مصطفى حفيظ

شاركت مؤخرا في ورشة للترجمة الأدبية بتونس، بحكم أن الترجمة شغفي الثاني بعد الكتابة الصحفية، لكن ما شدّ انتباهي هو اهتمام الهيئة المنظّمة لهذه الورشة، وهي جمعية فرنسية تُعنى بترقية الترجمة الأدبية، بتشجيع ترجمة الأعمال الأدبية من العربية إلى الفرنسية أو العكس عن طريق ورشات لتكوين المترجمين، وما شدّني وحزّ في نفسي في نفس الوقت، هو قول ممثلة هذه الجمعية بأن الأعمال باللغة العربية بالكاد مُترجمة إلى الفرنسية عكس اللغات الأخرى، وفي الحال، فهمت بأنّ أحوال الترجمة عندنا في العالم العربي (مشرقا ومغربا) ليست بخير، ورحت ابحث عن احصائيات في هذا المجال لأرى الفرق بيننا وبين بقية العالم، فوجدتُ أن اسبانيا وحدها تترجم أكثر من ستة آلاف عنوان سنويا، ثم تليها فرنسا وبقية البلدان الأوروبية الأخرى، بينما نحن، خارج التصنيف، لماذا؟

كيف يفهمنا الآخر الذي لا يتكلم لغتنا؟ إنّ هذا السؤال يستلزم جوابا واحدا وهو: ماذا علينا أن نفعل كي يفهمنا الآخر؟ ففي النهاية تتمازج الثقافات وتستضيف بعضها البعض من خلال الترجمة، أليس هذا هو الهدف من الترجمة، أن يقرأك الآخر بلغته، أي أنّ مهمتنا نحن "المتكلمون بالعربية" هي أن نقوم بنقل معارفنا، أفكارنا، أدبنا نثرا وشعرا، رواية وقصة، فلسفة وفكرا، أو كل ما ننتجه من دراسات وأبحاث علمية وابداع، كل ذلك ننقله إلى لغة الآخر، لكن من هو الآخر؟ إنّه الغربي الأوروبي، الأنجلوساكسوني، الأمريكي، اللاتيني، الهندي، الصيني، الياباني، الروسي، أو حتى ذلك الذي يتكلم بلغات افريقيا، والنقل إلى لغة الآخر المختلف عنا لسانا لا يتأتى إلاّ لمترجم، ومهمة هذا الأخير هي ترجمة انتاجنا الفكري والأدبي إلى تلك اللغات، أو على الأقل إلى اللغات الأكثر تداولا في العالم كالإنجليزية، الفرنسية الألمانية، الإسبانية، الروسية، الصينية، اليابانية، ...الخ، وهي ليست بالعملية السهلة وليست بالصعبة إنّ تبنت الدول والحكومات سياسة جادة للنهوض بالترجمة من وإلى العربية، أو العكس، ففي النهاية يريد السياسي الحاكم رؤية صورته في مرآة الآخر، ولا يكون له ذلك إلاّ بترجمة ما تنتجه بلاده من مُنتجٍ فكري وأدبي وعلمي، ومواكبة ما يُنتجه الآخر أيضا، كما أنّ مهمة المترجم عندنا هي نقل ثقافات وأفكار وابداع وعلوم الآخر إلينا بلغاته العديدة، لكن اليوم وبعد عشرين سنة على دخولنا الألفية الثالثة، لا يبدو أننا نواكب العالم ذو الحركية السريعة في الإنتاج الفكري والعلمي والأدبي، أو حتى نُدلي بدلونا فيها، فأين نحن من بقية العالم فيما يتعلق بالترجمة؟

يجب التذكير بأنّ التاريخ سجّل فترة ذهبية من عمر الحضارة العربية الإسلامية، وهي فترة الخلافة العباّسية (بدأت عام 750م وانتهت عام 1285)، وبالضبط في عهدة الخليفة المأمون ابن هارون الرشيد، ففي تلك الفترة ازدهرت حركة الترجمة بشكل لافت لدرجة أصبح "بيت الحكمة" أكبر مركز للترجمة والعلم والمعرفة، وتطالعنا الدراسات التاريخية بأنه كان معهدا للترجمة ومركزا للبحث العلمي، واحتوى على مكتبة بها آلاف الكتب التي تمت ترجمتها من اللغات اليونانية، اللاتينية والفارسية، ...إلخ، إلى العربية، وكتب أخرى تمّ تأليفها في مجالات شتّى من هندسة وعلم الفلك والطب والدين والأدب، إلى جانب ذلك، كانت يد المأمون سخية لدرجة أنّه كان ينفق المال الكثير في سبيل جلب الكتب وترجمتها، وبفضله وصلت إلينا كتب الفلسفة اليونانية وعلومها من طب وهندسة وفلك ورياضيات ...الخ، وعلوم الهند والفرس، وبرغم تراجع أعمال الترجمة بعد وفاة المأمون، إلاّ أنّ صيت "بيت الحكمة" ظلّ ذائعا عبر التاريخ، لكن لا ينبغي أن نبكي على الأطلال ونبقى حبيسي الماضي الذهبي لحضارة اندثرت، فالواجب هو النظر إلى حالنا اليوم، لماذا نحن، كبلدان عربية (مشرق ومغرب) في ذيل الترتيب فيما يتعلق بالترجمة، بينما في زمن مضى كانت حركة الترجمة أهمّ من تسليح الجيوش؟

تشير الاحصائيات إلى أن بلدا أوروبيا واحدا وهو اسبانيا، يُترجم سنويا أكثر مما ترجمه العرب منذ عصر الخليفة المأمون، والحقيقة أن مجرد المقارنة مع هذا البلد أمرٌ محرج، فحسب يونيسكو، تُترجم اسبانيا في السنة الواحدة قرابة عشرة آلاف كتاب، وهذا يساوي ما تمت ترجمته منذ عصر "بيت الحكمة"، إذن، بالرغم من أنه كان عصرا ذهبيا للعلم والمعرفة وفيه ازدهرت حركة الترجمة، غير أنّه لا يصلح كمعيار للمقارنة مع نحن عليه اليوم، ولنضف مثالا آخرا لتأكيد حجم الهوة التي بيننا وبين الغرب، ودائما المقارنة مع اسبانيا وحدها، ففي إحصائية أخرى نشرت بموقع "ستاتيستا - https://www.statista.com/" بتاريخ 20 سبتمبر/أيلول 2021، فقد بلغ مجمل عدد الكتب التي تُرجمت إلى الاسبانية سنة 2020 ستة آلاف وأربعة مائة (6400) كتاب من الإنجليزية إلى الاسبانية فقط، وهو رقم ضخم مقارنة بما تُرجم من اللغات الأخرى إلى الاسبانية، ثم الفرنسية في المرتبة الثانية، حيث تُرجم 1500 كتاب من الفرنسية إلى الاسبانية في نفس السنة، ثم الألمانية، بينما عدد الكتب المُترجمة من العربية إلى الاسبانية ضئيل جدا، فهل يعني ذلك أن المُترجمون الاسبان لا يجدون ما يُترجموه عن العرب؟ أم أن الأمر راجع لحجم ما نُنتجه فكريا وأدبيا من حيث الجودة والنوعية؟

إنّ ما يجب الوقوف عنده هو هذه الهوّة السحيقة بيننا وبين الغرب، أو حتى في اليابان والصين وروسيا وربما في أمريكا اللاتينية، فالعرب (مجموع الدول العربية كلها) لا يُنتجون ربع ما تُنتجه دولة أوروبية وحدها سنويا فيما تعلق بالترجمة، ناهيك عن الإنتاج الفكري والأدبي في كل دخول أدبي، إنّ لغتنا العربية بالكاد حاضرة عند الآخر، فأعمالنا سواء الفكرية أو العلمية أو الأدبية نادرا ما يتم ترجمتها إلى اللغات العالمية الأخرى، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا لا يُقبِلُ الغرب مثلا على ترجمة ما نُنتجه من أعمال في مجالات عدّة؟ هل يتعمّد ذلك؟ أم أنّ المسألة انتقائية؟ بحيث ينتقي أعمالا أدبية أو فكرية معيّنة؟ أو أن الأمر يتعلق بنا نحن، أي أننا لا نُنتجُ ما يُعجبُ الآخر ويثيره؟ ما هي مشكلتنا؟ هل في كوننا لا ننتجُ أدبا جميلا؟ أو لا نُنتجُ أعمالا فكرية وعلمية ذات مستوى عالمي؟ أم أن العيب ليس فيما نُنتج بل في سياساتنا الثقافية؟

دون سياسة ثقافية واضحة المعالم، لن يتطور بلد ما ولن ينفتح على الآخر، فكيف ببلداننا العربية التي لا تولي الجانب الثقافي والفكري الأهمية التي تليق به، لأنّ انتاجنا في هذا المجال لدليل واضح على غياب رؤية سياسية في مسألة الثقافة والفكر، لأنّه لو نظر السياسي جيّدا للأمر لتغيّرت الأمور، فازدهار الترجمة مثلا منوط بسياسة واضحة من جانب السياسي (السلطة)، ففي الجزائر على سبيل المثال، ليس هناك أي مشروع يتعلق بالترجمة، سواء أكانت أدبية أو فكرية أو علمية، فعلى مستوى وزارة الثقافة، لم يتم تسجيل ولا مشروع في هذا الجانب، وبالكاد توجد مبادرة من دور نشر متخصصة في نشر الكتاب، بينما هناك غياب تام لأي ترجمات، اللهم إلا إن كانت مبادرات فردية لمترجمين أدبيين، على العكس في تونس مثلا، حيث تتوفر على مركز وطني للترجمة أو في المغرب، لكن بالنظر إلى ما يتم انتاجه سنويا في هذا المجال، فليس هناك ما يبعث على التفاؤل، مما يعكس عدم اهتمام سياسي بالترجمة.

إنّ ما تقوم به بعض دول الخليج العربي للنهوض بحركة الترجمة في العالم العربي لأمرٌ يستحق التنويه، أو لنقل يبعث على التفاؤل، فهناك الكثير من المشاريع والهيئات والمؤسسات التي تأسست لذات الغرض، منها مشروع "كلمة" في أبو ظبي، ومشروع "ترجم" في دبي، أو مركز "البابطين" في الكويت، أو في جامعة الملك سعود التي أطلقت في 2008 مشروع "مركز وطني للترجمة"، دون نسيان جهود مصر ولبنان في المجال، وتلك الجوائز الخاصة بالترجمة والتي ظهرت في السنوات الأخيرة في الخليج خاصة، وهي تشجّع بنحو ما المترجمين على التنافس لتقديم أفضل الأعمال في الترجمة، لعل ذلك ينهض فعلا بالترجمة في الوطن العربي، لكن لا يجب أن يقتصر الأمر على نقل المعارف والعلوم والآداب من لغات الآخر إلينا، بل يجب علينا القيام بعملية عكسية، وهي نقل انتاجنا الفكري والعلمي والأدبي برغم قلّته إلى لغات العالم.