وة الدول والمجتمعات المعاصرة لم تعد تعكس - فقط - ثقلها العسكري وحجم احتياطيها من الذهب أو عدد الأصفار التي تلحق بأرقام أرصدتها في البنوك العالمية أو إرتفاع الأبراج في عواصمها ..هناك أيضا ما يسميه مفكرو السياسة في واشنطن " القوة الناعمة" التي ترمز لثقافة المجتمع ومستوى نظامه التعليمي ونمط سلوكه ومجموع قيمه وتقاليده التي تعمل كعنصر جذب للشعوب الأخرى لتشكيل قاعدة مشتركة للتحالف وتبادل المنافع كما يؤمل هؤلاء الذين يعتقدون أن نقطة تفوق بلاد العم سام الحقيقية ليست في كونها البلاد الأضخم إقتصادا والأكثر عددا بل في كون نموذجها الثقافي هو الأنجح على مر التاريخ ..
التعويل على القوة الناعمة فيه الكثير من الحصافة والحكمة لولا أنه يوظف أمريكيا في سياق تعزيز حالة الهيمنة التي تفرضها نخب واشنطن على العالم.. والمجتمعات المتخلفة والضعيفة أجدر بإعتناقه والعمل بمقتضاه طالما أنها غير قادرة على الدفاع عن وجودها ومصالحها بالوسائل التقليدية ، في عالم اليوم نماذج كثيرة يمكن الإستشهاد بها في تأكيد مدى تأثير القوة الناعمة على نجاح الدول وتقدمها " ماليزيا ، كوريا ، تايوان، سنغافور ، وأثيوبيا القادمة من وراء هضبة الحبشة " كلها دول نهضت و تنهض على قاعدة التعليم الحديث ومعظمها لاتتوفر على أية موارد طبيعية كالتي تتوفر عليها دول أخرى متخلفة إقتصاديا وعلميا من بينها ليبيا ..
وليبيا (الدولة والمجتمع) حققت خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي مستويات عالية في نشر التعليم أفقيا وعموديا في كامل أطراف الجغرافيا الوطنية الشاسعة وحاربت  الأمية التي كانت تشمل أكثر من تسعين بالمئة من عدد السكان  ، وإرتفعت بنوعية التعليم بشهادة منظمات دولية وإقليمية و قياسا بما هو شائع في المنطقة حتى عدت على رأس قائمة الدول العربية والأفريقية التي قضت على آفة الجهل ، دون أن يحدث ذلك للأسف أي تغيير يذكر في عمق البنية الثقافية والفكرية للفرد والمجتمع ككل ، وهذه ملاحظة إنطباعية يمكن أن يسجلها أي مواطن عاش قسطا  من التجربة الليبية ، كما تؤكدها الأحداث والصراعات البدائية التي تفجرت بعد ماسمي بزلزال فبراير ..
وبغض النظر عن الأثر الجذري للنهضة التعليمية التي شهدتها العقود الاربعة الماضية في بلادنا ، وهو أثر لايمكن توقع حدوثه في الحين واللحظة  ، فإن الإنتكاسة الكمية التي أصابت البنية التعليمية بعد إنفلات مارد العبث والفوضى من قمقمه في العام 2011 م إستجابة لداعي الثورة والتغيير كما صممته دوائر التخطيط الإستراتيجي في بلاد ما وراء بحر الظلمات ، قد أفرزت إحصاءات وأرقام محبطة جديدة تؤشر بلا لبس أو غموض إلى إحتمال عودة الأمية إلى ليبيا خلال سنوات قادمة أو على الأقل هذا ماتشي به تقارير المنظمات الدولية المهتمة ، التي ترصد آثار الصراعات والحروب الأهلية وإنعكاسها على كافة فئات المجتمع وخصوصا الأطفال ..
ففي تقرير لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة صدر العامين الماضيين تظهر مؤشرات قاتمة لأوضاع التعليم في بلادنا  حيث حذر المكتب من أن نحو 279 ألف طفل في سن الدراسة معرضون للحرمان من الحصول على التعليم بسبب النزاعات العسكرية في ليبيا الغارقة في الأزمات الأمنية والسياسية. وأكد التقرير أن البيانات الصادرة عن قطاع التربية و التعليم في ليبيا ترسم صورة مثيرة للقلق بشأن إمكانية الحصول على التعليم.. وأوضح التقرير أن 558 مدرسة في مناطق متفرقة من ليبيا باتت تصنف على أنها معطلة عن العمل نتيجة الأضرار الجزئية أو الكلية التي لحقت بها جراء الصراعات العسكرية السابقة والحالية..
إن هذه التحذيرات التي يقدمها التقرير المذكور وغيره من التقارير  ينذر بكارثة هي من وجهة نظري أشد وطأة من كل الكوارث والمصائب التي جلبتها علينا فوضى فبراير منذ انطلاقها ، فكل الخسائر المادية وغيرها بما فيها الخسائر السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية مهما بلغت قيمتها وأهميتها يمكن تعويضها واستدراكها بطريقة أو أخرى ، لكن خسارة أجيال بأكملها وتسليمها لقمة سائغة لغول الأمية التعليمية يعني ببساطة العودة بليبيا إلى نقطة الصفر لتحتل موقعها القديم في ذيل قائمة دول العالم الثالث ..
النفط يمكن إستبداله بمصدر آخر ..المطارات يمكن تعويضها أو حتى الإستغناء عنها ..الدولة والسيادة يمكن النضال واستعادتهما..الأموال المجمدة ليس من المستحيل إدخار غيرها بل أضعافها ..ليبيا نفسها ضاعت أكثر من مرة طوال القرون و أستعادها نضال الأجداد والآباء..لكن إذا عادت الأمية فسيعود معها أخطر أعداء ليبيا المرض والفقر والجهل والإستعمار وبيوت شارع سيدي عمران والكندي ..
إذا عادت الأمية بعد أن دحرناها .. فلن تعود ليبيا لنا..

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة