك الموجودة بسلسلة المطاعم "“franchiseلنقل تلك الوثائق الدستورية من حبل سري شاذ عن الواضعة الام، ولنقل ذلك المولود في بيئة غير موطنه وجذوره.

في المقابل، إن عملية صنع الدستور قد تحتاج الي بيئة ثقافية شاملة، لترتقي وصولاً الي الإلتزام الدستوري كمرجعية وثائقية أصيلة وتأسيسية دونما النظر في بدائل لمصالح فردية أو جماعات تنتقي وتفسر وتفصل وجهتها علي حسابات الغير، حيث يذهب الباحث "الشكري" للقول "اذا كان اللهو واللغو سطوة علي بعض مراهقي السياسة فإن للآخرين غايات وأهداف". فالناظر للدولة وفق عمق دستوري يري بأنها لا تتعدي خطين مختلفين وهما، الأول؛ البحث عن الحرية والرغبة في الديمقراطية، والثاني؛ اتخاذها وسيلة ومظلة لإخفاء الإستبداد والتظاهر بتبني مبادئ العدل والمساواة. فكيف لنا أن نحمي أنفسنا؟

من هذا المنطلق، وقبل الشروع في إعادة التكيف، والتطلع لمستقبل متناغم، وفي طور بحث شعوبنا علي ديمقراطية متوافقة ومنسجمة مع البيئة الثقافية لمجتمعات دول الجنوب بصفة عامة، وليبيا بصفة خاصة، تظل الوثيقة السامية دليل المشروعية، ويظل الدستور الجامع أداة رقابية ومقياس الأداء المجتمعي، ولكن توجب علينا إعادة النظر والتفكير مجدداً للكيفية التي يجب ان تتوافق في انتقالنا وترسيخنا لمفهوم الحقوق والحريات والعدالة والتشريعات وغيرها،،، أو ما بات يعرف بالهندسة السياسية، وكيف لنا أن نحمي الدستور في صناعته ومراحل  تأسيسه ومراقبة أدائه؟ وكيف لنا أن نحمي أنفسنا والاجيال اللآحقة من محاولة اختراقه وتبديله او تعطيله؟ فنحن نقف بين حالتين... أنحن من نصنع الدستور ليحمينا، أم أننا نصنع الدستور لنحميه؟

الوثيقة، القاعدة، النظام الأساسي للدولة الليبية

لم نعد نؤمن كثيراً بأن الدستور بأشكاله وتسمياته - مدوناً او غير مدون -، - وسواء تم وضعه بشكل انتخابي تصويتي، أم تم فرضه بإرادة خارجية-، سيكون ضامناً حقيقياً لتحقيق الأهداف المرجوة، ولم نعد نثق (لواقع الحال) بأن كل ما تم التوافق عليه بالعقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم وفق وثيقة سامية قد انجز ما اوكل اليه وحقق توافقاً شاملاً ولم يشهد إخفاقات متتالية وتعريفات مختلفة وتعديلات قد تكون ضرورية بنوايا حسنة او سيئة.  

لا حامياً ولا محمياً

فالدعوة الي الاستفتاء الدستوري دون الدخول في مراحل توافقية، ومصالحة وطنية شاملة، ودون التفاوض بصفة أصيلة علي الاطار والشكل العام للدولة، ومن خلال توجيه الرأي العام لنوع واحد تحديداً من أنواع الحكم وتغييب غيره من المناهج التي قد تكون حل أمثل وأنجع، ودون تحديد ملامح الطريق إجتماعياً واقتصادياٍ، وإفتقار المقترح او المسودة للكثير من أساسيات المراحل والاركان الدستورية، قد تكون في أغلب أحوالها مدعاة للصراع والانقسام والفوضي (تشريعياً وتنفيذيا)، أكثر من كونها محفز وأداة للدسترة ودمقرطة الدولة وتعميق مفهوم ومبادئ الحريات والحقوق الإنسانية والمواطنة، والناتج هو مسودة دستور غير حامية.

كما أن التسابق الطائش لمحاولة توطين دستور في ظل صراعات سياسية وعسكرية وأمنية، وفي ظل توغل دولي وتنافس اورومتوسطي برعاية كبري وفي ظل هشاشة المؤسسات، وبنية قاعدية مفتتة، لن يحقق أياً من أنواع الاستقرار والانتقال.، والناتج هو مسودة دستور غير محمية.  

علينا أن نعود الي مرتكزات اصيلة بعيداً عن حلول تلفيقية لنضع لبنات بنائية مجتمعية تصوغ التحول الحقيقي  في شكل غير تقليدي ومصنوع ومستورد، ومن ثم توطيد بناء الدولة وترسيخ قواعد المستقبل، فعلي سبيل المثال، لم يكتب البريطانيون دستوراً بل عملوا من خلال منظومته، في الوقت الذي كتب الكثير دساتيرهم بصفة تفصيلية او مقتضبة ليشكل نوعاٍ من الإستبداد والتسيد والسيطرة تحت عنوان الديمقراطية دون مضمون، وصنع امبراطوريات جديدة تحت مسميات ديمقراطية-استبدادية لنرضي بها مجتمعات فوقية دونما النظر فعليا لحاجات الشعوب وإستحقاقاتها وآمالها، ففي أغلب الأحوال، وتأسيساً علي طور مرحلة ليبيا الإنتقالية التحضيرية، فإن استعجال الانتقال وتسريع خطي الإصلاح قد يكون عائقاً للتقدم والإصلاح، وهو ما حدث بالفعل في الكثير من دول افريقيا وتحديداً انغولا عام1991.

