برهان هلّاك

مضى تاريخ 20 مارس 2022 مسدلا الستار على آجال المشاركة في الاستشارة الوطنية الإلكترونية بتونس. و قد مثلت الاستشارة مرحلة من مراحل خارطة الطريق التي أقرّها الرئيس التونسي قيس سعيّد كمقدمة للقيام باستفتاء شعبي على الإصلاحات السياسية في 25 جويلية القادم، بعد مضيّ سنة على التدابير الاستثنائية التي اتّخذها بتاريخ 25 جويلية 2021. لقد كانت نسب مشاركة التونسيين في الاستشارة محتشمة نوعا ما، إذ بلغ عدد المشاركين في هذا الاستفتاء الإلكتروني حوالي 535 ألف شخص من إجمالي 12 مليون نسمة من التونسيين في داخل البلاد وخارجها. ويأتي ذلك على الرغم من التسهيلات التقنية التي قدمتها السّلطات لتيسير الولوج إلى المنصة الرقمية للاستشارة التي انطلق عملها في منتصف شهر جانفي الماضي، ناهيك عن توفير آليات للمشاركة عبر الرسائل النصية القصيرة التي توفرها شركات الاتصالات بالبلاد.

تتمثل الاستشارة في الإجابة عن أسئلة مختلفة تتمحور حول السياسة والاقتصاد والمسائل الاجتماعية والانتقال الرقمي والصحة والتعليم والثقافة وجودة الحياة. وستُجمع نتائج الاستشارة وتُعالج حسب ما أعلن عنه الرئيس التونسي من قبل خبراء لم يتضح بعد من يعينهم، كما سيتمّ بواسطتها صياغة المحاور الكبرى لمشروع استفتاء مقرّر في شهر جويلية القادم؛ سيهدف هذا الاستفتاء إلى تنقيح الدستور الذي يبدو أن قيس سعيّد يبتغي أن ينصّ على نظام سياسي "رئاسي". وعن ضعف الإقبال على المشاركة فيها، أشار الرئيس قيس سعيد إلى أن ذلك عائد للصعوبات التقنية التي جابهها التونسيون في المشاركة في الاستشارة الشعبية الإلكترونية. وهي صعوبات اعتبر أن بعضها ناجم عن جملة من التحديات التكنولوجية التي يجب تذليلها. كما أشار إلى وجود عقبات أخرى تم وضعهما بتعمّد من قبل من يريدون " تكميم الأفواه وإجهاض هذه التجربة الأولى من نوعها في تونس".

ومهما يكن من أمر الاستشارة والحيثيات المصاحبة لإجرائها، فإنها تعكس واقعا سياسيا معينا تبعا لدلالات واستتباعات المشاركة المواطنية الضعيفة التي تميزت بها. تطرح نتائج المشاركة في الاستشارة الإلكترونية جملة من المعاني الكاشفة المهمة التي تتصل بمواقع القوى السياسية المختلفة في المشهد السياسي التونسي.

أما من ناحية السلطة، فإنّ الإقرار، ولو كان مخفيا بين السطور في أغلب الأحيان، بضعف المشاركة في الاستشارة قد يعكس إدراك المجتمع التونسي المحتمل بقصور المنهجيات التي أقرها الرئيس والتي يستند المسار التصحيحي برمته. قد تبدو هذه التدابير في حاجة ملحة إلى إعادة الهيكلة إذ أن اعتراف السلطات بضعف المشاركة يمثّل تواضعا ضمنياً من قبلها بمحدودية هذا الإجراء. وفي الحقيقة يمكن فهم دعوة الحكومة إلى ما اعتبرته تعويض الاستشارة الإلكترونية بالحوار بين مختلف مكونات المشهد السياسي التونسي كدعم لهذا الطرح، باعتبار أن ذلك يمكن أن يقلص من حدة التوتر والتصعيد مع بعض القوى السياسية التي تراجع تأييدها للتدابير الحكومية في الآونة الأخيرة.

كما يكشف ضعف المشاركة في الاستشارة الوطنية الإلكترونية عن  تواصل مفاجئ لمدى تأثير أحزاب المعارضة على الواقع السياسي التونسي، بعد أن ظن جل المتابعين اندثار أي فاعلية للقوى السياسية وموتا للسياسة، على الأقل بالشكل المعهود من قبل، في تونس؛ من المعلوم على سبيل المثال أن حركة النهضة الإسلامية و "حراك مواطنون ضد الإنقلاب" قد حشّدوا لإثناء التونسيين عن المشاركة في هذه الاستشارة، بل كانوا قد دعوهم إلى تجاهلها. ويلاحظ الصحفي "كرم سعيد" أن هذه الأحزاب والحركات تمكنت من تكوين ما يمكن تسميته بـ”التحالف اللحظي” بعدما تسببت قرارات 25 جويلية الماضي في تراجع تأثيرها. كما يقول أنها كشفت عن الاختلالات الهيكلية التي تعاني منها، وألقت الضوء على السلبيات التي نتجت عن مشاركة بعضها في إدارة شئون الدولة، وبالأخص "حركة النهضة”.

ويمثّل قرار مجلس النواب التونسي المجمدة أعماله عقد جلسة عامة يوم الأربعاء الموافق 30 مارس 2022 لإلغاء التدابير الاستثنائية التي أعلنها الرئيس قيس سعيّد في 25 جويلية الماضي  دليلا آخرا على تنامي واشتداد المعارضة التي تواجهها مخرجات هذه التدابير الاستثنائية وخطوات الرئيس قيس سعيد في إطار خارطة الطريق التي كان قد وضعها؛ وقد تم التطرق خلال اجتماع لمكتب البرلمان كان قد ترأسه رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، إلى طلب مقدم من قبل 30 نائبا لعقد جلستين عامتين؛ الأولى فستكون مخصصة لإلغاء العمل بالتدابير الاستثنائية، أما الثانية فستكون في أفريل المقبل للنظر في الأوضاع المالية والاقتصادية للبلاد. يُعتبر تحدي نواب وكتل مجلس نواب الشعب التونسي المجمد تصعيدا غير مسبوق قد يفتح مواجهة مباشرة بين الرئيس والبرلمان.

ويمكن أن نستشف كذلك من ضعف الإقبال على المشاركة في الاستشارة الوطنية الإلكترونية ضعف تجاوب التونسيين مع التكنولوجيات الحديثة؛ تشير نسبة المشاركة في الاستشارة الإلكترونية إلى تواضع فاعلية الحوارات الإلكترونية في ما يتعلق بمسارات الإصلاح السياسي. كما يبدو أن جزءً من القواعد الانتخابية غير قادر أو لا يحبّذ استعمال الوسائط الإلكترونية في التعبير عن آرائه السياسية. وبرهنت آلية الاستشارة الإلكترونية عن عدم فاعلية في ما يخصّ فسح المجال  أمام شرائح مختلفة للتعبير عن آرائها، من قبيل الطلبة وأصحاب الشهادات العليا من العاطلين عن العمل الذين بدت اهتماماتهم منصبة أكثر على تحسين أوضاعهم المعيشية والاقتصادية؛ يقول الباحث التونسي حمزة المؤدب أن التونسيين منشغلون بتفاقم الصعوبات الاقتصادية وبارتفاع الأسعار والبطالة ومديونية الدولة. وقد أشار في تصريح لقناة فرانس 24 أنه " من الواضح أن هناك غيابا للاهتمام بهذه الاستشارة، حيث لم يُدْرَس توقيتها جيدا". حسب رأيه، كانت الاستشارة لتنجح لو تم إطلاقها مباشرة بعد  قرارات 25 جويلية الفارط، والتي علق العديد من التونسيين آمالا عليها لوضع حدٍّ للانهيار الذي تشهده البلاد.

تبقى كل تلك الفرضيات مطروحة إزاء اضطرابات شديدة يعرفها الوضع السياسي بتونس اليوم، وفي ظلّ استمرار الانقسامات السياسية الحادّة التي تظل عنوانا أبرز للمشهد السياسي التونسي على الأمد المنظور على الأقلّ.

وأما في ما يتعلق بمآل نتائج الاستشارة، فيبقى التساؤل مطروحا عن الكيفية والخارطة الزمنية لاستغلال هذه النتائج؛ لقد أعلن الرئيس ساعة انطلاق الاستشارة عن لجنة من المفترض أنها ستتولى العمل على  التأليف بين المقترحات الواردة بالاستشارة. كما أنّها من المفترض أن تقدّم خلاصة للإصلاحات بناءً على الاستفتاء الذي سوف يُقَامُ يوم 25 جويلية 2022. ولكن إلى حد الآن، لم يتم حتى تشكيل هذه اللجنة أو الإعلان عن بعض أو جلّ أعضائها.