برهان هلّاك

مسألة إقحام اسم قاضية تونسية في قضية أخلاقية واتهامها بالزنا من قبل الرئيس وتداول وثائق على وسائل التواصل الاجتماعي تتحدث عن إجرائها اختبارات طبية لإثبات "عذريتها" تذكّرنا بإحدى فضائح النظام القانوني والعدلي التونسي وأكثر "جرائمه" انتهاكا لحرمة الأجساد والخصوصيات الفيزيولوجية والبيولوجية للبشر؛ بعد حديث قاضية وقع إعفائها من منصبها مؤخرا رفقة 56 قاضي عن القضية التي عوقبت من أجلها، وهي قضية شخصية بحتة، شنّ أنصار الرئيس قيس سعيد حملة شرسة عليها وطالبوا بمحاسبتها. وتروي القاضية المعزولة في تصريح لإذاعة موزاييك اف ام التونسية أنها كانت على علاقة مع عميد في الحرس الوطني التونسي يخوض مسار طلاق مع زوجته التي هرسلت القاضية المذكورة. سنة 2020، مكث العميد المذكور " ثلاثة ساعات" بمنزل القاضية، لتداهم القوات الامنية المنزل ويتم اتهامها بتعطيل مداهمة أمنية و بتدليس تهم و توجه لها تهمة أخلاقية. ولكن الطامة الكبرى تكمن في ما صرّحت به القاضية من أنها قد أُجْبِرَت على الخضوع لفحص "العذرية"، وليتم تسريب نتيجة هذا الفحص إثر ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي!

انعقدت جلسات محاكمة افتراضية على مواقع تواصل اجتماعي من قبيل فيسبوك وتويتر، وتم "سحل" كرامة القاضية المذكورة وعرضها أبشع سحل، وتم التشهير بها والنيل من أخلاقها وحرمة حياتها الشخصية والخاصة. لقد كان ذلك من أبشع المشاهد التي تذكر بمحاكمات النساء ذوات الشعر الأحمر في أوروبا القرون الوسطى بعد اتهامهن بالشعوذة وممارسة الفنون السوداء والانحلال الأخلاقي. وبغض النظر عن مدى سخافة "فحص العذرية" ومدى غرق هذا الاجراء في التخلف والرجعية والشر العظيم الذي يبتغي تتبع تفاصيل البشر في أدق الخبايا الجسمانية والزوايا العضوية الخاصة، فإن حقيقتين اثنتين تتمثلان في اجبار هذه المرأة على الخضوع لفحص العذرية وتسريب نتيجة هذا الفحص لهما دليلان أخران ينضافان إلى مجموع الأدلة التي تبرهن على انهيار الأخلاق المهنية وواجب التحفظ الرسمي في تونس؛ نظريا، من حق كل امرأة التمسك بحرمة جسدها ورفض عرضها على هذه الاختبارات، غير إن إدانة المحكمة قانونيا والمجتمع معنويا للمرأة الممتنعة عن إجراء هذا الفحص واعتبار ذلك قرينة إدانة ودليلا على ارتكابها الزنا لهو كارثة أخلاقية على الممكن الحياتي للمرأة نفسها. بالإضافة إلى ذلك، يفترض أن القانون التونسي يمنع إفشاء السر المهني ويضمن سرية التحقيق ويصون كرامة المرأة ويحميها من التشهير والوصم، فكيف تسربت هذه المحاضر الرسمية إلى مواقع التواصل الاجتماعي إذن؟!

إن الجواب على مثل هذا التساؤل بسيط بشكل مؤلم في الحقيقة، إذ أن للأخلاقوية الجمعية في تونس سطوة تفوق سطوة القانون والتشريعات ذاتها. ويتفاقم حجم الكارثة إذا ما اقترن ذلك بمؤامرة مزعومة من قبل الضحية على الأقل؛ قالت القاضية خيرة بن خليفة إنها تعرضت لمؤامرة دُبرت لها من أجل الإيقاع بها حين داهمت وحدات الأمن منزلها عندما كانت رفقة شخص مريض في وضع عادي دون أي دليل على تجاوز أخلاقي، وأنها "ضحية حملة تشويه انطلقت على مواقع التواصل منذ 25 جويلية 2021 تتزعمها عاتقة شبيل، شقيقة زوجة رئيس الدولة قيس سعيد، بسبب مخالفتها القانون في إحدى القضايا" التي تتولاها القاضية/الضحية المذكورة سلفا.

في الحقيقة، يعتبر ما جرى مع القاضية التونسية المذكورة امتداد لتاريخ ثقيل من العار الإجرائي والقانوني الحقيقي والفعلي، لا المرتبط بالممارسة الجنسية التي لا تستهوي أخلاقوية الغالبية من الناس. إن فحص العذرية محل الحديث في هذا المستوى هو إجراء متخلف وقائم على ميز وعنف رهيبين إذ يربط شرف الانسان بمدى "صونه" لما بين فخذيه، في تجاهل تام لأي مقومات أخلاقية أو نوازع خيّرة وإيثارية يمكن لذلك الشخص أن يتحلى بها. ورغم أن القانون التونسي عدد 58 لسنة 2017 ينصّ على حماية المرأة التونسية من مظاهر العنف والتمييز العنصري والاحتقار أو تسليط الإكراه المادي والمعنوي عليها في تناسق ظاهري مع المعاهدات الدولية التي أبرمتها البلاد التونسية والمتعلقة بحماية المرأة، فإنّ نفس المنظومة القانونية تخوّل للقاضي الجزائي اعتماد جميع وسائل الإثبات بما فيها اللجوء إلى التسخير والتحاليل الطبية والاستعانة بالتكنولوجيا والمعلوماتية في سبيل إثبات عذرية أو "تلف عذرية" امرأة ما؛ قد يجادل البعض بأن ذلك موظّف في سبيل إجراء تحاليل طبية للمتضررة أو الطفل المتضرر في ما يخصّ القضايا الأخلاقية وقضايا الاغتصاب، إلا أن جل ما نعاينه منذ سنوات هو الانحراف بهذا الاجراء نحو غايات قروسطية ظلامية وجد منتهكة لكرامة الإنسان وحرمته الجسدية.

ولا يفوتنا الإشارة إلى فحص أخر غاية في الانتهاك في سياق الحديث عن هذه الفحوصات المتخلّفة، ونعني بذلك "الفحص الشرجي" (فحص المستقيم) سيئ الذكر؛ هذا الفحص المنتهك للخصوصية والمهين، والذي يستند إلى معلومات طبية من القرن 19 لم تعد لها اي مصداقية، يشتمل عادة على إيلاج الأطباء أو غيرهم من العاملين بالمجال الطبي أصابعهم، أو أدوات في بعض الحالات، في فتحة شرج المتهم. ويزعم مسؤولو إنفاذ القانون الذين يُؤمرون بالفحص بأنه يمكن استنتاج ما إذا كان المتهم له سلوك مثلي جنسيا بناء على حالة عضلة الشرج أو شكل فتحتها.

ينتهك هذا الفحص الشرجي القسري اتفاقية مناهضة التعذيب والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب. وكانت لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب قد أكدت على أنّ هذه الفحوصات ليس لها أي مبرر طبي ولا يمكن الموافقة عليها موافقة حرة ومستنيرة من قبل الذين يخضعون لها والذين سيتعرضون للمحاكمة وفق نتائجها. وطالما نوّهت هيومن رايتس ووتش إلى أن إجراء العاملين بالمجال الطبي لهذا الفحص يُعَدُّ انتهاكا وخرقا جسيما للمدونة الأخلاقية الخاصة بضبط ممارسة مهنة الطب.

أثناء القيام بالفحوصات الشرجية، تُسلب الحقوق من الأفراد المعنيين، ويعاني البعض منهم من صدمة نفسية دائمة تستمر آثارها النفسية المستنزفة لفترة طويلة. وإن المعايير التي تعتمد في مثل هذا الفحص لا يمكن أن تكون دليلاً كافياً لإثبات أي اتصال جنسي، إذ غالباً ما تظهر العلامات ذاتها في ظروف أخرى من قبيل إصابة الشخص "المفحوص" ببعض الأمراض التي تسبب بدورها احمراراً أو ارتخاء في العضلة الشرجية. ومن وجهة نظر قانونية، يُمكن رفض الفحص الشرجي الذي يجريه طبيب شرعي. ولكن الواقع أكثر تعقيدا، فكثيرا ما "يقبل" الضحايا بالفحص لأسباب منها الخوف من التعرض للتعذيب، أو لأنهم صغار السن، أو نتاجا لجهلهم بحقوقهم المكفولة في الدستور، والتي تتعارض مع تطبيقات القوانين على أرض الواقع.

التزمت تونس عام 2017 أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بالتخلّي عن فرض إجراء الفحوص الشرجية، وما فتئ مسؤولون ونواب بالغرف البرلمانية المتعاقبة في تونس يندّدون بفحص العذرية. ورغم ذلك، فإنه لا يشفي غليل المنتهكين ومشاريع المنتهكين مستقبلا بواسطة هذه الفحوصات إلا أن يتم إلغاء هذه الفحوصات الإجرامية السالبة لكرامة الإنسان والتي لا توحي إلا بملازمتنا لظلام القرون الوسطى ورجعية تلغي حرية إنسان الحداثة في استعمال جسده كيفما يريد بشرط و حدٍّ واحد يتمثل في عدم إلحاق الأذى بالغير.