العلاج الدستوري ... لأندرو رينولدز

تهدئة الصراعات الاجتماعية والسياسية، وعملية الإنتقال والتحول الي الديمقراطية ساهم في إكتشاف علم التصميم الدستوري، او ما يعرف بفن وعلم صياغة الدستور، فمن مراحل الانتخابات الي توزيع المقاعد الي الحكم الذاتي الي تحقيق الرغبات المتنوعة ومحاولة تناغمها وانسجامها للإنخراط والتقدم، كل تلك الشؤون شكل تحدياً عميقاً بتأثيره سلباً علي الحياة الوطنية لدول تناضل في مراحل إنتقالية طموحة والبدء بإصلاح الأضرار او ما يعرف بالموجة الثالثة منذ منتصف السبعينيات.

ولوضع مخطط شامل وجامع للتصميم الدستوري، فإنه يستوجب وضع الكثير من البرامج وفق محددات وأهمها؛ درجة ضعف وقوة الأحزاب السياسية، وفي الحالة الليبية (القبائل تكون إستحقاقاً واقعياً وأساسياً)، درجة انهيار الدولة وقدرتها في الإستمرار، معدلات العنف، وضع الأقليات او المجموعات الطائفية او القبائلية، أسباب الإنشقاقات والاختلافات بين السجينين او كافة الفرقاء بلحاظ الإختلافات عقيدية او قبلية او اقتصادية او غيرها... وهذا  يقود بالطبع لتحديد مساقات ضرورية ومنها، كيفية إختيار نظام الحكم، وكيفية إختيار الحاكم، ومن سيشكل السلطة التنفيذية، وماهي أدوار السلطات التشريعية، وكيف يتم إختيارها وتوزيع مقاعدها، بالإضافة لتحديد مساهمات الأقليات، وماهية الدور القضائي والإصلاحات المرجوة بكافة أشكالها وأهمها الإصلاحات الاقتصادية والتعليمية والصحية والتأمينية، كما توجب قياس وتوظيف مؤسسات المجتمع المدني وهو ما قد يساعد في تحسين العلاقات بين المجموعات، وهو ما يؤيد بأن الدستور في صناعته يمر بمراحل تأسيسية سياسية وإقتصادية وإجتماعية وثقافية وعلمية وواقعية، كما يشمل جمع بيانات وتوظيفها لتٌكون قاعدة عريضة أساسية لثقافة مجتمعية أفقية ورأسية.   

يصف الباحث "لاندرو" شكل التصميم الدستوري ومقارنته بالعلوم الطبية، فعمل الطبيب أو الخبير يظهران عدداً من أوجه التشابه، وهو ما يعزز مقارنة التصميم الدستوري بالتشخيص والعلاج. الأمر الذي ينتج إقتراحات بالإمكان إختبارها للوصول الي عمل منهجي علمي، وأهم ما يمكن تجنبه دائماً هو سؤ التشخيص، وعلاج الطوارئ مقابل فترة النزاهة، والإنتظام المؤسسي، وحدود العلاج، والتسويق المباشر.

ومن هذا المنطلق يبدأ التشخيص وتحدد الحالة ويستقيم البيان ويتقدم البحث  لإيجاد افضل الحلول التصميمية الدستورية. غير أن ما ينجح في بلد ما سيفشل علي الأرجح في بلد ثان، ولذا نقل التجارب كما هي سيعمل علي تأزيم الأوضاع وعرقلة الحلول وبهذا توجب علي المعالجين والمصممين الدستوريين وضع العقاقير الملائمة لكل حالة علي حدي، برغم من أهمية التعرف علي نتائج وأبحاث وتجارب بلدان أخري.

وختاماً،

لكل عمل بداية ونهاية، ولكل جهد آدمي قصور، فلا يوجد إطلاقاً مستند او وثيقة وضعية لا تحتاج لتطوير وتعديل، وذلك لمعالجة القصور ومواكبة التغيير وملاحقة المستحدث والطارئ. فالدساتير صنعت لمعالجة الواقع بنصوص محددة قانوناً وقابلة للتطبيق، مضمونها تنظيم السلطات والعلاقة فيما بينها، وتحقيق الآمال والطموحات الشعبية، غير أن الدستور لا يكون عاملاً حقيقياً دون ايمان الشعب به وإنخراطه في الدفاع عنه والإحتكام اليه فهو ثقافة متأصلة، وهو الفارق الكبير والشاسع بين الدساتير البرامجية خالية المضمون ومؤيدة للحاكم واستمرار السلطة في شكل سلسلة برامج إصلاحية غير قابلة للتطبيق لأسباب عديدة، عن تلك الدساتير الواقعية التي تعمق مفهوم الإستقرار وضمان الحريات والحقوق وتحقيق الأهداف.

تحياتي وتقديري

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة