حرص «التونسيون القدامى» منذ عصور ما قبل ميلاد المسيح على ربط الصلات مع شعوب قارتهم المترامية التي منحوها إسم بلدهم القديم (إفريقية). فبنوا علاقات تجارية متينة بعد أن أدركوا مبكراوقبل غيرهم، أن الجغرافيا تأبى غير الإصرار على أن القارة السمراء هي عمقهم الإستراتيجي الذي وجب عدم إهماله ومنحه الأولوية في تخطيط برامج التنمية.

وتُحدثنا كتب الإغريق القديمة ومنها آثار هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسية الشهيرة – باعتبارها المراجع المتوفرة بعد أن أحرق الرومان قرطاج ومحوا آثارها بما في ذلك إبداعات مفكريها – عن رحلة ملكنا القرطاجي (حنون) إلى أدغال قارتنا الفسيحة بعد أن أبحر مما يسمى اليوم خليج تونس في القرن الخامس قبل الميلاد. لقد مر حنون، أو هانون كما يسمى في الغرب، بالسواحل الأطلسية المغربية أين أسس مستعمرات ومراكز تجارية بالجملة، ووصل إلى منطقة أكد علماء التاريخ وفقا لتحقيقات وبحوث أجريت أنها سواحل الكاميرون، بعد أن مر بخليج غينيا وساحل العاج وغيرها من مناطق غرب إفريقيا حاملا معه الذهب والمعادن النفيسة وثروات أخرى تعج بها قارتنا العذراء، مؤسسا الموانئ والمستعمرات أينما حل ركبه، فاتحا الآفاق أمام تجار قرطاج ومغامريها ليؤسسوا لحقبة جديدة من تاريخ الإمبراطورية التي ملأت في عصرها الدنيا وشغلت الناس.

وتواصل إهتمام التونسيين بإفريقيا بعد الفتح الإسلامي لبلاد المغرب، فقد كانت قبائل الطوارق المرتحلة التي تمارس تجارة القوافل، وقبل إنشاء هذه الحدود المصطنعة بين الدول، همزة الوصل بين شعوب إفريقيا جنوب الصحراء وشمال القارة، حيث نشَطت (بشد وفتح الشين) هذه القبائل المبادلات التجارية وساهمت في تمتين العلاقات بين جزئي القارة اللذين تفصلهما الصحراء الكبرى. كما كانت هذه القبائل سببا في نشر الدين الإسلامي وكذا المذهب السني المالكي الذي يعتنقه سكان الشمال المغاربيين، وحملت معها الموروث الديني الصوفي إلى الأفارقة جنوب الصحراء ولعبت مدينة تمبكتو (عروس الصحراء) في إقليم أزواد الطارقي الذي ضمه المستعمر الفرنسي إلى مالي دورا بارزا في هذا المجال وأخذت الكثير عن القيروان.

لكن مع مجيء الإستعمار إلى غرب إفريقيا انقلبت المعادلة رأسا على عقب. حيث خط المستعمر حدودا وهمية جديدة لم تراع الإختلافات العرقية - وهو ما يفسر، إلى جانب أسباب أخرى، كثرة الحروب والنزاعات في إفريقيا – ولم تعد قبائل الطوارق قادرة على ممارسة دورها الريادي كهمزة وصل بين شعوب القارة، واعتبر القادمون الجدد الأرض العذراء جنوب الصحراء الكبرى مجالهم الحيوي الذي لا يجب أن تطأه غير أقدام تجارهم وكبار شركاتهم ومستثمريهم.

ونالت تونس استقلالها وساهمت كغيرها من شعوب الشمال الإفريقي في مساعدة حركات التحرر في قارتها وكانت من المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية لكنها لم تستثمر إنجازاتها السياسية كما يجب في المجال الإقتصادي، ولم تستغل علاقاتها مع الزعماء الأفارقة المتحررين من الإستعمار لتبني علاقات تجارية ذات أهمية. وتركت الساحة لغيرها وتوجهت شمالا، إلى القارة العجوز ونسيت أو تناست أنها جزء طبيعي من «الصفيحة الإفريقية» المكونة مع غيرها من الصفائح للكوكب الأزرق، وأن الجغرافيين وعلماء الجيولوجيا لم يذكروا أن أرضنا التصقت يوما بالصفيحة الأوراسية رغم أننا متوسطيون ما في ذلك شك، وتأثيرات المتوسط بادية وجلية علينا.

لم تنشئ دولة الإستقلال، رغم إنجازاتها العديدة التي لا ينكرها إلا الجاحد، للأسف بنية تحتية تساعد التونسيين على الإستثمار في إفريقيا فلا رحلات بحرية سياحية وتجارية ولا خطوط طيران تربطنا ببلدان القارة (باستثناء خطين أو ثلاثة في أقصى الحالات) ولا تشريعات تشجع المستثمرين على الإنتصاب هناك تسبقها زيارات متعددة لسياسيين تتمخض عن اتفاقيات مع هذه البلدان. وحتى جارتنا ليبيا التي تفطنت إلى أهمية إفريقيا مع نظامها السابق لم تنجز شيئا في هذا المجال، فقد كان كلام القذافي مجرد شعارات جوفاء، وهو الذي كان قادرا بما يمتلكه شعبه من ثروات أن يقيم طريقا سيارة تربط شمال القارة بجنوبها، على سبيل المثال، أو شبكة من السكك الحديدية تعمق التجارة البينية لبلدان القارة تنفع ليبيا كما محيطها الإقليمي.

فالقارة جد غنية، وأسالت، ومازالت تسيل، لعاب كبار القوم، على غرار المستعمرين القدامى (فرنسا، بريطانيا، بلجيكا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، هولندا) و»الوافدين الجدد» (الولايات المتحدة والصين). وحتى اللبنانيون والإيرانيون متواجدون شأنهم شأن الأتراك هناك. كما أن الكيان الصهيوني بصدد التغلغل في دول حوض النيل وكذا في إفريقيا الغربية. أما عرب شمال القارة فيغطون، وإن بدرجات، في سبات عميق رغم أنهم قادرون على تسويق منتوجهم في قطاع النسيج والصناعات الغذائية وغيرها، وما تم إنجازه من مشاريع من قبل بعضهم في هذا المجال محدود وضعيف مقارنة بحجم ما ينجزه الآخرون في القارة.

ولعل ما أعلنت عنه مؤخرا رئيسة الإتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية بمناسبة الذكرى 67 لانبعاث إتحاد الأعراف التونسيين، من أن بلادنا ستعمل على تدارك تجاوز بعض البلدان لنا في السوق الإفريقية من خلال عدة إجراءات، هو خطوة في الإتجاه الصحيح وجب أن يتم تدعيمها بأخرى عملية وفعالة. ولعل الأهم هو تبني الدولة رسميا لخطة استراتيجية،طويلة المدى وتنفذ على مراحل، تؤسس لشراكة حقيقية وفاعلة مع بلدان قارتنا السمراء، مجالنا الحيوي الطبيعي.

 

*نقلا عن جريدة" المغرب" التونسية